“إحنا في دايرة العوز، عوز الدولة وأنا بقولها على الملأ، قدامنا خياران، يا نكافح ونصبر ونوصل بفضل الله سبحان وتعالى، يا نقول مفيش فايدة ونركن، أو نشحت والناس ما بتشحتش حاجة خالص”، رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في مؤتمر الإسكندرية للشباب الذي عقد في يوليو الماضي.
في الوقت الذي يشتكي المسؤولون بشكل دائم من ضعف الموارد، ثمة تعطيل لنظام الوقف الأهلي في مصر منذ عام 1952، في حين تستمر الأوقاف الخيرية التي تنفق على الفقراء والمساكين، تحت سلطة وزارة الأوقاف.
كان المجتمع المصري يعتمد بشكل كبير على الأوقاف التي اعتاد أصحاب الأموال والحكام إنشاءها، بالإضافة إلى الأهالي الذين كانوا يجمعون الصدقات لإنشاء الأوقاف، فقد تناول الدكتور إبراهيم البيومي غانم في كتابه “الأوقاف والسياسة في مصر” هذه الظاهرة، ونعرض أبرز ما جاء في كتابه في هذا التقرير.
ما الأوقاف؟
يعرف غانم الأوقاف بأنها المال الذي يخرجه صاحبه من ملكه ويجعله في حكم “ملك الله”، ويخصص أرباحه للإنفاق على نوع من أنواع الخير الخاصة والمنافع العامة، وتنبع هذه الفكرة من نظام الصدقة الجارية الذي تعتمده الشريعة الإسلامية، استنادًا إلى الحديث النبوي “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.
لنظام الوقف دور في وجود مجال مشترك بين الدولة والمجتمع
وتتنوع أشكال الأوقاف ومصارفها، فهي ليست مقصورة على التبرع للفقراء والمساكين فقط، أو إدارة المساجد كما هو مفهوم في هذا الزمن، لكنها تشمل المدارس والبعثات التعليمية والمستشفيات والمكتبات العامة، وأسبلة (جمع سبيل) مياه الشرب والحمامات العامة، ومجالات أخرى.
كما يصف غانم الأوقاف بأنها “إدارة أهلية مستقلة تعمل بمبدأ التسيير الذاتي”، وصاحب الوقف هو صاحب الحق الأصيل في وضع إدارة للوقف وتحديد اختصاصاتها وصلاحياتها.
من المستفيد من نظام الأوقاف؟
يعتقد الدكتور إبراهيم البيومي غانم أن لحياة الوقف دورتين، إحداهما خاصة تتعلق بتفاصيل كل وقف، ودورة حياة عامة متعلقة بنظام الأوقاف ككل، ويعتبر نظام الأوقاف كنسق اجتماعي إسلامي هو مصدر من مصادر قوة المجتمع والدولة في نفس الوقت، ويمثل مجالاً مشتركًا للعلاقة بينها، فمن ناحية المجتمع، يوفر مؤسسات وأنشطة أهلية تتمتع بالتمويل الذاتي والاستقلال الإداري والنوع الوظيفي، وتقدم خدمات عامة وخاصة من دون مقابل في مجالات عديدة مثل التعليم والثقافة والعبادة والصحة وغيرها، في الوقت الذي يخفف فيه أعباء الدولة وعن مواردها، كما أن دعم رموز الدولة لهذا النظام من شأنه أن يقوي شرعية هذه السلطة نفسها، ويوثق علاقتها بالمجتمع.
لنظام الوقف دور في وجود مجال مشترك بين الدولة والمجتمع، لأنه -حسب المؤلف – يستمد شرعية وجوده من الشريعة الإسلامية، وهي قاعدة مستقلة ليست من وضع نظام الدولة أو من سلطة اجتماعية معينة، أيضًا يساهم الحكام والمحكومين في تكوين الأوقاف على حد سواء، كما أن الدولة والمجتمع مستفيدان من الأوقاف التي تزيد قوة التضامن الاجتماعي، وتشد من أزر الدولة ولا تنقص من قوتها.
