دائمًا ما تسعى الحكومات لتوسيع رقعة الطبقة المتوسطة والحفاظ عليها من التآكل في ظل التقلبات الاقتصادية والتحديات المختلفة التي تتعرض لها، إلا أن دولنا العربية لا تُلقي بالًا لتلك الطبقة خاصة عند تبنيها لسياسات اقتصادية واجتماعية قاسية وقت الأزمات.
وفي ظل ما تشهده بلادنا من أزمات اقتصادية بجانب الحروب التي أكلت الأخضر واليابس، تتزايد في وطننا العربي المعاناة التي تزيد من رقعة الفقر على حساب الطبقة المتوسطة التي تستغرق الدول سنوات في تكوينها.
فما تأثير الطبقة الوسطى على اقتصاداتنا؟ وما خطورة انحسارها؟ ولماذا تعمل الدول على الحفاظ عليها وزيادتها؟ وكيف تآكلت تلك الطبقة في أوطاننا العربية؟
أهمية الطبقة الوسطى
تعد الطبقة المتوسطة القابعة بين الطبقة العليا والدنيا، المحرك الأساسي لاقتصادات الدول المختلفة، حيث يسهم أفراد تلك الطبقة في دفع أغلب القطاعات الاقتصادية التي تصب بشكل مباشر في التنمية، لما تقدمه من كوادر حقيقية تتناسب مع احتياجات تلك القطاعات.
يأتي غالبية الاستهلاك المحلي من الطبقة المتوسطة، الأمر الذي يساعد في زيادة حجم الإنتاج المحلي من السلع والخدمات، إذ يقتصر استهلاك الأسر الغنية على المنتجات الفارهة التي تنتج بشكل محدود، بينما يأتي استهلاك الطبقة الفقيرة عند مستويات محدودة.
تدفع متطلبات الاستهلاك عند الطبقة المتوسطة، إلى الحاجة للاقتراض كالقروض العقارية أو القروض الشخصية كغرض شراء سيارة أو بهدف الاستثمار في المشروعات الصغيرة والمتوسطة أو غيرها من الاحتياجات الأخرى، الأمر الذي يسهم في تحفيز القطاع المصرفي.
تستحوذ الطبقة الوسطى على 39.5% من الدخل القومي، ومن المتوقع أن يصل حجم تلك الطبقة بحلول عام 2030 إلى نحو 5.2 مليار نسمة حول العالم
ودائمًا ما تحرص الطبقة الوسطى على تعليم أبنائها، إذ يعد التعليم عنصرًا أساسيًا في كسب العيش لدي تلك الطبقة، فضلًا عن أن تلك الطبقة تلعب دورًا ملحوظًا في زيادة معدلات الادخار، ما يفضي إلى توفير مصادر تمويل كبيرة للاستثمار، بجانب كونها المصب الأكبر للأموال في خانة الضرائب ما يعظم من إيرادات الدولة.
في عام 2020 وحده، بلغ إنفاق الطبقة المتوسطة ما مجموعه 44 تريليون دولار أي 68% من إنفاق المستهلكين في العالم، لذا فإن تنامي حجم الطبقة المتوسطة يلعب دورًا كبيرًا في زيادة الشركات المنتجة ويقلص من البطالة، إذا توافرت البيئة الإنتاجية المناسبة.
ويشير اتساع الطبقة الوسطى وتناميها إلى مدى نجاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية فى تحقيق العدالة وتوزيع الدخل وتنمية المجتمع ككل، إذ يحفز وجودها الحكومات للارتقاء بخدماتها من تعليم وصحة ودعم، وبالتالي رفع مستوى الرفاه المعيشي فيها.
وتستحوذ الطبقة الوسطى التي تبلغ نسبتها 40% من سكان العالم على 39.5% من الدخل القومي، ومن المتوقع أن يصل حجم تلك الطبقة بحلول عام 2030 إلى نحو 5.2 مليار نسمة حول العالم، أي 65% من سكان كوكب الأرض حينها، إذ تنمو هذه الطبقة في العالم بمتوسط 140 مليون شخص سنويًا، وذلك رغم الصدمة التي تعرضت لها خلال جائحة كورونا وفقدت بسببها 90 مليون شخص بحسب بيانات البنك الدولي، ومن المتوقع أيضًا أن يرتكز هذا الاتساع في الطبقة الوسطى بصفة أساسية في دول شرق آسيا ذات العدد الأكبر من السكان والاقتصاد الأقوى بين اقتصادات العالم.
