قصد الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي فقهاء القيروان، وطلب منهم النصر والعون لهداية أهالي صنهاجة الذين غرّتهم الحياة الدنيا وعادوا إلى الضلال بعد أن تذوقوا حلاوة الإيمان والتقوى، فكان له ما أراد وعاد معه الشيخ عبد الله بن ياسين إلى جدالة داعيًا وفقيهًا.
بدأ ابن إبراهيم وصاحبه في الدعوة لكن المنية وافته أثناء حرب أهل السودان، وترك وراءه قائدًا لا يقلّ عنه ورعًا وبطشًا وحبًّا للدين الإسلامي الحنيف، فائتمنه على جماعة المرابطين التي أسّسها مع الشيخ عبد الله بن ياسين في أقاصي الصحراء.
تسلم يحيى بن عمر قيادة المرابطين عسكريًّا وبدأ القتال في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وكان السند الأبرز لفقيه المرابطين ابن ياسين في إيصال الدعوة للقبائل الصحراوية، وإعلاء كلمة الحق بين القبائل الصنهاجية وكسر راية أعداء الدين.
ضمن ملف “الأمراء التسعة” نتتبع نشأة الأمير يحيى بن عمر الصنهاجي ودوره في تأسيس دولة المرابطين التي امتدَّ حكمها إلى أكثر من 15 دولة في الشمال والجنوب والغرب.
يحيى بن عمر اللمتوني
وُلد أبو زكريا يحيى بن عمر بن تلاجكين بن تورغوت بن ورتاسين، الملقب باللمتوني الصنهاجي، بالقرب من مدينة آزوكي، وقد ترأّس قبيلة لمتونة وهي من بطون صنهاجة، ولها في الملثمين بطون كثيرة منهم بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة.
تعتبر لمتونة من أهم قبائل الملثمين وأقواها وأفضلها موقعًا جغرافيًّا، إذ توغّلت هذه القبيلة في الصحراء شرقًا حتى أدركت الطريق الموصل بين مملكة غانا ومدينة سجلماسة، وقيل إن ديارهم تمتد مسيرة شهرَين طولًا وعرضًا، وسيطرت على الطريق التجاري الهام الذي يسير بجانب المحيط الأطلسي.
نشأ ابن عمر في ظلّ هذه القبلية القوية وعلى دين الإسلام، إذ أسلمت قبيلته بعد فتح الأندلس خلال بداية القرن التاسع، وتركت المجون والضلالة والعادات السيّئة المرتبطة بالجاهلية والكفر، وبحماسة الإسلام أطلقت القبيلة وقبائل صنهاجية أخرى حملات جهاد ضد أهل السودان (الشعوب السوداء الوثنية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى).
عايش الأمير يحيى تلك الحملات الجهادية ضدّ المشركين، كما عايش ارتداد أبناء شعبه وعودتهم إلى الضلالة من جديد وفقدانهم معظم مناطق سيطرتهم القديمة، خاصة القلاع ومحطات القوافل والواحات على طرق التجارة المربحة عبر الصحراء، لصالح إمبراطورية غانا في الجنوب وحكّام سجلماسة وزناتة المغراوة في الشمال.
وعاين الأمير ضلالة شعبه وهوانهم وقلة حيلتهم نتيجة ابتعادهم عن تعاليم الإسلام السمحة، والتمسك بقشور الأمور وترك أوامر الله تعالى، مقابل بعض الملذات الزائلة والشهوات العاجلة، وقد أنكر على شعبه ذلك لكن لا حول ولا قوة.
التطلُّع إلى استعادة أمجاد الماضي
حزَّ في نفس الأمير يحيى بن عمر أن يرى تراجع قبيلته لفائدة مجموعات أخرى أقل منها شأنًا ونفوذًا، خاصةً أن هيمنتهم على التجارة عبر الصحراء باتت مهددة، من الجنوب من قبل ولاية سونينكي في غانا، ومن الشمال من خلال تسلُّل أمازيغ زناتة إلى جنوب المغرب.
مع مطلع القرن الخامس الهجري تفرقت كلمة الصنهاجيين واختلفوا، واستعادت دولة غانا نفوذها في الصحراء (إمبراطورية قوية قامت في السودان الغربي، ويطلق هذا الاسم على البلاد الواقعة جنوب الصحراء) وسيطرت على طرق التجارة، وانسدت مصادر الرزق في وجه الملثمين، وقد كانوا خلال الفتح الإسلامي يحكمون المنطقة ويبسطون سلطانهم فيها.
اشتاق ابن عمر إلى إعادة إنشاء اتحاد قبائل صنهاجة القديم واستعادة نفوذهم، وما كان سوى الإصلاح الديني وسيلة لتعزيز وحدة قبائل صنهاجة في ذلك الوقت الذي انتشرت فيه أصناف مختلفة من المغريات والملهيات.
