على مدار العقود الماضية، سعت حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة إلى مصادرة أراضي الفلسطينيين، ورفض الاعتراف بهم كسكان أصليين، ويتجلى هذا المنطق بشكل أوضح في توسيع المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتهجير الفلسطينيين واستبدالهم بالمستوطنين من أماكن أخرى، وبالتالي حرمانهم من كامل حقوق السكان الأصليين بموجب القانون الدولي.
كما تفعل “إسرائيل” ذلك مع الفلسطينيين، فإنها فعلته مع غيرهم من السكان الأصليين في الكثير من الدول حول العالم، حتى أصبحت تجاربها في قمع السكان الأصليين وسحق كرامتهم أكثر قابلية للتسويق في أماكن أخرى من العالم.
هواية العقاب الجماعي للسكان الأصليين في أمريكا اللاتينية
كانت “إسرائيل” مصدرًا للأسلحة والتدريب العسكري والأمني لبعض الأنظمة الاستبدادية، خاصة في أمريكا اللاتينية، وامتدت علاقتها مع الطغمات العسكرية في نصف الكرة الغربي إلى اللوبي الإسرائيلي أيضًا، وأثارت تحالفاتها مع هذه الأنظمة مخاوف بشأن انتهاك حقوق السكان الأصليين.
تمتد علاقات “إسرائيل” العسكرية مع الجماعات والأنظمة اليمينية في أمريكا اللاتينية من المكسيك إلى أقصى جنوب تشيلي، وبدأت بعد سنوات قليلة من ظهور دولة الاحتلال، حيث دعمت الحكومات القمعية في هذه المنطقة لقمع حركات وانتفاضات السكان الأصليين.
كان الإسرائيليون حاضرين منذ البداية في حالة النزاع السلفادوري الذي استغرق 12 عامًا، زوَّدت خلالها “إسرائيل” القوات السلفادورية المسلحة بأدوات انتهكت بها حقوق السكان الأصليين
ومنذ ذلك الحين، سلَّحت “إسرائيل” مجموعات وأنظمة يمينية في بوليفيا والبرازيل وكولومبيا وكوستاريكا ونيكاراغوا وبنما وباراجواي وجمهورية الدومينيكان والإكوادور وهايتي وهندوراس وبيرو وفنزويلا، وتأثرت دول مثل تشيلي وغواتيمالا والأرجنتين والفلبين ونيكاراغوا والسلفادور والمكسيك سلبًا بـ”إسرائيل”.
لكن ليس فقط صفقات بيع الطائرات وأنظمة الأسلحة هي ما يميز الوجود الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية، فقد تفوقت “إسرائيل” في تقديم المشورة والتدريب وإدارة العمليات الاستخباراتية ومكافحة التمرد في الحروب الأهلية في أمريكا اللاتينية، فيما عُرفت بـ”الحروب القذرة”، في الأرجنتين والسلفادور وغواتيمالا ونيكاراغوا وكولومبيا.
يعترف زعيم القوات شبه العسكرية الكولومبية ومهرِّب المخدرات كارلوس كاستانيو جيل، الذي كان يقود أكبر قوة شبه عسكرية يمينية متطرفة في أمريكا الجنوبية تكونت من قتلة تم استئجارهم لحماية عمليات تهريب المخدرات وكبار ملاك الأراضي، أنه تدَّرب على فنون الحرب في “إسرائيل” عندما كان شابًا يبلغ من العمر 18 عامًا في الثمانينيات، وأنه استوحى المفهوم شبه العسكري من الإسرائيليين.
ووفقًا لتقرير استخباراتي للشرطة السرية الكولومبية عام 1989، بصرف النظر عن تدريب كاستانيو في “إسرائيل” عام 1983، وصل مدربون إسرائيليون إلى كولومبيا عام 1987 لتدريبه هو وغيره من القوات شبه العسكرية التي شكَّلت فيما بعد “قوات الدفاع الذاتي المتحدة الكولومبية”، التي تم تنظيمها في قوة متماسكة عام 1997، وبعد ذلك، تم إرسال 50 من أفضل طلاب القوات شبه العسكرية في منح دراسية إلى “إسرائيل” لتلقي المزيد من التدريب.
