يعد تاريخ الموريسكيين في تونس جزءًا مهمًا من تاريخ البلاد، ولك أن تعاين ذلك من خلال المعمار ذي الطابع الأندلسي الذي زين العديد من المناطق الشمالية لتونس، وفي الموسيقى الأندلسية المنتشرة هناك، والأطعمة والملابس أيضًا، وفي ألقاب بعض العائلات التي سكنت البلاد وصاهرت سكانها الأصليين.
تاريخ قدومهم
عقب حملة التهجير التي قادها الملك فيليب الثالث ضدهم في أبريل 1609، اختار جزء كبير من الموريسكيين الاستقرار في البلاد التونسية في عدة مناطق، وأسسوا عدة مدن مثل: رفراف، طبربة، السلوقية، تستور، سليمان، نيانو، مستغلين تشجيع عثمان داي (حاكم تونس) لهم، إثر القرار الذي أصدره الذي يأذن لهم بموجبه أن يعمروا حيث شاؤوا، فاشتروا المناشير وبنوا فيها واستوطنوا عدة أماكن.
واستقبلت تونس في تلك الفترة ما يقارب 80 ألف موريسكي، ويقول المؤرخ ابن أبي دينار في مؤنسه (كتاب أخبار إفريقية وتونس): “وفي هذه السنة (1610) والتي تليها جاءت الأندلس من بلاد النصارى، نفاهم صاحب إسبانيا وكانوا خلقًا كثيرًا”، وأجمع العديد من المؤرخين العرب والإسبان أن تونس استقبلت أكبر عدد من الموريسكيين، ورغم أن غالبية الموريسكيين الذين استقبلتهم تونس كانوا من القشتاليين والأرجونيين، أي الفئة الأقل تعريبًا والمشبعة باللغة الإسبانية، فقد عمل التونسيون على حسن استقبالهم، حتى إنهم سمحوا لهم بأداء الصلاة بالإسبانية وقاموا بترجمة بعض الكتب الدينية لهم، كما قدموا لهم يد العون والمساعدة.
عمل التونسيون على حسن استقبالهم، حتى إنهم سمحوا لهم بأداء الصلاة بالإسبانية وقاموا بترجمة بعض الكتب الدينية لهم
وتجمع غالبية المصادر أن الأندلسيين لقوا معاملة جيدة من السلطات العثمانية المحلية الحاكمة في تونس التي شجعت هذه الهجرة، ويقول الوزير السراج في حلله (كتاب الحلل السندسية في الأخبار التونسية): “وفي سنة ولايته (عثمان داي) والتي تليها قدم أهل الأندلس، فأوسع لهم وجبر قلوبهم وأذن لهم في إنشاء بلدان”، وهو ما ذهب إليه كذلك ابن الضياف في كتابه (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان): “قدمت وفود الأندلس فارين بدينهم، فأحسن عثمان داي قراهم وأنس غربتهم وعظم مقدمهم، وأقطعهم ما اختاروا من الأرض”.
الهجرة تمت على مراحل
وتذكر مصادر تاريخية أن عثمان داي أمر بعدم تحصيل رسوم على السفن التي تجلب الموريسكيين إلى تونس، ومتعهم بإعفاء من الضرائب والمكوس ووفر لهم حماية رسمية، وطلب من سكان العاصمة استضافة القادمين من إسبانيا وفتحت لهم أبواب المساجد، ويذكر أن أبا الغيث القشاش مسؤول الأوقاف في الإيالة التونسية يومئذ قال “لو تكلمت جدران المساجد لنطقت بسعادتها لإيواء من هُجّروا وطُردوا في سبيل دينهم”، ودعم أبو الغيث تعليم القادمين الجدد شعائر الإسلام باللغة الإسبانية لمن لا يتقن اللغة العربية.
دور مهم في خلق حركة كبيرة في البلاد
قدوم الموريسكيون إلى تونس أسهم في خلق حركة كبيرة في البلاد التونسية، طبعت القرن الـ17 واستمرت نتائجها إلى اليوم، حيث جلبوا معهم خلاصة تاريخ حضورهم في الأندلس من تقنيات زراعية وغراسات وعادات غذائية وأشكال معمارية جديدة.
وأعطى الأندلسيون انطلاقة جديدة للفلاحة والصناعة والمعمار، وكان تأثيرهم واضحًا في الحياة الفكرية والحركة الاقتصادية، وهو ما يؤكده المؤرخ ابن أبي الضياف بقوله: “فاستأنفت المملكة عمرانًا وثروةً بورود هؤلاء الأندلسيين” من هنا يظهر الدور المهم جدًا الذي لعبته الطائفة الأندلسية في تاريخ تونس الحديثة.
وظف الموريسكيون خبراتهم وطوروا وسائل الري بإقامة السدود والقنوات وحفروا الآبار خاصة في الوطن القبلي واستعملوا النواعير التي تدار بالرياح
وأسهم الموريسكيون في ظهور حرف عديدة أشهرها صناعة الشاشية التي حققت أرباحًا مهمة للصناعة نظرًا لأنها تدير عدة صناعات أخرى، وهي نسخة من الطاقية الطليطلية التي أصبحت لاحقًا من المكونات الرئيسية للزي التونسي، وشاعت صناعتها وأنشئت لها الأسواق في المدن الكبرى، من ذلك سوق الشواشين في المدينة العتيقة بالعاصمة تونس الذي ما زال قائمًا إلى اليوم، وظهرت صناعات أخرى متنوعة برع فيها الأندلسيون مثل صناعة الخزف والجليز والقرمود.
