يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم من منظور المال والاقتصاد كإستراتيجية جديدة تتبعها الإدارة الأمريكية التي تعمل كمؤسسة لا فرد في تطبيق سياساتها في الشرق الأوسط، ولعل القوة الناعمة التي اتّبعها اندرجت تحت إطار جديد فهم في خطابه في الرياض في 22-5-2017 الذي كان مضمونه “لن نقاتل مكان أحد، أسلحتنا سوف تعجبكم، هناك تحالف عربي ضد إيران تشارك فيه “إسرائيل” استخباراتيًا”.
خطوات التطبيع المتسارعة في الآونة الأخيرة عربيًا مع الاحتلال الإسرائيلي كانت جميعها اختبارات لفحص أقصى مدى ممكن أن يصل إليه الغضب الشعبي العربي أولًا وأخيرًا، لأن المستوى الرسمي العربي سيندمج تلقائيًا في الرؤية الأمريكية للمنطقة والقدس بما يعرف بـ”السلام الاقتصادي”.
يرى عبد الله تويجي السياسي الجزائري في حديثه مع “نون بوست” أن “أمريكا تنظر إلى العالم بشكله الاقتصادي، وصعود ترامب كان ضمن تغيرات تكتيكية لصعود رجال المال والأعمال نحو السلطة، وهو ما يلبي حاجة الأمريكيين في تخفيض نسبة البطالة والتأمين الصحي وخلق المشاريع بأموال المشترين الجدد للسلاح والحروب في المنطقة”.
ويستشهد التويجي بالتجربة الجزائرية عبر سيطرة رجال المال والأعمال والجيش على الحكم مضيفًا: “أمريكا تريد قيادة المنطقة العربية من جديد عبر دبلوماسية الطاقة، فهي تريد تحويل الاحتلال الإسرائيلي لموزع للطاقة إلى أوروبا عبر اليونان، كبديل عن خط الطاقة الروسي الذي يعاني من صعوبات في البلطيق”.
على مدار الرؤساء الأمريكيين السابقين لم يستطع أحد منهم التوقيع على قرار نقل السفارة حتى لا يصطدموا مع الأمم المتحدة
التطبيع تمهيد لصفقة القرن
وعليه فإن التطبيع الحاصل في المنطقة العربية مع الاحتلال الإسرائيلي على المستوى الرسمي، هو تطبيع اقتصادي في المقام الأول، يقع ضمن “صفقة القرن” التي تطرحها أمريكا بتعزيز السلام الاقتصادي ودعم التجارة الحرة وتحقيق تقدم أكبر في دبلوماسية الطاقة.
تتضمن صفقة القرن توسعات وتعاون اقتصادي مع الأردن ومصر، حيث ستمنح أمريكا مدينة اقتصادية لمصر في بورسعيد، وكذلك تعاون اقتصادي مشترك بينها وبين الإمارات من ناحية، والسعودية من ناحية أخرى، مع إدماج الفلسطينيين في الصفقة، ومنحهم جزءًا من سيناء للتوسع فيها يأتي على حساب مشروع المقاومة في غزة الذي تتوقع الإدارة الأمريكية ومن خلفها الاحتلال الإسرائيلي ذوبانه بفعل المشاريع التنموية في محررات غزة التي تشكل 90% من الكنز الاستراتيجي للمقاومة، وعليه يذوب الفلسطينيون في هذه المشاريع دون منحهم أي حقوق سيادية.
وبدا واضحًا تلك الخطوة أمريكيًا من خلال إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعادة فتحه بشروط جديدة تتضمن بأن يكون عمل المكتب متعلقًا فقط بالتوصل إلى “سلام دائم وشامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، كخطوة للضغط على الفلسطينيين في الوقت الذي لم تتخذ فيه أمريكا أي خطوات ضاغطة ضد الاحتلال، ولا تعترف بدولة فلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة ولا تمنحها تمثيلًا دبلوماسيًا على مقام دولة، بل مكتب لمنظمة التحرير.
القدس وفق الرؤية الأمريكية
على مدار الرؤساء الأمريكيين السابقين لم يستطع أحد منهم التوقيع على قرار نقل السفارة حتى لا يصطدموا مع الأمم المتحدة التي تعتبر القدس منطقة مختلف عليها ليست عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، لكن جرأة ترامب السابقة في الانسحاب من اتفاقية المناخ ومن منظمة اليونسكو التي اعتبرت القدس مدينة تاريخية إسلامية، جعلته يسرع أيضًا في التوقيع على نقل السفارة للقدس.
ويعرض رؤيته أن نتنياهو مأزوم داخليًا ومجرد منحه الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة إليها، قد يفتح الطريق أمام تطبيق مشروع السلام الاقتصادي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط الذي يكون فيه الاحتلال الإسرائيلي المركز داخل المحيط العربي بالاقتصاد عالي التقنية ومشاريع الطاقة.