وفي شهر مايو/أيار عام 2012، تمكنت شركة إسرائيلية مرتبطة بجيش الاحتلال، ومقرها غواتيمالا، من شراء 3 آلاف بندقية كلاشينكوف هجومية و2.5 مليون طلقة ذخيرة تم تسليمها بعد ذلك إلى القوات شبه العسكرية في كولومبيا.
وأصبحت “قوات الدفاع الذاتي المتحدة” أكبر قوة شبه عسكرية يمينية على الإطلاق في نصف الكرة الغربي، حيث عملت خارج القانون، لكنها غالبًا ما تنسق أعمالها مع الجيش الكولومبي، وبلغ عددها ما بين 10 آلاف إلى 12 ألف رجل مسلح، وهي الآن أسوأ منتهك لحقوق الإنسان في كلتا الأمريكيتين، فقد وضع عنفها سكان وايو وجماعات السكان الأصليين المحليين تحت ضغوط شديدة، واضطر الكثير منهم إلى الفرار عبر الحدود إلى الدول المجاورة.
ويبدو أن هواية “إسرائيل” المتمثلة في العقاب الجماعي للسكان الأصليين أثبتت أنها مفيدة بشكل خاص، فعلى الرغم من حل القوات شبه العسكرية الكولومبية رسميًا، فإنها تواصل ترويع السكان المدنيين، وغالبًا ما يتم ذلك بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية التي اشتهرت بذبح المدنيين وتلبيس الجثث بزي مقاتلي حرب العصابات المناهضين للحكومة.
وكان الإسرائيليون حاضرين أيضًا منذ البداية في حالة النزاع السلفادوري الذي استغرق 12 عامًا، زوَّدت خلالها “إسرائيل” القوات السلفادورية المسلحة بأدوات انتهكت بها حقوق السكان الأصليين، وانتهت بمقل نحو 75 ألف سلفادوري، وأُخفي 8 آلاف بأيدي “فرق موت” على الأغلب.
ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، جاء 83% من واردات السلفادور العسكرية من “إسرائيل” من عام 1975 إلى عام 1979، وإلى جانب مبيعات الأسلحة، ساعد الإسرائيليون في تدريب وكالة الأمن الوطني في السلفادور، وهي الشرطة السرية التي شكلت فيما بعد “فرق الموت” سيئة السمعة التي قتلت عشرات آلاف الناشطين معظمهم من المدنيين.
ومن المثير للدهشة أنه بينما كان الإسرائيليون يدربون فرق الموت السلفادورية، كانوا يدعمون أيضًا “الحرب القذرة” التي شنتها الحكومة العسكرية الأرجنتينية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، والتي اتسمت بالاختفاء القسري الجماعي والتعذيب على الرغم من التوجه المعادي للسامية للمجلس العسكري الأرجنتيني.
وللمكسيك أيضًا تاريخ في شراء الأسلحة من “إسرائيل” واستخدام أفراد عسكريين إسرائيليين ضد انتفاضة زاباتيستا المسلحة القصيرة في جنوب المكسيك في يناير/كانون الثاني عام 1994، بدعوى تطهير الأراضي من مجموعات السكان الأصليين والفلاحين وغيرهم من الأشخاص الذين يعيق وجودهم استغلال الموارد.
يُوصف التعاون العسكري الإسرائيلي مع الحكومة المكسيكية في ولاية تشياباس في أقصى جنوب المكسيك، حيث يتمركز جيش زاباتيستا للتحرر الوطني الذي يتكون أغلبيته من السكان الأصليين للإقليم من سلالة المايا، بأنه “دليل إضافي على كيفية استخدام أدوات المراقبة والقمع التي تم اختبارها ميدانيًا على الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم”.