في عام 1913 تم دمج الأوقاف تحت إدارة واحدة مع وزارة الأوقاف التي أنشأها الاحتلال الإنجليزي
أبرز الأمثلة على هذا النوع جمعية المساعي المشكورة التي نشأت عام 1892، بعد عشر سنوات من الاحتلال الإنجليزي لمصر، فقد نشأت الجمعية على يد بعض أصحاب الأملاك في المنوفية، وكان هدفها نشر المعارف والعلوم في أنحاء مراكز المنوفية.
لم يكن في المنوفية سوى مدرسة ابتدائية واحدة في شبين الكوم، فأنشأت الجمعية 5 مدارس أخرى، واحدة في كل مركز، كما أنشأت مدرسة ثانوية تحمل اسم الجمعية، وكانت خامس مدرسة ثانوية في الجمهورية، بعد أن كان هناك مدرستان في القاهرة ومثلهما في الإسكندرية.
وللإنفاق على هذه المدارس، أوقف بعض الأعيان أراضٍ زراعية يكون عائدها مصدر دخل دائم، أكبرها كانت وقفية رشوان باشا محفوظ التي قدمها بناءً على توجيهات من السلطان فؤاد، وكانت نحو 967 فدانًا زراعيًا، أيضًا نشأت المدارس الصناعية والزراعية في القليوبية عام 1909 على سبيل المثال، بالإضافة إلى مدارس مخصصة لتعليم البنات، كالتي أنشأتها فاطمة بنت الخديوي إسماعيل في المنصورة.
مشروع إنشاء جامعة القاهرة نفسه – المدرسة الجامعة في ذلك الوقت – كان للأوقاف دور بارز فيه، حيث إن مصطفي بك كامل الغمراوي أوقف 6 أفدنة زراعية لينفق عائدها على الجامعة، كما قدمت الأميرة فاطمة إسماعيل 6 أفدنة في بولاق الدكرور ليقام عليها الجامعة، وقدمت مجوهرات قيمتها في ذلك الوقت 18 ألف جنيه، وأوقفت 674 فدانًا، يكون عائدها مصدر للإنفاق على الجامعة.
لماذا انحسر نظام الأوقاف؟
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأت الدولة الحديثة في بناء مؤسساتها وأصبحت هذه المؤسسات تتولى نفس الأدوار التي تقوم بها الأوقاف فصارت الدولة في منافسة ومزاحمة مع هذا النظام.
دُمِجت الأوقاف بشكل عام في كيان إداري واحد هو الوزارة
تم دمج نظام الأوقاف في الإدارات الحكومية المتعاقبة على 3 مراحل، بدأت الأولى منذ عام 1851 عندما مارس ديوان عام الأوقاف ممارسة صلاحياته التي كانت محدودة في ذلك الوقت، وتتمثل في متابعة صرف الأوقاف على البنود المخصصة لها، لكن المشكلة كانت أن رواتب الموظفين في هذا الديوان تصرف من أموال الوقف نفسها، وعندما كثرت إدارات الأوقاف في الأقاليم، تحول الديوان في عام 1879 إلى نظارة (ما يشبه الوزارة حاليًّا).
أما المرحلة الثانية، فبدأت عام 1913 مع وزارة الأوقاف التي أنشأها الاحتلال الإنجليزي، وتم دمج الأوقاف تحت إدارة واحدة، تكررت حوادث السرقة والاختلاس، كما حدث عجز في ميزانية الوزارة مع الأزمة المالية التي حدثت في الثلاثينيات.
في المرحلة الثالثة تدهور وضع الأوقاف عندما أُدمِجت بشكل تام في البيروقراطية الحكومية، وصارت الأوقاف تابعة للدولة بشكل كلي بدلاً من الاستقلال الجزئي الذي كانت عليه، بدأت هذه المرحلة مع القوانين الجديدة التي وضعها الضباط الأحرار بعد عام 1952، وتم حل الأوقاف الأهلية التي كانت تقدم خدمات للأهالي، ولم يتم الإبقاء سوى على الأوقاف الخيرية.