خطورة انحسار الطبقة الوسطى
تكمن مشكلة تآكل الطبقة الوسطى في أن اتجاه أغلب الخارجين منها يسير نحو دائرة الفقر، الأمر الذي يهدد التماسك الاجتماعي ويلقي بظلاله على النمو الاقتصادي ويوقع الدولة في سلسلة من الأزمات الاقتصادية ويزيد من اعتمادها على الخارج في توفير احتياجاتها.
كما يسهم تراجع الطبقة الوسطى في تغير النمط الاستهلاكي والسلوك الشرائي في المأكل والمشرب والملبس ووسائل الانتقال، كاللجوء إلى شراء منتجات بخامات أقل جودة، أو اللجوء إلى أسواق المنتجات المستعملة، الأمر الذي يدفع السوق المحلي للتركيز على إنتاج منتجات ذات جودة أقل، ما قد يشوه الصناعة المحلية.
ينعكس تراجع قدرة الطبقة الوسطى على تعليم أبنائها سلبًا على ما تقدمه تلك الطبقة من موارد بشرية قادرة على الإسهام في عملية التنمية، فضلًا عن انخفاض إنتاجية الأفراد في المجتمعات
ودائمًا ما تلعب الطبقة الوسطى دورًا ملحوظًا في تمويل نفقات الدولة سواء عبر ما تقدمه من ضرائب ورسوم، إذ تعد المصدر الأول لتلك المخصصات، أو عبر ما تقدمة من تمويل للاستثمارات بهدف إقامة المشروعات التنموية والقومية، فضلًا عن المشروعات الخاصة وذلك من خلال مدخراتها، لذا فإن تراجعها يعني ارتفاع عجز الموازنة وتراجع استثمارات الدولة، فضلًا عن تراجع الاستثمارات الخاصة نتيجة تراجع المداخيل بجانب انخفاض المدخرات.
كذلك ينعكس تراجع قدرة الطبقة الوسطى على تعليم أبنائها سلبًا على ما تقدمه تلك الطبقة من موارد بشرية قادرة على الإسهام في عملية التنمية، فضلًا عن انخفاض إنتاجية الأفراد في المجتمعات، وتراجع الوعي بمجالات الحياة المختلفة.
تلعب الطبقة الوسطى دورًا كبيرًا أيضًا في تحمل عبء المسؤولية الاجتماعية تجاه الفقراء وتقديم الدعم اللازم للمؤسسات الخيرية والجمعيات الأهلية فيما تقيمه من مشروعات خيرية وما تقدمه من مساعدات مادية وعينية للطبقات الفقيرة والمعدمة، إلا أن تآكل تلك الطبقة في ظل تراجع قدرتها على تحمل أعباء الحياة وتوفير اللازم من احتياجاتها الأساسية يعيق أبناءها عن الاستمرار في تخفيف وطأة الفقر على أبناء الطبقة الدنيا، ما يزيد من حدة الفقر، ويرفع من معدل الجريمة والطلاق.
الدول العربية وانحسار الطبقة الوسطى
لم تسلم الدول العربية من تراجع الطبقة الوسطى التي تعد الأكثر طموحًا والأوسع تأثيرًا في المجتمع، خاصة في ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي وتسجيل التضخم العالمي مستويات قياسية، ومن قبلهم ثورات الربيع العربي.
يضاف إلى تلك المعطيات اشتعال الحروب في بعض الدول العربية، ما أسهم في سرعة تآكل الطبقة الوسطى أو اختفائها في دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان.