وفي مايو/أيار 2013، تحدثت وسائل إعلام مكسيكية عن أن جيش الاحتلال الإسرائيلي سوف يبدأ في تدريب قوات الأمن في تشياباس، ونُقل عن ممثل وزارة الدفاع الإسرائيلية في المكسيك وهندوراس وجمهورية الدومينيكان، يارون يوغمان، تأكيده على أن “أمن أي بلد أمر أساسي لنموه”، وأن حقوق الإنسان ستكون أحد محاور التركيز في التعليم العسكري.
وبطبيعة الحال، فإن الأمن والنمو اللذين تحدث عنهما ليسا من الحقوق المخصصة عادة لمجموعات السكان الأصليين المحلية، والحقيقة أن انعدام الأمن العالمي يشكل عنصرًا أساسيًا في نمو “إسرائيل”.
لم يكن سكان المايا الأصليين في المكسيك المجموعة الوحيدة التي وجدت نفسها في مواجهة الطرف المتلقي للترسانة الإسرائيلية، فقد كانت الحالة الأكثر دموية على الإطلاق للتورط الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية هي تورطها في غواتيمالا في عصر الحرب الأهلية التي شنتها الحكومة من السبعينيات حتى التسعينيات، عندما تدخلت “إسرائيل” نيابة عن الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان.
زوَّدت “إسرائيل” النظام الغواتيمالي في ذروة الإبادة الجماعية وحملة الأرض المحروقة ضد الجماعات اليسارية المدعومة بالأساس من المزارعين المنتمين لسكان المايا الأصليين وشعب اللادينو بأجهزة كومبيوتر وبرامج أخرى تُستخدم للمراقبة، والمعدات العسكرية، بما في ذلك المروحيات وبنادق “آي أم آي جليل”، وأنشأوا مصنعًا للذخيرة في مدينة كوبان.
كما زوَّدته بناقلات الجند المدرعة وطائرات الإقلاع والهبوط القصير، وكانوا يشاركون خلف الكواليس بنشاط في حملة مكافحة الانتفاضة الأكثر دموية التي عرفها نصف الكرة الأرضية منذ الغزو الأوروبي، والتي خلًّفت في نهاية المطاف 200 ألف قتيل، و626 مجزرة في قرى المايا، وهدم مواقع المايا المقدسة، وتدمير مئات القرى وتشريد مليون شخص داخليًا بما في ذلك العديد من المايا، تمامًا كما فعل الاحتلال الإسرائيلي مع الفلسطينيين.
وفي حين لم تتمكن الولايات المتحدة من دعم الجيش الغواتيمالي علنًا بسبب سجله المروع في مجال حقوق الإنسان، دعم الكثيرون في الحكومة الأمريكية، وخاصة في وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه”، “إسرائيل” لتعويض هذا النقص.
وبعبارة أخرى، خلال الحروب الأهلية التي لا تريد الولايات المتحدة أن تظهر فيها أيديها متسخة في أمريكا اللاتينية، تقوم القوة العظمى بإقراض “إسرائيل” الأموال، التي تستخدمها للقيام “بالعمل القذر”، وفي هذا الصدد، وفي أمريكا اللاتينية على الأقل، أصبحت “إسرائيل” بمثابة “القاتل المأجور” بالنسبة للولايات المتحدة.
ويشير تقرير صدر عام 2012 بعنوان “دور إسرائيل العالمي في القمع الذي تمارسه الشبكة اليهودية الدولية المناهضة للصهيونية” إلى أن خبرة “إسرائيل” الواسعة في تهجير الفلسطينيين مكَّنت من المساعدة في تخطيط وتنفيذ سياسات “الأرض المحروقة” في كل من غواتيمالا والسلفادور.
وفي جمهورية نيكاراجوا، قامت “إسرائيل” بزيادة إمدادات الأسلحة إلى الديكتاتور أناستاسيو سوموزا، وساعد عملاء إسرائيليون في تدريب جماعات “الكونترا” اليمينية المناهضة للساندينيين (الجبهة الساندينية للتحرير الوطني) في معسكرات هندوراس وكوستاريكا، وكان بعض هؤلاء العملاء على الأقل قد قاموا في السابق بتدريب نواة “قوات الدفاع الذاتي المتحدة” في كولومبيا.