التعاون الإستراتيجي بين أمريكا والاحتلال الإسرائيلي لم يكن وليد اللحظة، فتلتزم أمريكا بفعل اللوبي الصهيوني بأمريكا لدفع مساعدات عسكرية تبلغ 3.6 مليار دولار
وبعد إعلانه نقل السفارة اتصل ترامب بالرئيس الفلسطيني محمود عباس يدعوه لزيارة واشنطن، وأخبره أن نقل السفارة سيستغرق ثلاث سنوات بعد إنهاء الإجراءات التقنية على الأرض، مما يتيح الاستمرار في عملية السلام، لكن الخديعة الأمريكية هذه لن تأتي بجديد، فعلى مدار أكثر من 24 عامًا منذ توقيع اتفاق أوسلو لم تقدم الإدارات الأمريكية المتتابعة للفلسطينيين أي شيء خصوصًا فيما يتعلق بالسيادة أو التنمية الاقتصادية.
ورغم أن اتفاق أوسلو كان ينص في مضمونه على الالتزام بعدم المساس بوضع مدينة القدس وتأجيل بحثها إلى قضايا الحل النهائي، لم يتم بحث أي من قضايا الحل النهائي، وبدأ الاستيطان ينهش في المدينة المقدسة والضفة الغربية بعد الزيادة المطردة في عدد المستوطنين في الضفة من 111 ألف عام 1967 إلى 750 ألف عام 2017.
ولذلك لم يكن هناك أي تقدم على أرض الواقع فلسطينيًا، بل زادت الأمور سوءًا، وظهر ذلك من خلال خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة في 20-9-2017: “لم يعد بإمكاننا الاستمرار كسلطة دون سلطة، وأن يستمر الاحتلال دون كلفة، نحن نقترب من هذه اللحظة، إذا لم يريدوا حل الدولتين وسلامًا، فليعودوا ليستلموا مسؤولياتهم وتبعات هذه المسؤوليات”.
القدس المركزية للتحول في المنطقة
ويسعى الاحتلال الإسرائيلي لتحويل القدس لمدينة معرفية عابرة وهاب مركزي في المنطقة، عبر تطوير البنى التحتية في القدس وتحويل البناء المقاوم القديم فيها لبناء عابر بتوسعة الشوارع الضيقة لتكون أسهل في السيطرة عليها في حال اندلعت مواجهات.
كذلك خطة الاحتلال بإعادة رسم البنى التحتية في فلسطين المحتلة كلها لتصبح عابرة للحدود، عبر الطريق العابر 16 والطريق العابر 36 الذي يتضمن خطوط مواصلات بين القدس وبيروت، وبين القدس ودمشق وفق خطة الطريق العابر 16، وتتضمن خطة الطريق العابر 36 إنشاء سكة حديدية وقطار يمتد من القدس إلى عمان ومن عمان إلى دبي ومن دبي إلى الرياض بجعل القدس المدينة المعرفية الكبيرة على شاكلة لندن في أوروبا، أو بكين في الشرق، ولعل تصريح نتنياهو سابقًا بعد لقاء ترامب بالسعودية قائلًا: “أتمنى أن يأتي اليوم الذي يسافر فيه الإسرائيلي من تل أبيب للرياض بكل سهولة”.
ما كان الاعتراف بالقدس كعاصمة للاحتلال الإسرائيلي أن يمر إلا بموافقة أطراف سياسية عربية فاعلة في المنطقة
التعاون الإستراتيجي بين أمريكا والاحتلال الإسرائيلي لم يكن وليد اللحظة، فتلتزم أمريكا بفعل اللوبي الصهيوني بأمريكا لدفع مساعدات عسكرية تبلغ 3.6 مليار دولار، إضافة لمشاريع التعاون العسكري المشترك وجعلها القوة العسكرية الأولى في المنطقة بمنحها صفقة طائرات مقاتلة من طراز f35، لتكون الوحيدة في المنطقة التي تملكها، مما يسهل عبور المشاريع الاقتصادية الجديدة من الاحتلال إلى الخليج ومصر والعكس، وهو ما ستجني أمريكا ثماره جيدًا لمعالجة مشاكلها الاقتصادية، لذلك قدم ترامب القدس للاحتلال الإسرائيلي ضمن إستراتيجية التعاون المشترك القادم.
ولكن ما الذي يعنيه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سياسيًا؟
وفق الاعتراف الأمريكي، ستصبح القدس بشطريها الشرقي والغربي موحدة تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وإخراج ملف القدس من أي تفاوض فلسطيني مستقبلي برعاية أمريكا، ونقل إدارة المقدسات الإسلامية والمسيحية التي كان للأردن دور بارز فيها إلى سلطات الاحتلال، بعدها ستتعرض القدس لعملية تهويد بالكامل.
خلاصة المشهد، ما كان الاعتراف بالقدس كعاصمة للاحتلال الإسرائيلي أن يمر إلا بموافقة أطراف سياسية عربية فاعلة في المنطقة، خصوصًا السعودية لما تمهده من تطبيع اقتصادي مع الكيان، وعلينا تذكر أن هذا اليوم الـ8 من ديسمبر اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 بعد إقدام مستوطن على دهس وقتل عدد من الفلسطينيين.
لكن الأمور وصلت إلى نهايتها بعد التعرض لرمز القضية الفلسطينية والإسلامية مدينة القدس، وعليه تراهن أمريكا على مظاهرات أمام سفاراتها ثم تهدأ الأمور بعد فترة، لتنفذ مخططها بعيدًا عن رغبة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وبعيدًا عن رغبة الجماهير العربية والإسلامية.. فهل ستنجح؟