سوريا: الطبقة المتوسطة ليست جزءًا من تركيبة السكان
تأتي سوريا في مقدمة الدول التي خلفت الحرب بها حالة من الدمار الهائل في البنية التحتية للبلاد، إلى جانب هجرة القسم الأعظم من الطبقة البرجوازية الكبيرة، ومعها بعض ما تبقى من الطبقة الوسطى، ليتبقى أغلبية السوريين يعانون من الفقر المدقع، جراء تدهور العملة السورية إلى أدنى مستوى على الإطلاق منذ بدء الحرب، مسجلة 11 ألفًا و557 ليرة سورية للدولار بعد أن كانت عند 47 ليرةً للدولار في 2011، فضلًا عن الزيادة الحادة في أسعار المنتجات الغذائية الأساسية وتقليص كميات السلع المدعومة.
يرجع تدهور العملة السورية إلى توقف مصادر العملة الصعبة، مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والصادرات، بجانب فقدان الثقة في التعامل بالعملة السورية، ولم تتوقف العوامل الدافعة لسقوط الطبقة الوسطى في دمشق عند هذا الحد، إذ صاحب ارتفاع أسعار السلع تراجع في متوسط الرواتب من 400 دولار قبل الحرب إلى نحو 18 دولارًا، وسط تفاقم معدلات التضخم وغياب مقومات الإنتاج الزراعية والصناعية.
وخلال عام 2023 تضاعف متوسط تكاليف المعيشة 3 مرات، بينما لم تعد الأجور قادرة على تغطية إلا 1.5% من التكاليف المعيشية، بحسب دراسة أجرتها جريدة “قاسيون” المحلية.
وتشير أحدث التقديرات الأممية إلى أن عدد السكان في سوريا يبلغ نحو 23.46 مليون نسمة، منهم نحو 7.25 ملايين نسمة تقريبًا يعيشون حالة نزوح داخلي، ونحو مليونين من هؤلاء النازحين يعيشون في مخيمات، لتسفر تلك المعطيات في النهاية عن اختفاء الطبقة المتوسطة في سوريا، ووقوع أكثر من 90% من السكان تحت طائلة خط الفقر، فضلًا عما يزيد على 12 مليون شخص (نحو 50% من السكان) يفتقرون إلى الأمن الغذائي و2.9 مليون معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع.
لبنان: اختفاء ثلث الطبقة المتوسطة
أدى التدهور الاقتصادي الحاد الذي ضرب لبنان بقوة في عام 2019 إلى كارثة غير معهودة، وصفها البنك الدولي بأنها الأكثر سوءًا في التاريخ الحديث، وهي ما أدت إلى تقهقر أكثر من نصف القاطنين في الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا، إذ كشفت شركة الدراسات والأبحاث والإحصاءات العلمية المستقلة “الدولية للمعلومات”، أن الأزمة المالية الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ أواخر عام 2019 غيرت من تركيبة الشعب اللبناني، مشيرة إلى انحدار الطبقة المتوسطة مما نسبته 70% إلى نحو 30 أو 40%.
يعد أبرز المتضررين من اختفاء الطبقة الوسطى موظفي الدولة والقطاع العام، والبالغ عددهم نحو 300 ألف ويشكلون مع أسرهم نحو 30% من إجمالي اللبنانيين، الذي يعتمد أغلبهم على راتبه لتدبير أمور معيشته، أصبح دخله الحقيقي اليوم يوازي في أفضل تقدير 15% مما كان عليه قبل اندلاع الأزمة.
يضاف إلي هؤلاء الذين فقدوا مكانتهم بين أبناء الطبقة المتوسطة، شريحة من المودعين لدى المصارف الذين لا يملكون مصدر دخل إلا هذا المصدر، ويقدر عددهم ما بين 500 ألف ومليون من اللبنانيين، الذين حرموا من تحصيل العائد على ودائعهم، بل باتت أصول أموالهم مهددة والمحظوظون بينهم أصبح بإمكانهم بالكاد سحب مبلغ 400 دولار في الشهر من أصول ودائعهم المحتجزة.
كما لم يسلم صغار التجار وموظفو القطاع الخاص غير المدولر وأصحاب المهن الحرة على اختلاف أنواعها من السقوط في الطبقة الدنيا، وسط إغلاق العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة بجانب بعض المحلات والمتاجر.
تعود تلك المعطيات إلى عدة نقاط في مقدمتها انهيار العملة المحلية إلى مستويات غير مسبوقة، إذ فقدت العملة المحلية نحو 98% من قيمتها، لتتراجع من 1520 ليرة للدولار إلى 89400 ليرة للدولار، ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطن وتآكل مدخراته، فضلًا عن دولرة السلع في المتاجر نتيجة فقدان الثقة في العملة المحلية.