كما لعبت إمدادات “إسرائيل” من الأسلحة، بما في ذلك طائرات المراقبة دون طيار والطائرات المقاتلة والبوارج الحربية وغيرها من المعدات والتكنولوجيا العسكرية، إلى سريلانكا خلال الحرب الأهلية التي دامت 29 عامًا، دورًا في ارتكاب جرائم حرب انتهت بمقتل عشرات آلاف من المدنيين، ودربت “إسرائيل” القوات السريلانكية، ما ساعدها في هزيمة “حركة نمور تحرير تاميل إيلام”، التي سعت للاعتراف بحقوق أقلية التاميل.
تجارب متطابقة
بعيدًا عن أمريكا الجنوبية، وفي أماكن أخرى من العالم، كثيرًا ما تُقارن “إسرائيل” بجنوب إفريقيا كدولة فصل عنصري، وكذلك يُقارن النضال في جنوب إفريقيا الذي كان مصدرًا للإلهام بالمقاومة الفلسطينية، فقد تأسس نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) على مبدأ استخدام العنف كضرورة للدفاع عن المستعمر الأبيض بوصفه ممثلًا للحضارة الزائفة ضد السكان الأصليين بوصفهم ممثلين للهمجية أو التحضر المتدني، وهو المبدأ الذي تستحضره طبيعة العنف الإسرائيلي، وخطاب العقاب الجماعي الذي يفرض نظام مؤسساتي من القمع والهيمنة على الفلسطينيين باعتبارهم “مجموعة عرقية غير يهودية من درجة أدنى”.
وصل التحالف بين جنوب إفريقيا و”إسرائيل” إلى حد عرض الأخيرة بيع رؤوس حربية نووية لجنوب إفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، ما وفَّر حينها أول دليل موثق رسمي على امتلاك الدولة للأسلحة النووية
هذا الاتفاق المسبق بين الدولتين حول تعزيز نظام الفصل العنصري جعل جنوب إفريقيا أكبر عميل لصناعة الأسلحة الإسرائيلية خلال سنوات نظام الرئيس السابق بيتر ويليم بوتا، ووصل التعاون إلى ذروته في فترة الثمانينيات، والتي تبين أنها كانت أيام احتضار نظام الفصل العنصري.
ساعدت “إسرائيل” في تعزيز نظام الفصل العنصري المعزول دوليًا، حيث موَّلت جنوب إفريقيا مشاريعها الأكثر طموحًا في ظل نظام الحكم والسياسة العنصرية التي استندت على مبادئ الفصل العنصري بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأكثرية من السود أصحاب الأرض الأصليين، وتقسيم الأفراد إلى مجموعات عِرقية والفصل بينهم، وتفضيل البيض على السود في جميع المجالات لضمان تفوّق الأقلية البيضاء.
وفي صيف عام 1988، أبرمت صناعة الأسلحة الإسرائيلية ـ التي كانت متعطشة للأموال وتعاني من العزلة الدولية – صفقة سرية وغير مسبوقة بقيمة 1.7 مليار دولار، لبيع 60 طائرة مقاتلة من طراز “كفير” لجنوب إفريقيا التي أعادت تسميتها بـ”أطلس شيتا”، وصوَّرتها على أنها مشروع لقواتها الجوية، وقللت من أهمية تورط “إسرائيل”، والحقيقة أنها كانت تخشى التدخل السوفييتي والكوبي في الحرب الأهلية في أنجولا المجاورة.
وبعد عدة أسابيع من توقيع صفقة “كفير”، تفاخرت شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية بإنجاز آخر مع إطلاق أول قمر اصطناعي ضمن أقمار التجسس “أوفيك”، وكانت مشاركة نظام الفصل العنصري في تمويل هذا المشروع – الذي تم وضعه على الرف تقريبًا لأسباب مالية – حاسمة، لكن هذه المشروعات الضخمة لم تنقذ نظام الفصل العنصري المحاصر في بريتوريا.
