تحتضن المملكة المغربية عديد الطرق الصوفية، التي أضحت مع الوقت الجزء الأبرز ضمن الأليات التي تحافظ بها المملكة على هويتها الدينية، فضلا عن كونها اليد الطويل للملك ونظامه، التي يسعى من خلالها إلى تثبيت سلطته، ونظام حكمه.
عماد السياسة الدينية للدولة
في السنوات الأخيرة، أصبح التصوف السني من مسلمات الخطاب الديني الرسمي في المغرب وعماد السياسة الدينية وأحد الركائز الأساسية في تعريف الهوية والخصوصية الدينية المغربية إلى جانب المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية. وأدت هجمات 16 مايو 2003 الإرهابية بالدار البيضاء، إلى هذا الصعود اللافت للتصوف الطرائقي بعد وضع خطة إعادة هيكلة الحقل الديني التي اتخذت من التصوف السني أحد معالمها الأساسية في ضمان الأمن الروحي للمملكة، بحكم أنه يعكس طبيعة الإسلام الشعبي الذي يتسم بطابعه الروحي المسالم والبعيد عن التعصب والتشدد.
تم اعتماد التصوّف كمحدد مركزي لإعادة هيكلة الحقل الديني في المملكة، وقد انعكس هذا التوجه الرسمي بشكل كبير على عمل وممارسة الطرق الصوفية وعلى حضور التصوف الطرائقي في المشهد العمومي والإعلامي المغربي عبر توسيع مساحات نشاط واشتغال التصوف، ليشمل الثقافة والفن والموسيقى والبحث الأكاديمي. وكان تعيين أحمد التوفيق (أحد المنتسبين للزاوية البودشيشية)، وزيرا للأوقاف والشئون الإسلامية في المملكة، سنة 2002، رسالة واضحة من قبل السلطات المغربية، بأن الدولة تريد أن تتّخذ من الصوفية دينا رسميا لها.
مثّلت سنة 2004، بداية الاهتمام الجدي من قبل الدولة بهذه الطرق الصوفية، حيث احتضنت المملكة الملتقى العالمي الأول للتصوف بمدينة مراكش
نتيجة هذا التمشي الجديد، وصفت عديد المتابعين، المملكة المغربية بأنها “بلد الأولياء والصالحين”، وقيل في شأنها كذلك: “يَنبُت الصالحون بالمغرب كما تُنبِت الأرضُ الكلأ”، بل لكثرة ما تغصُّ به المملكة المغربية من أضرحة ومزارات صوفية وُصفت بأنها “بلد المائة ألف ولي”.
ومثّلت سنة 2004، بداية الاهتمام الجدي من قبل الدولة بهذه الطرق الصوفية، حيث احتضنت المملكة الملتقى العالمي الأول للتصوف بمدينة مراكش، وخلاله خاطب الملك محمد السادس الحضور من خلال رسالة ملكية، قائلا: “ولا شك أن في تجربتكم الموروثة من أجل تحقيق هذه الأهداف، ما يؤهلكم للعودة إلى الميدان الديني والتربوي والاجتماعي المنزه عن كل توظيف سياسي رخيص أو مغرض متحلين بقيم التصوف الأصيل القائم على الجمع بين الورع والتقوى والاستقامة في السلوك، وبين العمل الخالص المنزه عن الأغراض الذاتية، سيما أن المجتمعات في عصرنا هذا، قد أخذت في إعلاء كل قيم التجرد والتسامح، وفي الأخذ بعدد من مفاهيم الثقافة التي قامت عليها طريقتكم”.
مواجهة باقي التيارات الاسلامية
عمل النظام المغربي على إدماج الصوفية في الحكم بهدف مواجهة ومحاربة الظاهرة الإسلامية، وفي السنوات الأخيرة تقوى الاتجاه الداعي إلى العودة إلى الإسلام “الصوفي” الذي ارتبط بالطرق والزوايا الصوفية التي طبعت تاريخ المغرب الرسمي والشعبي على حد سواء، فمنعطف 16 مايو استوجب البحث عن حليف استراتيجي جديد، هذا الحليف الجديد سيتمثل في الإسلام الصوفي الطرقي.
منذ تلك الفترة، أصبح التصوف عنصرا أساسيا ضمن استراتيجية إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، وهي استراتيجية جديدة، بدأ الاعداد لها عقب اعتداءات 11 سبتمبر 2001، من ضمن أبعادها تفعيل التصوف كمحدد للسلوك، بهدف مواجهة التيار السلفي بصيغته التقليدية والجديدة، حيث اعتبرت السلطات بعد أحداث 16 مايو 2003، أن مصدر الخطر يكمن في الإيديولوجية السلفية الداعية للعنف.
تمثل هذه الطرق عماد استراتيجية مقاومة الإرهاب في المغرب
وتبرز مظاهر الرعاية الرسمية للطرق الصوفية في تسليم الهبات الملكية لبعض الزوايا، وكذلك في تنظيم الندوات العديدة والمهرجانات الفنية ذات الاتجاه الصوفي، فضلاً عن تخصيص برامج إعلامية عديدة في القنوات التلفزيونية لبث شعائر التصوف وسط المغاربة.
ولا شك أن طبيعة التنشئة السياسية التي يتلقاها مريدو الزوايا والطرق الصوفية تكرس بشكل متزايد الثقافة السياسية القائمة على الانكفاء والانشغال بالدين بمفهومه الطقوسي والشعائري بعيدا عن الاهتمام والخوض في أمور الشأن العام، وبالتالي تكريس مزيد من السلبية السياسية التي تؤدي إلى تزايد عدد أعضاء التيار الديني الشعبي الموالي للسلطة السياسية، بالإضافة إلى أنها تشكل أحد الروافد الأساسية لجلب التأييد وإحياء الولاء الديني والروحي لـ “أمير المؤمنين” محمد السادس.