ومع تراجع العملة المحلية وانخفاض النشاط الاقتصادي، ارتفعت أسعار المنتجات والسلع وفي مقدمتهم أسعار المواد الغذائية في البلاد، التي سجلت ارتفاعات فاقت نسبتها الـ 6000% منذ ديسمبر 2019 وحتى عام 2023، بحسب بيانات إدارة الإحصاء المركزي.
يضاف إلى تلك العوامل، ارتفاع حجم الدين وعدم قدرة الحكومة على سداد مديونياتها، بجانب عجزها عن تدبير متطلبات موازنتها نتيجة تراجع الإيرادات بسبب الانكماش الاقتصادي، ما أدى إلى تقليص حجم الموازنة على حساب الاحتياجات الأساسية مثل التعليم والصحة، وتكبيل قدرة الدولة على مساندة الطبقة الوسطى والفقيرة.
إذ أصبحت مخصصات الوزارات الخدمية لا تشكل سوى 40% من مستواها قبل الأزمة عام 2019، ليأتي هذا الانكماش في حجم الموازنة على حساب الإنفاق على الصحة لتصبح عند نصف ما كانت عليه قبل الأزمة، وتبقى موازنة التعليم عند 12% ممّا كانت عليه عام 2019.
وجاءت موازنة 2024 عند 3.3 مليار دولار، أي نحو 20% من حجم موازنة عام 2019 التي بلغت 17 مليار دولار، الأمر الذي يعكس مدى تأثير الانكماش الاقتصادي خلال السنوات الماضية على البلاد.
واتسعت رقعة الفقر على حساب الطبقة الوسطى، فبلغت نسبة من يعانون الفقر المتعدد الأبعاد خلال عام 2021 من إجمالي السكان نحو 82%، بينما بلغت نسبة من يعانون الفقر المدقع متعدد الأبعاد 40%، بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا”.
وأشارت الإسكوا إلى أن الأسر اللبنانية باتت محرومة من الرعاية الصحية، فيما لا يستطيع نحو 52% من السكان الحصول على الدواء، وما يقارب 54% لا يستطيعون الوصول إلى الطاقة الكهربائية، أما عن الفقر المادي في لبنان كشفت الإسكوا أنه بلغ 74%، متخطيًا نسبته السابقة البالغة 55% عام 2020 و29% عام 2019.
مصر: اضمحلال مخيف للطبقة المتوسطة
أيضا في مصر لم تسلم الطبقة المتوسطة من التقلبات الاقتصادية التي شهدتها منذ عام 2016 عقب تعويم الجنيه وارتفاع حجم الدين العام بقيادة الدين الخارجي، واتباع روشتة صندوق النقد الدولي على حساب الطبقات المهمشة، فضلًا عن الاتساع في المشروعات القومية غير المجدية أو التي لا تتناسب مع طبيعة الاقتصاد حاليًا عبر الاتساع في الاقتراض.
ومع تبني الحكومة سياسة الاقتراض المفتوحة من صندوق النقد الدولي في 2016 ارتفع الدين الخارجي للبلاد من 55.8 مليار دولار في عام 2016 إلى 168 مليار دولار خلال عام 2023 أي زيادة بأكثر من 201%.
بينما بلغ حجم الدين الداخلي 6.86 تريليون جنيه (142.7 مليار دولار) مع نهاية العام المالي 2020/2019، مقابل 2.620 تريليون جنيه (54.5 مليار دولار) خلال عام 2016 أي ارتفع بنحو 162%.
وأدت تلك الشهية المفتوحة على الاقتراض إلى تكبيل يد الحكومة عن دعم الطبقة المتوسطة أو الفقيرة في ظل ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الجنيه، رغم تبنيها بعض برامج التكافل الاجتماعي مثل تكافل وكرامة وغيرها، ومع ارتفاع أعباء الدين اتجهت الدولة إلى ما يسمى ترقيع الدين عبر سداد ديون قديمة من خلال قروض جديدة.