بخلاف توريد الأسلحة والتدريب العسكري، شمل التحالف بنادق “آي أم آي جليل”، المنتجة في العاصمة الكولومبية بوغوتا، ووصل التحالف بينهما إلى حد عرض “إسرائيل” بيع رؤوس حربية نووية لجنوب إفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، ما وفَّر حينها أول دليل موثق رسمي على امتلاك الدولة للأسلحة النووية رغم سياسة “الغموض” التي تنتهجها في عدم تأكيد أو نفي وجودها.
وتظهر وثائق جنوب إفريقيا التي رُفعت عنها السرية أن الجيش في حقبة الفصل العنصري أراد استخدام الصواريخ النووية كرادع ولضربات محتملة ضد الدول المجاورة، وخلال المحادثات التي جرت بين وزيري دفاع البلدين في ذلك الوقت (بيتر ويليم بوتا وشيمون بيريز) عرض الإسرائيليون رسميًا بيع جنوب إفريقيا بعضًا من صواريخ “أريحا” ذات القدرة النووية الموجودة في ترسانتها رغم العقوبات الدولية والحظر ضد جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.
وفي نهاية المطاف، طورت جنوب إفريقيا تكنولوجيا الصواريخ النووية المتقدمة الخاصة بها، ولو بمساعدة إسرائيلية، لكن التعاون في مجال التكنولوجيا العسكرية نما فقط خلال السنوات التالية، حيث زوَّدت جنوب إفريقيا “إسرائيل” بالكثير من اليورانيوم الأصفر الذي احتاجته لتوسيع ترسانتها من الصواريخ والأسلحة النووية.
ومن عجيب المفارقات أن الإسرائيليين يأملون أن يصبح تحالفهم العسكري والاقتصادي الشامل مع نظام الفصل العنصري في بريتوريا منسيًا ومتجاهلًا اليوم كما حدث مع رئيس وزراء جنوب إفريقيا بالتزاهار جونسون فورستر الذي اُعتقل خلال الحرب العالمية الثانية، باعتباره متعاطفًا مع النازيين، وبعد ثلاثة عقود تم تكريمه في القدس.
بصمة “إسرائيل” ضد الأرمن
تستمر “إسرائيل” في تقديم الأسلحة والخبرة إلى المنبوذين في العالم، ويعود جزء من الأسباب إلى الإيرادات الناتجة عن مبيعات الأسلحة، ويتعلق الجزء الآخر بمواكبة اتجاهات الحرب ضد الثورات والحركات الشعبية في جميع أنحاء العالم، لكن هناك عاملًا آخر يتمثل في ما تطلبه الولايات المتحدة من “إسرائيل” في مقابل جزئي لاستمرار دعمها للهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط.
وفي آخر حلقات قمع السكان الأصليين التي تجاوزت حدود الشرق الأوسط، زوَّدت “إسرائيل” أذربيجان بشحنات من الأسلحة القوية التي شملت الطائرات دون طيار والمدفعية الثقيلة وقاذفات الصواريخ قبل هجومها واسع النطاق ضد جارتها أرمينيا، وسيطرتها على ناغورني قره باغ في سبتمبر/أيلول 2023، وبدت بصماتها موجودة في جميع أنحاء التطهير العرقي في هذا الجيب العرقي الأرمني، حيث اُستخدمت الأسلحة الإسرائيلية ضد المدنيين في المنطقة المضطربة جنوب جبال القوقاز.
ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن نحو 69% من واردات باكو الرئيسية من الأسلحة جاءت مباشرة من “إسرائيل”، وتشكل هذه النسبة ما يقارب 17% من صادرات الأسلحة الإسرائيلية التي بلغت 740 مليون دولار في السنوات الخمسة الماضية، والتي غزَّت الصراع الأخير بين أذربيجان وأرمينيا، الذي زاد من التدقيق في علاقتها التي أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر علانية مع “إسرائيل”.
أثرت الأسلحة الإسرائيلية على ديناميكيات المنطقة مما أثر على الأرمن الأصليين، ومنذ ذلك الحين، فر معظم الأرمن الذين يعيشون هناك، والذين يبلغ عددهم 120 ألفًا، تاركين عاصمة شبه مهجورة يصفها أحد قادة الأزمات في الصليب الأحمر بأنها “سريالية”، وتصف أرمينيا النزوح بأنه شكل من أشكال التطهير العرقي.
