حظيت المدن الفلسطينية وعلى رأسها مدينة القدس باهتمامٍ بالغ ومثير في الأدب العربيّ بأشكاله المختلفة على مرّ التاريخ، ولا ينحصر ذلك الاهتمام على السنين الأخيرة وما تواجهه المدينة من احتلال غاشم وظروف صعبة، بل يرجع الأمر إلى مئاتٍ من السنين خلت، نظرًا للمكانة التاريخية والإسلامية التي حملتها المدينة دومًا، فجذبت أنظار الأدباء والشعراء والرحّالة.
لذلك كانت المدينة المقدّسة موضع اهتمام للرحّالة ومقصدًا لهم وموئلًا للاستكشاف وطلب العلم والمجاورة، إذ برز نوع من الأدب الإسلامي يدعو ويهتم بزيارة القدس والتعرّف إلى مقدّساتها ومعالمها الإسلامية، ويبحث في فضائلها وفضائل علمائها ويسقط الضوء على سكانها وعاداتهم وتقاليدهم ومظاهر حياتهم المختلفة.
يمكن تصنيف أدب الرحلات العربيّ إلى أنواع عديدة، قد يكون أحدها وفقًا لدافع الرحلات والاستكشافات، فهناك رحلات الحج أو ما كان يُعرف بالرحلات الحجازية، وقد تميّز بها المغاربة والأندلسيون على سائر المسلمين، وتركوا تراثًا غنيًا غاية في الأهمية ودقة الوصف والإفادات الفريدة. وهناك الرحلات الجغرافية التي تختص باكتشاف الأماكن وتسجيل الملاحظات عن أوصافها بما فيها من تضاريس وما يرتبط بها من معالم جغرافية، وقد برع فيه هذا النوع عدد كبير من الرحالة الذين اختصوا بالسفر وجابوا الدول والديار.
وقد اشتهر عددٌ من رحالة بلاد الشام والأندلس والمغرب العربيّ ممّن زاروا القدس وركزوا عليها في أدبهم ومذكّراتهم، منهم أبو بكر بن العربي الذي زارها سنة 485 هـ وابن بطوطة الذي زارها سنة 662 هـ، ولعلّ من أشهرهم أيضًا الشيخ محيي الدين بن عربي.
من أقدم ما ورد عن القدس في أدب الرحلات كان ما كتبه الرحّالة الفارسيّ “ناصر خسرو” في كتابه الذي أُلف وتُرجم للعربية في القرن الرابع للهجرة “زاد المسافر”، واستغرقت رحلته في القدس وبلاد الشام ما يُقارب السبع سنوات، جاب فيها البلاد وتعرّف على العباد.
وقد كتب خسرو واصفًا المدينة: “هي مدينة مشيّدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار، ورساتيقها ذات عيون، وأما المدينة فليس بها عين، فإنها على رأس صخري، وهي مدينة كبيرة كان بها عشرون ألف رجل، وبها أسواق جميلة وأبنية عالية، وكل أرضها مبلّطة بالحجارة، وقد سووا الجهات الجبلية والمرتفعات وجعلوها مسطّحة بحيث تغسل الأرض كلها وتنظّف حين تنزل الأمطار. وفي المدينة صنّاع كثيرون، لكل جماعة منهم سوق خاصة، والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل مستو يسمى “الساهرة”، يقال أنه سيكون ساحة القيامة والحشر، ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد “اللهم عفوك ورحمتك بعبيدك ذلك اليوم يا رب العالمين”.
وعلى حافة هذا السهل قرافة عظيمة، ومقابر كثير من الصالحين يصلي بها الناس ويرفعون بالدعاء أيديهم فيقضي الله حاجاتهم، “اللهم تقبل حاجاتنا واغفر ذنوبنا وسيئاتنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين” وبين الجامع وسهل الساهرة واد عظيم الانخفاض كأنه خندق وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين …”.
أما في وصف المسجد الأقصى فقد كتب خسرو: “وقد بُني المسجد في هذا المكان لوجود الصخرة به، وهي الصخرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يتخذها قبلة، فلما قضى هذا الأمر واتخذها موسى قبلة لم يعمّر كثيرًا بل عجلت به المنيّة، حتى إذا كانت أيام سليمان عليه السلام وكانت الصخرة قبلة، بنى مسجدًا حولها بحيث أصبحت في وسطه، وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان المصلون يولون وجوههم شطرها إلى أن أمرهم الله تعالى أن يولوا وجوههم شطر الكعبة وسيأتي وصف ذلك المكان.”