وكذلك كان لتراجع قيمة العملة دور كبير في تآكل القدرة الشرائية للمواطن، فضلًا عن تراجع قيمة ثرواته ومدخراته، ما أدى إلى سحب البساط من تحت أبناء الطبقة المتوسطة ليوقعها في براثن الفقر، إذ تقهقر الجنيه المصري من 8.8 جنيه للدولار في 2016 إلى مستويات تجاوز فيها الـ70 جنيهًا للدولار بالسوق السوداء قبل أن يستقر في الوقت الحالي عند 48.1 جنيه للدولار.
وانعكست تلك الاضطرابات في العملة على متوسطات رواتب الموظفين، فتراجع الحد الأدنى للأجور في 2016 مما يوازي حينها بالدولار نحو 160 دولارًا إلى 6000 جنيه في 2024 أي 125 دولارًا، ما يضفي مزيدًا من الضغوط على الطبقة المتوسطة خاصة مع خفض الدولة للدعم السلعي بجانب الدعم على الكهرباء والبنزين وغيره من المتطلبات الأساسية.
ويأتي التضخم كنتيجة منطقية لتراجع قيمة العملة خاصة أن مصر دولة تعتمد على توفير حاجياتها الغذائية عبر الاستيراد، فضلًا عن أن الصناعة المحلية تعتمد على السلع الوسيطة المستوردة من الخارج، كما أن تراجع العملة صاحبه التضخم العالمي، ما أدى إلى اتساع حجم الفقر.
وبحسب بيان في عام 2019 للبنك الدولي فإن نحو 60% من سكان مصر إما فقراء وإما أكثر احتياجًا، مشيرًا إلى أن السياسات الاقتصادية المتبعة من الحكومة انعكست سلبًا على الطبقة الوسطى في ظل ما تواجه من ارتفاع تكاليف المعيشة.
وكانت مؤسسة فيتش سوليوشنز، إحدى مؤسسات مجموعة فيتش للتصنيف الائتماني، قد قدرت أن عدد الأسر التي يزيد دخلها المتاح للاستهلاك على 5 آلاف دولار سنويًا سينخفض بنحو 65% من 34.2% من الأسر في 2022 إلى 12.1% من إجمالي الأسر في 2023، فيما ترى فيتش أن نسبة الأسر ذات الدخل المتاح للاستهلاك أكثر من 10 آلاف دولار تراجعت من 4.5% في عام 2022 إلى 1.6% في عام 2023، ما يشير إلى حجم التضخم المرتفع وارتفاع تكلفة الغذاء.
وتؤكد تقديرات فيتش على أن حجم ما تنفقه الأسر المصرية، مقوم بالدولار، انخفض خلال الفترة الأخيرة، من 337.7 مليار دولار في 2021 إلى 262.3 مليار دولار في 2023، ما يعكس مدى اضمحلال الطبقة المتوسطة.
الأردن: محاولات النجاة من ضغوط الغلاء
اصطدمت الأزمات الاقتصادية المتتابعة بالطبقة الوسطى في الأردن، خاصة في ظل هشاشة الاقتصاد واعتماده على المساعدات الخارجية بشكل مفرط، فضلًا عن التهام واردات الطاقة أكثر من ثلثي الموازنة السنوية، وانعكاس تقلبات الاقتصاد العالمي على الداخل المحلي.
يعاني الأردن أوضاعًا اقتصادية صعبة فاقمتها ديون تناهز 57 مليار دولار، أي ما نسبته 113.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع استمرار إجمالي الدين الحكومي والديون المضمونة في النمو بالتزامن مع الضغوط من قطاعي الكهرباء والمياه.
تتعدد أسباب تآكل الطبقة الوسطى في الأردن، إذ يشكل معدل البطالة نسبة كبيرة عند 22.3%، فضلًا عن تراجع القدرة الشرائية للمواطن خاصة في ظل الأعباء الضريبية المرتفعة التي تتخطى 29%، بجانب ذلك يأتي ارتفاع معدل التضخم، ليزيد من الضغوطات على تلك الطبقة التي تحاول التشبث بما هم عليه من مستوى، إلا أن تلك الصعوبات دفعت الطبقة المتوسطة للعزوف عن بعض احتياجاتها، ما انعكس مباشرة على القطاعات التجارية، لتتجه بعض المتاجر والمشروعات الصغيرة للإغلاق خاصة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض.