يتقاطع التاريخ الأليم بين الأرمن والفلسطينيين، ويحمل الحاضر تهديدات وجودية مشتركة يرونها اليوم في منطقة ناغورني قره باغ، لكن هذا ليس التهديد الوحيد الذي يواجهه الأرمن، ففي القدس الشرقية المحتلة، هناك منطقة أرمنية أثرية تشكل 14% من مساحة المدينة القديمة، ويقطنها نحو ألفي أرميني من أصل 10 آلاف في فلسطين، تواجه تهديدًا وجوديًا لتغيير الواقع على الأرض من خلال السياسات الإسرائيلية منذ سنوات.
وتستغل “إسرائيل” انشغال العالم بتطورات الحرب على غزة للاستيلاء على عقارات الأرمن، ويحاول المستوطنون الإسرائيليون الاستفراد لتمرير صفقة هي الأخطر والأكثر كارثية في تاريخ الحي، وهي صفقة أُحيطت بها سرية تامة حين أُبرمت عام 2021، لاحتكار جزء من أراضي الأرمن واستثمارها بشكل مشترك.
استنساخ تكتيكات القمع الإسرائيلية
لا تقتصر الشراكة بين “إسرائيل” والهند على تبادل تكتيكات مماثلة في الاستيلاء على الأراضي، وتهجير الناس، وتجريم المعارضة، وقمع الصحفيين، والسيطرة على حركة الناس، لكنها تمتد إلى الاستراتيجيات العسكرية المشتركة، وتكنولوجيا المراقبة والتدابير القمعية من أجل قمع المعارضة بين الفئات المهمشة.
وفي فبراير/شباط الماضي، على سبيل المثال، اُستلهم قرار استخدام طائرات مسيَّرة لإنشاء قاعدة بيانات للمتظاهرين وإطلاق الغاز المسيل للدموع على المزارعين الذين يطالبون بأسعار أفضل للمحاصيل، من زيارة رئيس وزراء حكومة هاريانا، مانوهار لال خطار، مع وفد من كبار مسؤولي الشرطة، إلى “إسرائيل” خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى في مايو/أيار 2018، فقد أمضى رئيس الحكومة وإدارته السنوات الستة التالية في محاولة تكرار تكتيكات الشرطة والجيش الإسرائيلية داخل ولايته.
ويأتي استخدام الطائرات المسيَّرة كوسيلة لقمع الاحتجاجات بعد أسابيع قليلة من الكشف عن أن طائرات مسيَّرة هندية الصنع من طراز “هيرميس 900” – تم إنتاجها بالشراكة مع “أنظمة إلبيط”، أكبر شركة مصنعة للأسلحة في “إسرائيل” – قد شقَّت طريقها إلى جيش الاحتلال لاستخدامها في حرب غزة، في خطوة تزيد من تواطؤ الهند في سياسات “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين.
كما تسلط هذه الخطوة الضوء على العلاقات الاقتصادية والعسكرية المزدهرة بين البلدين، فعلى مدى العقدين الماضيين، شهدت الهند تقاربًا تدريجيًا مع “إسرائيل”، وأصبحتا شريكتين عسكريتين قويتين، حيث بلغت قيمة مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى دلهي أكثر من مليار دولار سنويًا، وبين عامي 2015 و2019، زادت المشتريات الهندية من الأسلحة الإسرائيلية بنسبة 175%.
وتبدي الحكومة الهندية، خاصة منذ أن أصبح ناريندرا مودي رئيسًا للوزراء، إعجابها بالتكتيكات الإسرائيلية بالإضافة إلى خططها لتكرار الأساليب الإسرائيلية، وكان اليمين الهندوسي واضحًا في تطلعه إلى محاكاة النهج الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين، خاصة في المناطق المتنازع عليها بشدة مثل كشمير التي تحتلها الهند، والمناطق التي يتمركز فيها المسلمون، والتي تقترب فيها المعاملة الهندية لهم من حافة الإبادة الجماعية.