كما جذب الأندلسيون معهم صناعة “المرقوم الإسباني” و”القشابية”، وهي صناعات جعلت الأندلسيين ينفتحون على محيطهم التونسي الجديد وسكان البلاد الأصليين، بعد أن تقوقعوا لسنوات ربما حزنًا على أرضهم الأندلسية التي طردوا منها إلى سائر البلاد المغاربية، أو ربما هو الشعور بالتميز والتفوق على سكان البلاد من العرب والأمازيغ.
استغل الأندلسيون خصوبة الأرض
في المجال الفلاحي وظف الموريسكيون خبراتهم وطوروا وسائل الري بإقامة السدود والقنوات وحفروا الآبار خاصة في الوطن القبلي واستعملوا النواعير التي تدار بالرياح، كما انتشرت البساتين التي تغص بالأشجار المثمرة (القوارص والعنب والزيتون..) والبقول متقنة الحفظ والصيانة، وظهرت أشكال جديدة من العربات المجرورة بالدواب التي تساعد الفلاحين في نشاطهم (تستعمل إلى اليوم وتسمى الكريطة).
ثقافيًا وفنيًا، أسهم الأندلسيون في بروز أنماط جديدة من الموسيقى تعرف بالموشحات الأندلسية أو المالوف، وهو ضروب من الموسيقى الأندلسية ويشمل الديني والدنيوي، وهذا الفن توارثته الأجيال ويؤدى عن طريق مجموعة صوتية وآلات إيقاعية ووترية في الزوايا والمحافل، أما أصله فهو إشبيلي، وقد انتشر هذا الفن في العاصمة تونس والقرى الأندلسية التونسية ولقي عناية لدى الموريسكيين كعنوان تحضر وتميز وكتعبير عن الحنين إلى الفردوس المفقود.
عمارة شاهدة على حضارتهم
سرعان ما تأقلم الموريسكيون مع المجتمع التونسي، فتصاهروا مع العائلات التونسية وكونوا المدن والقرى مثل: قلعة الأندلس وقرمبالية ورأس الجبل وسليمان ورفراف والعالية ونيانو، وأهمها تستور التي تعد أكبرهم وأكثرهم محافظة على الموروث الإسباني الأوروبي حتى صارت بمثابة قطعة من إسبانيا، وتعرف بلدة “تستور” الواقعة في ربوع الشمال الغربي لتونس بأنها من أعرق البلدات الأندلسية في بلدان المغرب العربي، ويميز الطابع الأندلسي معمار المدينة التي تأسست قبل أكثر من 4 قرون، وأثره ما زال ممتدًا في عادات سكانها وتقاليدهم.
يجسم الجامع الكبير بهندسته ومواده وزخارفه فن النهضة الإيطالية الإسبانية خاصة في المحراب الشبيه بقوس نصر روماني أو واجهة معبد بيزنطي أو كنيسة
وتأسست البلدة حين حط الموريسكيون رحالهم قادمين من الأندلس بين سلسلة من الجبال تسترها وتحيط بها على ضفاف وادي مجردة على أطلال مدينة “تيكيلا” الرومانية التي تعني “العشب الأخضر”، ويعني هذا الاسم أيضًا تجمع المياه التي تغرق سهول تستور في فصل الأمطار.
وتبعد المدينة 76 كيلومترًا عن العاصمة التونسية، ويعتبر البعض تستور الأخت التوأم لمدينة شفشاون المغربية التي أسسها أيضًا الموريسكيون التاركون قسرًا لديارهم في ربوع الأندلس، ويقال إن بعض عائلات هذه المدينة احتفظوا بمفاتيح البيوت التي غادروها في غرناطة وإشبيلية وقرطبة وبلنسية وغيرها من مدن الأندلس التي تعج بالحضارة وفنون العمارة.
محلات أندلسية قديمة
ويمكن لزائر المدينة أن يشعر وهو يتجول في أرجائها وكأنه في أحد أرياف جنوب إسبانيا، حيث بنيت سطوح المنازل بالقرميد الأحمر ولا يزال السكان يحافظون على هذا النمط المعماري حتى اليوم، وتعود أصول جميع سكان هذه البلدة إلى غرناطة، حيث شيدوها على منوالها وأطلقوا على الساحات والأنهج الأسماء نفسها التي تذكرهم بمدينتهم القديمة مثل الحمراء وغرناطة وغيرها.
من أبرز معالم المدينة الجامع الكبير الذي بناه محمد تغرينو سنة 1630، ويجسم بهندسته ومواده وزخارفه فن النهضة الإيطالية الإسبانية خاصة في المحراب الشبيه بقوس نصر روماني أو واجهة معبد بيزنطي أو كنيسة، وهناك أيضًا جامع السلوقية وهو شبيه بأديرة الأرياف الإسبانية في مظهره العام وبنائه بالقرميد، وكذلك زاوية سيدي نصر القرواشي التي بناها الحاج عبد الواحد المغراوي سنة 1733، وفي قبة الضريح يبدو الأثر الأندلسي.
لإن ارتبط قدوم الموريسكيين إلى تونس بذكرى أليمة على المسلمين وانتكاسة كبيرة في تاريخ الحضارة الإسلامية ما زالت آثارها قائمة إلى اليوم، فقد مثلت هجرتهم إلى تونس طوق النجاة التي خرجت بها البلاد من أزمة كانت تعيشها في تلك الفترة، أثرت على جميع مناحي الحياة هناك.