في المقابل ارتفعت نسب الفقر في الأردن لتصل إلى نحو 35% في عام 2023 بواقع 3.980 مليون شخص من أصل 11.3 مليون نسمة، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي، وذلك بزيادة تبلغ 11% عما كانت عليه في 2021 وكانت تقدر بـ24%.
وكان البنك الدولي قد خفض تصنيف الأردن في منتصف عام 2023 من دولة متوسطة – مرتفعة الدخل إلى متوسطة – منخفضة الدخل، وبحسب التصنيف فإن الأردن كان البلد الوحيد في العالم الذي شهد تخفيضًا لتصنيفه من متوسط مرتفع إلى متوسط منخفض.
إجراءات لازمة للحفاظ على الطبقة المتوسطة
تأتي في مقدمة المتطلبات اللازمة للحفاظ على الطبقة المتوسطة وجود وعي وفهم حقيقي من الحكومات لأهمية الطبقة المتوسطة، فضلًا عن ضرورة وجود إرادة سياسية حقيقية تعمل لصالح تلك الطبقة وتسعى لزيادتها، واتباع بعض السياسات اللازمة لوقف تآكل أبناء الطبقة الوسطى، وتتمثل في:
1- خفض الأعباء الضريبية على أصحاب الدخل المتوسط، وتقسيم الشرائح الضريبية بشكل يضمن عدالة التوزيع.
2- توفير شبكات الأمان الاجتماعي الشاملة بشكل حقيقي بحيث تكون قادرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية التي يتعرض لها أبناء الطبقة الوسطى في حال اتباع سياسات تقشفية أو اجراءات اقتصادية قاسية، مثل إعانات البطالة، وخطط التقاعد، وبرامج الرعاية الاجتماعية وغيرها من البرامج.
3- دراسة تأثير أي قرار اقتصادي على الطبقة الوسطى قبل الخوض فيه.
4- ضمان الوصول إلى التعليم وبرامج التدريب على المهارات، عبر الاستثمار في نظام التعليم وتوفير الوصول بأسعار معقولة أو مجانية إلى التعليم الجيد، وتوفير التكنولوجيا والأدوات اللازمة لتزويد الأفراد بالمعرفة والمهارات التي تمكنهم من تأمين وظائف جيدة الأجر تشد من عضد الطبقة الوسطى وتسهم في اتساعها.
5- توفير خدمات رعاية صحية يسهل الوصول إليها وبأسعار معقولة، ما يضمن عدم تحميل أصحاب الدخل المتوسط أعباء النفقات الطبية المرتفعة.
6- توفير الدعم والحوافز للشركات الصغيرة وريادة الأعمال، وذلك من خلال تقليل الحواجز التي تحول دون بدء مشروع تجاري وتشغيله، ما يحفز مساعي ريادة الأعمال لدى الطبقة المتوسطة، ويسهم في خلق فرص عمل جديدة، فضلًا عن المساهمة في النمو الاقتصادي.
7- تزويد الأفراد بالمهارات والمعرفة العملية التي تنطبق بشكل مباشر على صناعات أو مهن محدده بهدف تطوير التدريب المهني والتعليم الفني، ما يخلق قوة عاملة متنوعة وقابلة للتكيف تعزز مكانة الطبقة الوسطى.
تبقى الطبقة المتوسطة هي أبرز أدوات الحكومة للحفاظ على معدلات نمو قوية على المدى الطويل ودعم التنمية التي تقوم على العنصر البشري بالأساس، لذا على الحكومات إعطاء الأولية لها، وعدم التجرؤ على مخصصات التعليم والصحة بدعوى التقشف أو وجود أزمات اقتصادية، خاصة أن تلك الطبقة هي القاطرة التي تهدم تلك الأزمات.
كما ينبغي أن تدرك الحكومات أن زيادة إجمالي الإيرادات لا يأتي من خلال فرض مزيد من الضرائب بقدر ما يأتي من خلال دعم الشركات ومنع تعثرها وتشجيع الاستثمار والادخار، فضلًا عن زيادة التوعية بأهمية الصناعة والابتكار.