كما تم توزيع الأراضي الزراعية الموقوفة على العاملين فيها، طبقًا لسياسة الإصلاح الزراعي، ودُمِجت الأوقاف بشكل عام في كيان إداري واحد هو الوزارة، بعدما كان الوضع السابق هو إدارة كل وقف بشكل مستقل، وكانت الوزارة ككل تتمتع باستقلال داخل الحكومة نوعا ما.
أيضًا أصبح للوزارة الحق في تغيير الجهة التي يفترض أن يصرف عليها الوقف، هذه التغيرات مخالفة لطبيعة الوقف، فأدت إلى ضعف دوره، بالإضافة إلى أن ضعف الثقة بالإدارات المسؤولة عن الإدارة، وقرار وقف إنشاء أوقاف جديدة، أدى إلى خفوتها شيئًا فشيئًا.
ويعتقد المستشار طارق البشري في المقدمة التي كتبها للكتاب أن الدولة الحديثة عندما عملت على تصفية مؤسسات المجتمع التقليدية، لم يكن بغرض إحلال المؤسسات الشعبية الجديدة محلها، ولكن لإحلال السيطرة المركزية للدولة الحديثة.
الفراغ الموجود في المساحة التي كانت تملأها الأوقاف الأهلية لا يمكن إنكاره
حدثت هذه التصفية رغم أن نظام الوقف كان يجمع بين التعليم التقليدي مثل المعاهد الدينية والكتاتيب والأزهر، والتعليم الحديث مثل التعليم العالي والبعثات التعليمية، كما أن التعليم التقليدي كان يشمل تدريس مواد متنوعة مثل الزراعة والفلك واللغات والفنون الجميلة، فكانوا يُدرسون في الأزهر.
وكانت النتيجة، أن نظام لا مركزي، وهو الأوقاف، بات يدار بشكل مركزي من الدولة، ويشبه غانم هذه الخطوات بأن “نهر الخير” الذي حافظت عليه مركزية الدولة القديمة، جففت مركزية الدولة الحديثة منابعه، وهو ما لم يعد بمصلحة على المجتمع ولا على الدولة.
هل مصر بحاجة إلى التوسع في نظام الأوقاف من جديد؟
يلاحظ المؤلف أن الاهتمام بموضوع الوقف في الوقت الحاليّ يتزامن مع تصاعد الاهتمام بالعمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، و”هجمة التمويل الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني”، وهو ما يجده مستوجبًا لمزيد من العناية بالوقف، وجود فراغ في المساحة التي كانت تملأها الأوقاف الأهلية لا يمكن إنكاره، وتعترف السلطة نفسها بعدم قدرتها على عمل كل شيء للمواطنين، بل وتتنصل منها أحيانًا.
أبرز الأمثلة على ذلك، تصريحات الرئيس السيسي عن المبالغ اللازمة لتطوير السكة الحديد، حيث قال: “طيب الكلام ده هنجيبه منين، هندفعه منين، الدولة ماتقدرش تدفعه”، كما أن العمل الخيري الذي هو في مرتبة أقل من الأوقاف الخيرية نفسه تأثر بشكل كبير بعد 2013، وغياب كثير من القائمين عليه.
من وقت لآخر تطلب السلطات المصرية التبرع والمساهمة لصناديق خاصة تحت إدارتها وإشرافها مثل صندوق تحيا مصر، وبغض النظر عن عدم الشفافية التي تحيط بحجم الأموال التي تصل إليها أو البنود التي تصرف عليها، فإن فكرة نظام الوقف تقوم بالأساس على أن يكون خاضعًا لإدارة الأهالي ومستقلاً عن البيروقراطية الحكومية.