وكان أهالي هذه القبائل وقادتها المؤسسون الأوائل لدولة بني زيري ومملكة أودغست الإسلامية، وقد عُرفوا بالقوة والشجاعة وشدة البأس وإتقان فنون الحرب المختلفة، وقد هابتهم شعوب السودان المنتشرين في جنوب الصحراء ودفعوا لهم الجزية في وقت ما.
تزامن ذلك الحنين مع انضمام الفقيه عبد الله بن ياسين إلى قبيلة جدالة القريبة من لمتونة، وهي أيضًا بطن مهم من بطون قبائل صنهاجة، وجاء الشيخ ابن ياسين إلى جدالة بطلب من أميرها يحيى بن إبراهيم لهداية الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من كبار فقهاء سوس المغرب.
أسّس الشيخ ابن ياسين رباطًا يستقبل فيه الراغبين في التوبة النصوحة، ومنه انطلقت دعوة المرابطين وانضمّ إليهم الأمير يحيى بن عمر قادمًا من لمتونة، رغبة في التفقّه في الدين أكثر والعودة إلى الطريق السوي وإعادة أمجاد قبائل صنهاجة العريقة، وكان ابن عمر من أهل الدين المتين والفضل والورع والزهد في الدنيا والصلاح.
- قيادة المرابطين
لما قويت شوكت المرابطين، أمرهم الشيخ ابن ياسين بالخروج داعين ومجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا من خالفهم من قبائل لمتونة وكدالة ومسوفة، وكانت القيادة العسكرية في البداية للأمير يحيى بن إبراهيم ويشاركه أحيانًا الشيخ ابن ياسين.
في الأثناء، ذهب زعيم لمتونة يحيى بن عمر إلى قومه داعيًا لهم، فدخلوا في جماعته نحو 7 آلاف، وساهم في عملية توحيد فروع قبيلة صنهاجة التي انتشرت في موريتانيا والمغرب والجزائر، واستكملت القوة التي ستكون سندًا قويًّا في قيام دولة المرابطين.
في إحدى المعارك مع السودانيين، استشهد الأمير يحيى بن إبراهيم، زعيم قبيلة جدالة والزعيم الأعلى لاتحاد صنهاجة والمرابطين، فقدّم المرابطون الشيخ ابن ياسين قائدًا دينيًّا وعسكريًّا لهم، لما ألفوه عنه من فقه وورع وقوة وحنكة سياسية.
زهد الشيخ ابن ياسين كعادته عن هذا المنصب ورفض القيادة الكلية مكتفيًا بالقيادة الدينية، واقترح على الجماعة تولية الأمير يحيى بن عمر قائدًا لهم، خاصة أن لقبائل صنهاجة قواعد الخلافة الأمومية، وكانت والدة يحيى بن عمر أميرة من جدالة.
تمّت الموافقة على خلافة ابن عمر من قبل المرابطين، وزكّاه في ذلك الفقيه القادم من سوس المغرب، فقويت شوكة المرابطين خاصة قبيلة لمتونة التي حازت على القيادة، رغم رغبة أهالي قبيلة جدالة في تولي أحد قادتها زعامة الجماعة الناشئة.
التوسُّع نحو سجلماسة
تعلق الأمير يحيى بالشيخ ابن ياسين بشكل وثيق، ونشأت علاقة مثمرة بين الرجلَين، ظهرت بوادرها في الفتوحات التي قاداها معًا ضدّ أعداء الدين المنتشرين في الصحراء، والمسلمين الذين لا يملكون من الإسلام غير الشهادتين فقط.
تولى الشيخ عبد الله بن ياسين الزعامة الدينية، فيما تولى الأمير يحيى بن عمر القيادة العسكرية العامة، وكان سندًا قويًّا للشيخ في نشر الدعوة الإسلامية وتأسيس دولة المرابطين، التي سيكون لها شأن كبير لنحو قرن من الزمن.
ثار بعض القادة ضد الأمير ابن عمر بدعم من حكّام سجلماسة لإفشال وحدة القبائل الصنهاجية ومنع انتشار الدين الإسلامي بين القبائل الصحراوية
قاد الأمير يحيى بن عمر في أوائل خمسينيات القرن العاشر الفتوحات، رغبة في نشر الدين الإسلامي وفي إعادة إنشاء إمبراطوريتهم الإسلامية الصحراوية القديمة، وهو ما سيمنح الإسلام والمسلمين دورًا أكبر في الصحراء وفي الشمال أيضًا.
نجحت جيوش الأمير ابن عمر في جلب قبائل صحراء صنهاجة الأخرى والانضمام إلى جماعة المرابطين، وبمجرد توحيد هذه القبائل بدأ المرابطون عملية بسط السيطرة على الطرق التجارية والمحطات القديمة عبر الصحراء.
لكن لم تكن السيطرة على المنطقة سهلة، إذ ثار بعض القادة ضد الأمير ابن عمر بدعم من حكّام سجلماسة لإفشال وحدة القبائل الصنهاجية، ومنع انتشار الدين الإسلامي الحنيف بين القبائل الصحراوية، فتمّ التصدي لهم وبعدها تمّ التوجه إلى المدن الكبرى التي ترعاهم.