ويتابع خسرو قائلًا: “وأرض المسجد مغطاة بحجارة موثوقة إلى بعضها بالرصاص، والمسجد شرق المدينة والسوق، فإذا دخل السائر من السوق فإنه يتجه شرقًا فيرى رواقًا عظيمًا جميلًا ارتفاعه ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون، وللرواق جناحان وواجهتاهما وإيوانه منقوشة كلها بالفسيفساء المثبتة بالجص على الصورة التي يريدونها وهي من الدقة بحيث تبهر النظر.”
جلُّ ما كتبه خسرو عن القدس والأقصى ممتع جذاب، يصحبك بجولةٍ عبر التاريخ في المدينة المقدسة، ويسحرك بوصفها في ذلك الزمان، ويشدّك بحديثه عن معالمها الإسلامية والمسيحية وأسواقها وعيون مائها وسكانها وعاداتهم، إلى جانب زيارته لبعض القرى ومدينتي بيت لحم والخليل القريبة جغرافيًّا من القدس، واللتين تحملان أيضًا مكانةً دينية كبيرة لدى المقدسيّين خاصة.
وأما الشريف الإدريسي، العالم المسلم وأحد كبار الجغرافيين في التاريخ ومؤسسي علم الجغرافيا، فقد زار القدس أثناء الاحتلال الصليبي لها وكتب عنها في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، الذي استغرق تأليفه 15 عامًا حيث نهج فيه الإدريسي نهجًا جديدًا عن غيره من الجغرافيين المسلمين، فقد وصف العالم ككل ثم قسمه إلى سبعة أقاليم وكل إقليم إلى عشرة اقسام رئيسيه ثم وصف كل قسم ورسم له خريطة وتحاشى فيه الخلط بين التاريخ والجغرافيا وظل كتابه مرجعًا لعلماء أوروبا أكثر من ثلاثة قرون.
ومن جملة ما قاله الإدريسي في بيت المقدس: “بيت المقدس مدينة جليلة قديمة البناء، وكانت تسمى إيلياء، وهي على جبل يصعد إليها من كل جانب، وهي في ذاتها طويلة وطولها من المغرب إلى المشرق، وفي طرفها الغربي باب المحراب، وهذا الباب عليه قبة داوود عليه السلام، وفي طرفها الشرقي باب يسمى باب الرحمة، وهو مغلق لا يفتح إلا من عيد الزيتون لمثله، ولها من جهة الجنوب باب يسمى باب صهيون، ومن جهة الشمال باب عمود الغراب”.
من جهته، فقد كتب الشاعر الصوفي والمؤلف الشهير والرحالة عبد الغني النابلسي الدمشقي، عن رحلته من دمشق إلى بيت المقدس وما حواليهما ذهابًا وإيابًا عام 1689م، فوصف سور القدس التاريخيّ العتيق قائلًا: “سور بيت المقدس سور جديد متين مشيد قوي الأركان، عظيم البنيان، يحيط بالبلد كلها، وعرها وسهلها مبني بالشيد والحجر المنحوت وفي داخله جميع الأماكن والبيوت، وقد أخبرنا أنه من بناء السلطان الملك المظفر سليمان خان ومن المعروف أن الملك المعظم عيسى بن العادل أخ صلاح الدين أرسل من دمشق كما جاء في أبي الفداء، الحجّارين والنقابين إلى القدس فخرب أسواره وكانت قد حصنت للغاية وذلك على زعمه خوفاً من استيلاء الفرنجة عليها.”.
وأما الرحالة الطنجي ابن بطوطة الملقّب بأمير الرحّالين المسلمين، فقد انطلق يجوب العالم، ومكث في ترحاله أكثر من عشرين سنة زار فيها بيت المقدس واستكشف مساجدها ومعالمها، وكانت له فيها هذه الذكريات التي سجلها في رحلاته، حيث يقول: “سافرت من الخليل إلى القدس، فزرت في طريقي إليه تربة يونس -عليه السلام – وعليها بَنية كبيرة ومسجد، وزرتُ أيضًا بيت لحم، موضع ميلاد عيسى -عليه السلام- وبه أثر جذع النخلة، وعليه عمارة كثيرة، والنصارى يعظمونه أشد التعظيم، ويضيّفون من نزل به.”