يد الدولة في الداخل
تعد أدوار زوايا الصوفية كثيرة، فمنها الاجتماعي والديني، لكن عبر التاريخ يبقى الدور السياسي للزوايا الصوفية أساسيًا، فهي تسعى لتثبيت سلطة الدولة والنظام الحاكم، وهذا ما يفسر دعم ومساعدات الدولة للزوايا.
النظام عمل على احتواء مشايخ الصوفية على اختلاف طرقهم ومكّنهم من مناصب كبرى في الدولة
مع الوقت تحولت الزوايا الصوفية، إلى أجهزة إدارية تابعة لنظام الحكم في المملكة تخدم مصالحها وتدافع عنها وتبررها أمام الناس وتسهم في تحقيق أهدافها وسياساتها، وتجعل من نفسها أداة ووسيلة للدفاع عنه وتكريس شرعيته.
ولا يرى المنتسبون إلى هذه الزوايا الصوفية، أي تعارض بين معتقداتهم الدينية وولائهم للنظام المغربي وقوانينه، خاصة وأن النظام عمل على احتواء مشايخ الصوفية على اختلاف طرقهم ومكّنهم من مناصب كبرى في الدولة من خلالها يقومون بدور مركزي في مختلف دواليب الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد.
في الخارج أيضًا
ساهمت الزوايا الدينية والطرق الصوفية بالمغرب، بشكل كبير في ترسيخ الارتباط الديني بين المملكة وبلدان القارة الافريقية، وقد ساهم حضورها المحلّي القوي، في انتشارها في عديد الدول الإفريقية لتشكّل بذلك بمعية الطرق والزوايا الصوفية المنتشرة في دول القارة السمراء، لوبي ضاغط لفائدة المغرب في القضايا السياسية الكبرى، لاسيما قضية الصحراء. فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لفائدة الجزائر أو جبهة البوليساريو كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب.
تتمتع الطرق الصوفية المغربية بامتداد كبير في إفريقيا
ففي ديسمبر/كانون الأول 2007، ظهر سوء تفاهم بين المغرب والسنغال، إذ استدعت الرباط سفيرها بدكار إثر تصريحات “سيئة” لعضو من حزب المعارضة في حكومة الرئيس عبد الله واد، جاك بودان، السكرتير الوطني المكلف بالعلاقات الخارجية للحزب الاشتراكي السنغالي ووزير الخارجية في الحكومة السابقة لعبدو ضيوف. وهنا تحركت الآلة التيجانية بقادتها وقواعدها نحو مقر الحزب الاشتراكي السنغالي للاحتجاج وإنهاء التوتر وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها.
وتعمل المغرب على العناية بالطرق والزوايا الصوفية في عديد الدول الإفريقية، التي توحّد ما بين المغرب وعدد من تلك البلدان، من قبيل الزاوية التيجانية الموجودة في المغرب والسنغال ومالي، ضمن سياستها الخارجية التي تعتمد على التصوّف كأحد أعمدتها.
أبرز الطرق الصوفية في المملكة
بدأت المعالم الأولى للطرق الصوفية في المغرب تتشكل في العهد الموحدي ليكتمل هذا التشكل مع أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الذي يعتبر مؤسس أول طريقة صوفية في المغرب جراء التحولات التي طرأت على بنية المجتمع، ومن ذلك التاريخ انتشرت الطرق الصوفية في مختلف مناطق البلاد، ومن أبرزها:
الطريقة القادرية البودشيشية
أبرز هذه الطرق الصوفية في المغرب، نجد الطريقة القادرية البودشيشية، تنتسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي ظهر في القرن الخامس الهجري. أما لقب البودشيشية، فقد اكتسبته بواسطة الشيخ علي بن محمد الذي حمل لقب “سيدي علي بودشيش” لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة بزاويته وجبة الدشيشة المشهورة في المغرب.
الطريقة التيجانية
تنتسب إلى أبي العباس أحمد التيجاني الذي تلقى تعليمه في مدينة فاس المغربية وتوفي سنة 1815، وتعتبر واحدة من أهم الزوايا ذات الصيت العالمي حيث تحظى بنفوذ كبير في بلدان إسلامية كثيرة، و وصل نفوذها إلى بلاد السودان جنوب الصحراء ولها امتداد قوي في شمال أفريقيا من المغرب إلى السنغال حتى مصر، وأتباع هذه الطريقة يسمون بالتيجانيين.
الطريقة العيساوية
أسسها محمد بن عيسى المغربي الذي توفي بمدينة مكناس المغربية سنة 1524ميلادي ودفن في مكناس، وأصل هذه الفرقة الصوفية يعود بدوره إلى محمد بن سليمان الجازولي، وتشتهر الطريقة العيساوية حاليًا باستعمالها للأمداح بصوت عال واستخدام الموسيقى في مسارات التنوير الروحاني.
الطريقة الشاذلية
تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، وإن كانت تختلف عنها في سلوك المريد وطريقة تربيته، بالإضافة إلى اشتهارها بالذكر المفرد “الله” أو المضمر “هو”،، يتسم أتباعها بالحماس في نشر طريقتهم في الوقت الحالي، حيث يمتلكون جمعية رسمية، ومجلة تصدر كل ثلاثة أشهر، وموقعًا على شبكة الإنترنت، وعددًا من الكتب والنشريات.
ولمكانتها الكبيرة في صفوف المجتمع المغربي، عمل النظام الملكي على احتضان هذه الزوايا والطرق الصوفية وتطويعها خدمة لأغراضه السياسية، فمن خلالها له أن يسيطر على مصدر ثقة كبير داخل المجتمع