بعدما أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال “إسرائيل”، تبعه في ذلك عدة دول كانت قد أيدت هي الأخرى القرار، واتفقت مع الولايات المتحدة على نقل سفارتها أيضًا من تل أبيب إلى العاصمة الجديدة “القدس”، ولكن لم تكن تلك القرارات الأولى من نوعها في تاريخ القضية الفلسطينية، إلا أن بعض وسائل الإعلام والحديث بالأخص عن الإعلام الغربي الذي كثيرًا ما يقع -لأسباب مختلفة- في سلسلة من التحريفات الإعلامية لحقائق القضية الفلسطينية.
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، قام رئيس الوزراء الكندي “جو كلارك” بالتراجع عن خطته في نقل السفارة الكندية في دولة الكيان الصهيوني إلى مدينة القدس بدلًا من تواجدها في تل أبيب، وذلك بعد تلقيه رسائل من سفراء دول في الشرق الأوسط مفادها أن خطوة نقل السفارة الكندية قد يكون لها عقبات سلبية على عملية السلام في المنطقة.
قرر وقتها رئيس الوزراء الكندي “جو كلارك” تأجيل خطوة نقل السفارة، ريثما يتم تعريف “القدس” بين كل من الحلفاء العرب ودولة الكيان الاحتلال، أو هذا ما كانت نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في أكتوبر عام 1979، إلا أن هناك وثائق مسربة تكشف السبب الحقيقي لتأجيل قرار كندا بالتحالف مع الولايات المتحدة.
بعد قرار “دونالد ترامب” الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، نشرت وكالة الإذاعة الكندية (سي بي سي) السياسية وثائق تُلقي الضوء على الأسباب الحقيقية التي جعلت كل من رئيس الوزراء الكندي آنذاك “جو كلارك” يتراجع عن قرار نقل السفارة لأسباب اقتصادية بحتة حذره منها وزير المالية و وزير الصناعة آنذاك بسبب الخسارة المالية لكثير من الشركات التجارية المتعاقدة مع حلفاء من الشرق الأوسط، وبالأخص شركة الاتصالات الكندية “بيل كندا” المتعاقدة مع الحكومة السعودية آنذاك.
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، قام رئيس الوزراء الكندي “جو كلارك” بالتراجع عن خطته في نقل السفارة الكندية في دولة الكيان الصهيوني إلى مدينة القدس بدل من تواجدها في تل أبيب
يبدو “ترامب” بعد هذا القرار بالنسبة للكثير من ناخبيه و مؤيديه حول العالم أنه الرئيس الذي لا ينسى وعوده، ولا يخاف من شيء من أجل تنفيذ تلك الوعود التي تضمنتها حملته الانتخابية في العام الماضي، على عكس كل من تراجعوا عن تلك الخطوة في التاريخ، إلا أنه في الواقع لا يبدو أن أمام ترامب نفس العقبات الاقتصادية التي واجهت رئيس الوزراء الكندي السابق من قبل لكي يقوم بتطبيق القانون الخاص بنقل السفارة الأمريكية الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي السابق “كلينتون”، حيث اكتفت الكثير من حكومات الشرق الأوسط المؤثرة بالاستنكار فقط، وذلك بعد تحالفها مع ترامب في الأساس قبل بضعة شهور من إعلان “ترامب” لهذا القرار.
تعتبر الطريقة التي اتبعتها بعض وكالات الصحافة الغربية في التكتم على الأسباب الحقيقة لتراجع كندا عن نقل سفارتها في الماضي مشابهة كثيرًا لطريقة تناول بعض وكالات الإعلام الغربية الموالية لتوجهات الرئيس الأمريكي الحالي في تغطية نقل السفارة الأمريكية الآن على أنه فعل من أفعال البطولة الخاصة بالرئاسة الأمريكية، حيث توالت بعد ذلك سقطات إعلامية حرّفت حقائق حول القضية الفلسطينية.
النكبة و كيف حرفتها البروباجندا “الإسرائيلية”
كانت قد نشرت الصحيفة البريطانية “الغارديان” مقال في مايو/آيار في عام 2014 بعنوان “في ذكرى النكبة: يضع مجموعة من الإسرائيليين “فلسطين 1948” مرة أخرى على الخريطة، أكد فيه الكاتب البريطاني “إيان بلاك”، المسؤول عن تحرير أخبار الشرق الأوسط في الصحيفة، على ضرورة التركيز على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، الذي وصل عددهم الآن إلى 7 ملايين، الذين شردتهم النكبة وحرمتهم من حق العودة إلى مدن مثل “يافا” و”حيفا”، ليصل للصحيفة بعد ذلك ردود غاضبة لم تنشرها كان منها رد الصحيفة اليهودية “لين يولويس“.
“لين يوليوس” صحيفة يهودية تدافع عن اليهود المهاجرين من الشرق الأوسط، نشرت ردًا على صحيفة الغارديان متذمرة من استخدام الصحيفة مصطلح “الحق في العودة” معتبراه مصطلحًا مسيئًا للاجئين اليهود الذين “شردتهم” البلدان العربية بسحب رأيها لكي ينعدم تقريبًا عدد اليهود في بعض المدن كبغداد في العراق وصنعاء في اليمن و الإسكندرية في مصر.