لكن منافسيهم لم يكونوا على وشك التنازل عن سيطرتهم بهذه السهولة، حيث قام حكام سجلماسة زناتة المغراوة بسحب علاقاتهم وعملائهم في الصحراء لإفساد جهود المرابطين في توحيد الصنهاجة. وبعد اشتباكات عديدة مع جيوش العملاء، سرعان ما قرر الأمير يحيى قيادة جيوشه الصحراوية الصنهاجية ضد سجلماسة، فهزم سيد المغراوة وسيطر على المدينة بمعية الشيخ ابن ياسين، وكان ذلك نصرًا كبيرًا منح أسبقية مهمة للمرابطين، لأهمية الموقع الاستراتيجي للمدينة بالنسبة إلى مختلف مناطق شمال أفريقيا وبلاد السودان الغربي من جهة، والمشرق الإسلامي من جهة ثانية.
ولفترة طويلة كانت سجلماسة تلعب دورًا رياديًّا في تجارة القوافل وتنظيم شبكتها، الأمر الذي جعل اسم سجلماسة يرتبط في الكتابات العربية بتجارة الذهب، ولذلك ساعدت سيطرة المرابطين على سجلماسة في تحمُّل النفقات العسكرية لحملاتهم، والحفاظ على النمو الاقتصادي للمنطقة، ما نتج عنه من استتباب للأمن، حتى أصبحت سجلماسة شبه عاصمة إقليمية ذات دور حاسم في بناء دولة مرابطية مترامية الأطراف.
الوجهة نحو إمبراطورية غانا
بعد السيطرة على سجلماسة ودخول المدينة تحت إمرة المرابطين، حوّل الأمير يحيى جيشه جنوبًا واتجه نحو إمبراطورية غانا المنافسة لهم لمعاضدة جهود المرابطين هناك.
امتدت سيطرة “إمبراطورية غانا” على المنطقة الواقعة بين الصحراء الكبرى والساحل الغربي للقارة الأفريقية، التي أطلق عليها قديمًا كلّ من الرحالة المغربي ابن بطوطة والمؤرّخ التونسي ابن خلدون اسم “منطقة السودان”، ثمّ سميت باسم “السودان الغربي”، وهي من أقدم الإمبراطوريات في أفريقيا وأقواها.
وكانت الوجهة أولًا نحو قلعة أوداغست المهمة على الطرف الجنوبي لطرق القوافل التجارية عبر الصحراء، وتمّت السيطرة على القلعة، لكن وصلت أنباء غير سارّة للجيش الفاتح تفيد بأن الزناتة استعادوا مدينة سجلماسة وطردوا الحامية المرابطية منها، فقرر الأمير يحيى العودة إلى الشمال لاستعادة المدينة، فحصل ما لم يكن متوقعًا، إذ انسحبت قبيلة جدالة من الحلف الجديد.
استشهد الأمير يحيى بن عمر في ميدان معركة “طبفريلة”، وترك وراءه دولة صغيرة جنوب الصحراء، في منطقة لمتونة على الساحل الأطلسي، ستكون في المستقبل نواة لدولة إسلامية قوية
نتيجة ذلك اضطر الأمير ابن عمر إلى تقسيم قوات المرابطين، حيث قاد بنفسه حملة على أراضي قبيلة جدالة، بينما أصدر تعليماته لأخيه أبو بكر بأخذ قوة محترمة شمالًا، وإبقاء زناتة سجلماسة تحت السيطرة والمراقبة، حتى لا تخرج المدينة عن سيطرة المرابطين مجددًا.
اتجه الأمير يحيى حتى وصل إلى قلعة آزوكي الحدودية في هضبة أدرار وسط موريتانيا، لكنه تيقّن من عدم امتلاكه القوة الكافية لمواجهة قبيلة جدالة بنفسه، فطلب المساعدة من حليفه الجديد ملك تكرور (مملكة أفريقية أسلمت بداية القرن الخامس الهجري وتقع على نهر السنغال، تحالفت مع المرابطين أثناء الهجوم على غانا).
علمت قبيلة جدالة بمسألة التحالف الجديد، فقررت بدء الحرب قبل وصول المدد من التكروري، وحاصرت آزوكي التي يتحصّن فيها الأمير يحيى والمرابطون، وتمكنوا من تدمير جيش المرابطين في معركة قوية يقال إنها وقت ربيع سنة 1056 ميلادي.
استشهد الأمير يحيى بن عمر في ميدان معركة “طبفريلة”، وترك وراءه دولة صغيرة جنوب الصحراء، في منطقة لمتونة على الساحل الأطلسي بين موريتانيا والسنغال، ستكون في المستقبل نواة لدولة قوية، حفظت الإسلام والمسلمين في المغرب الأقصى وبلاد الأندلس وساهمت في نشر الدين القويم في الصحراء الأفريقية.