ويتابع ابن بطوطة قائلًا: “أما قبة الصخرة فهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلاً، قد توافر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشر في وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضاً، محكم الصنعة، وكذلك داخلها. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التزويق، ورائق الصنعة ما يُعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نوراً، وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقْصر لسان رائيها عن تمثيلها. وفي وسط القبة الصخرة الكريمة، التي جاء ذكرها في الآثار، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير، ارتفاعها نحو قامة أيضاً، ينزل إليها على درج.”
وفي العصر العثماني، تعد الرحلة الأولى التي قام بها مصطفى البكري الصديقي إلى القدس عام 1922 كصوفي خلوتي، من أهم الرحلات التي شهدتها القدس خلال القرن الثامن عشر، فقد قدّم البكري معلومات غنية عن بعض الجوانب بعيدًا عن الجغرافيا والتاريخ، لا سيما الجوانب الاجتماعية وبشكل خاص التصوف، كما رصد بعض العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة.
ومن الجوانب الاجتماعية التي ذكرها الصديقي بعض الأخلاق الطيبة التي امتاز بها سكان المناطق التي زارها، أهمها الترحيب بالغرباء وإكرامهم، فكان لدى وصوله لبعض الأماكن يلقى ترحيباً واحتراماً من قِبَل الأهالي، فعندما وصل إلى مشارف مدينة القدس لاقاه الأهالي مرحبين به وبالركب الشامي. وعندما نزل بمنزل محمد الطوافي وصف العائلة بقوله: “وكانوا يكرموننا غاية الإكرام ويرأفون علينا رأفة الوالدة على طفلها”. ولما وصل إلى قرية بيتونيا، أعجب بكرم أهلها، قال “وأكرمونا غاية الإكرام”. كما حظي بالإكرام والترحيب لدى وصوله قرية بيت اكسا، فقال: “فقابلَنا أهلُها بالإكرام واعتنوا بنا الاعتناء التام”.
إلى جانب ما ورد في الأدب العربيّ من ذكر لبيت المقدس، كانت فلسطين والقدس محط أنظار الرحالة والفنانين الغربيين عبر العصور، خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين، وذلك للوقوف على ما بها من آثار وعمارة ومعالم دينية، الى جانب مواطن الأحداث التي تضمها تلك البلاد المقدسة، فقد زارها الكثير من الرحالة والأدباء وكتبوا عنها، وأخذت حيزًا كبيرًا من رحلاتهم وأشعارهم، بالإضافة إلى عدد كبير من الرسامين والمصوّرين الذي قصدوا البلاد لرسم معالمها وجوانب من حياتها وتصويرها.
ولعلّ رحلة الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس لفلسطين ومذكراته عنها هي الأكثر جدلًا في ذلك الوقت، إذ حمل كتابه اسم “رحلة إلى فلسطين- أخطر وثيقة ضد الصهيونية يكتبها روائي ومفكر عالمي في أوائل هذا القرن”، وهدف فيه كازانتزاكيس الذي أوفدته صحيفة “الغيثروس لوغوس” بين عامي 1926 و 1927، ليسجل مشاهداته في احتفالات عيد الفصح، وقد نشرت هذه المشاهدات في الصحف اليونانية في العام نفسه.
تُعدّ رحلة كازانتزاكيس من أهمّ الرحلات إلى القدس والتي تتحدث عن اليهود في العصر الحديث، خاصة أنها أُنجزت قبل النكبة بفترة وجيزة، إذ حاول الولوج إلى نفسيات اليهود وربط واقعهم في فلسطين بماضيهم في أوروبا لمحاولة استشراف مستقبلهم والتكهن بمآلاتهم.
وكان مما ورد في الكتاب “إن اليهود اكتسبوا فعل الثورة نتيجة تاريخهم الدياسبوري، اضطهاد وظلم وقلق ورعب وقتل ونفي وتشتت. كل ذلك باق راسخٌ في النفسية اليهودية، والشتات هو وطن اليهود لا محالة، فلا جدوى من الهرب من هذا القدر المحتوم والبحث عن أمل وسعادة في فلسطين.”
وقد ختم كازانتزاكيس كتابه قائلًا: “آمل -لأنني أحبّ اليهود- أن يتمكن العرب عاجلًا أم آجلًا من طردكم من هنا، وأنْ يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”.