ربما يبدو رأي تلك الصحفية اليهودية غريبًا على البعض قليلًا، إلا أنه ليس غريبًا على بعض وكالات الإعلام التي لعبت لعبة المصطلحات في النشر عن القضية الفلسطينية، والتي أصبحت بمثابة اتجاهًا عامًا تتبعه وكالات بعينها، حيث وُصفت حرب المصطلحات تلك بـ “تبييض” أو “Whitewashing” التطهير العرقي للفلسطينين كجزء من البروباجندا “الإسرائيلية” الإعلامية.
جريدة نيويورك تايمز في الصدارة
لقد تصدرت الجريدة الأمريكية “ذا نيويورك تايمز” قائمة وكالات الإعلام الغربية التي لعبت لعبة المصطلحات بجدارة حول القضية الفلسطينية في منشوراتها منذ بداية القضية تقريبًا بشكل منظم، حيث قامت الجريدة باستغلال جهل الشعب الأمريكي بالقضية الفلسطينية لتقدمها له في شكل إعلامي بوجهة نظر إسرائيلية، فكانت كلمة “النكبة” لا تعني فجيعة ونكبة الشعب الفلسطيني بل تعني قيام دولة اليهود في منشورات الجريدة منذ ذلك الوقت فصاعدًا.
وصفت الجريدة أن يوم الخامس عشر من مايو/آيار هو اليوم الذي يحيي فيه الفلسطينيون ذكرى إعلان استقلال “دولة إسرائيل” منذ عام 1948، لتشرح الجريدة أن معنى كلمة “نكبة” هي إشارة العرب لقيام موطن لليهود بإعلان “دولة إسرائيل” بعد حرب دامت بين اليهود والفلسطينين، ذلك بالإضافة إلى احتواء الصحيفة على كلمة النكبة في أكثر من مقال دون الإشارة إلى معنى الكلمة من الأساس.
لقد اتبعت الجريدة الأسلوب نفسه في تغطية الحرب على غزة في كل من 2008- 2009 و 2012 و الحرب الأخيرة في 2014، حيث اعتبرت تلك الحروب عمليات خاصة بـ “قوات الدفاع الإسرائيلي” قد سبق فيها تحذير سكان قطاع غزة كما يحدث في كل مرة، لتلقي الجريدة اللوم على ساكني القطاع من الفلسطينيين بشكل غير مباشر باستخدام مصطلح “عمليات دفاعية خاصة” بدلًا من “حرب” أو “هجوم”.
وصفت الجريدة أن يوم الخامس عشر من مايو/آيار هو اليوم الذي يحيي فيه الفلسطينيون ذكرى إعلان استقلال “دولة إسرائيل” منذ عام 1948،
ما لا تقوله الصحافة الغربية عن فلسطين
لقد تبنت المجلة الأمريكية “ماذر جونز” رأيًا أكثر تطرفًا من رأي قناة البي بي سي أو جريدة “ذا نيويورك تايمز”، إذ أنها دافعت في حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها أمام “إرهاب” حركة حماس
لقد ذكر موقع قناة الجزيرة الإنجليزية في تقرير له بعنوان ” الصحافة الغربية لا تفهم فلسطين جيدًا” أنه لم تخيب كل من قناة البي بي سي البريطانية و جريدة “ذا نيويورك تايمز” الأمريكية ظن الكيان الصهيوني فيهما، فلطالما كانا المتحدثان الإعلاميان الرسميان لتبرير القصف الإسرائيلي على قطاع غزة بالتحالف مع بعض نظرائهم مثل المجلة الأمريكية “ماذز جونز” على سبيل المثال.
لقد تبنت المجلة الأمريكية “ماذر جونز” رأيًا أكثر تطرفًا من رأي قناة البي بي سي أو جريدة “ذا نيويورك تايمز”، إذ أنها دافعت في حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها أمام “إرهاب” حركة حماس، في مقال المجلة الوحيد على هجمات الكيان الصهيوني على قطاع غزة، حيث تبنت المجلة الرواية الإسرائيلية ولم تستنكر الهجمات التي يشنها الكيان الصهيوني كواحد من أقوى الجيوش في العالم ضد مدنيين عُزل.
صار مصطلح النكبة يعني عيد استقلال دولة الكيان الصهيوني، وصار دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم تجاه المعتدي “إرهابًا”،
لطالما اتهمت إذاعة قناة البي بي سي بالموالاة للاتجاه الإسرائيلي، إذ أن القناة قد تجاهلت مقتل أفراد عائلة المصور الفلسطيني “جهاد المشهراوي“، صحفي بي بي سي في غزة أثناء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث كان طفله الرضيع من بين القتلى، إلا أن سياسية البي بي سي التي اعتبرها كثيرون تتبع مساندة رواية الكيان الصهيوني عن “إرهاب” حركة حماس تجاهلت الخبر على الرغم من أنه يمس أحد الصحفيين العاملين بها واكتفت بعزاء المصور.
لقد استطاعت بعض وكالات الإعلام الغربي لعب تلك الحرب الإعلامية بجدارة، حتى خلت بعض المصطلحات من معانيها الأصلية ليُخصصوا لها معان خاصة بها بحسب ما يُقرروه، فصار مصطلح النكبة يعني عيد استقلال دولة الكيان الصهيوني، وصار دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم تجاه المعتدي “إرهابًا”، فاختصروا الصراع بين احتلال ومُحتل إلى صراع حول “من بدأ القصف”، حتى اختلطت الحقائق ببعضها البعض فلم يعد يعرف القارىء الحقيقة من التحريف.