ليس من المستغرب أن يتعاطف العديد من السكان الأصليين أو المستعمرين سابقًا مع القضية الفلسطينية، بينما تميل الدول التي قمعت السكان الأصليين إلى دعم “إسرائيل”
تعمل الحكومة الهندية على استنساخ الجهود التي يبذلها الاحتلال الإسرائيلي لمحو التراث والتاريخ والثقافة الفلسطينية بشكل منهجي، والتي دمَّرت من خلالها أكثر من 500 قرية فلسطينية منذ النكبة عام 1948، وهدمت آلاف المنازل لإفساح المجال أمام المستوطنات غير القانونية، في حين يخلق هدم المنازل والمتاجر عمدًا في الهند ظروفًا قد تؤدي إلى التدمير الفعلي لحياة المسلمين.
وفي الصيف الماضي، شهدت هاريانا أعمال عنف متطرفة ومُنسقة ضد المسلمين تحت أنظار الشرطة، وقد ارتكبتها عصابات باجرانج دال الهندوسية التابعة للهندوتفا، والتي تمثل جهات فاعلة عنيفة غير حكومية، مثل المستوطنين الإسرائيليين، وتبع ذلك تجريف منازل وممتلكات المسلمين بنفس الجرافات المستخدمة في فلسطين.
لماذا إذًا يدعم السكان الأصليون فلسطين؟
يعرف معظم الناس أن “إسرائيل” هي واحدة من أكبر منتجي ومصدري الأسلحة في العالم، حيث تبيع الأسلحة إلى نحو 130 دولة، وتسيطر على ما يقارب 2.5% من الصادرات العالمية للأسلحة الرئيسية اعتبارًا من عام 2022.
وتتجاوز ميزانية جيش الاحتلال العسكرية السنوية 20 مليار دولار، ويحتل المرتبة 17 بين أقوى جيوش العالم وفقًا لتصنيف “جلوبال فاير باور” لعام 2024، ولم يتم إدراج فلسطين في القائمة، بينما تحتل الولايات المتحدة التي تأسست على الإبادة الكاملة تقريبًا لسكانها الأصليين تقريبًا، المرتبة الأولى، وهي أكبر ممول لـ”إسرائيل”.
لذا ليس من المستغرب أن يتعاطف العديد من السكان الأصليين أو المستعمرين سابقًا مع القضية الفلسطينية، بينما تميل الدول التي قمعت السكان الأصليين إلى دعم “إسرائيل”، لكن لماذا دعم حقوق السكان الأصليين يعني دعم فلسطين؟ ولماذا يوسع السكان الأصليون الدعم لفلسطين ويشعرون بأنهم حلفاء لهم؟
لعقود من الزمن، كان النضال من أجل التحرير الوطني في فلسطين يُفهم على أنه جزء لا يتجزأ من النضال العالمي من أجل التحرر، وبما أن حركات التحرر الوطني كانت، بحكم تعريفها، نضال السكان الأصليين لتأكيد حقوقهم الجماعية في الحرية والمساواة والعدالة، فقد تم وضع النضال الفلسطيني كجزء من هذه الحركة الأصلية العالمية.
بما أن نضالات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم تتحالف مع نضال الفلسطينيين، فإن القوى الاستعمارية ليس لديها خيار آخر إلا دعم “إسرائيل” الاستعمارية الاستيطانية
ومنذ بداية الحرب التي شنتها “إسرائيل” على غزة، كانت بعض مظاهر الدعم للفلسطينيين موضع جدل واتهامات بأنها ترقى إلى مستوى الدعم لحماس، وفي نفس الوقت، كانت سببًا في تحفيز حركات التضامن العالمية، وخاصة تلك التي تستثمر في حقوق السكان الأصليين.
واجتذبت الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر من غزة منذ شهور، وتصور حطام المدارس والمستشفيات، والجثث مجهولة الهوية، وأصوات القنابل الخارقة، والدخان الخانق، إلى جانب السكان الصامدين الذين يقاتلون من دون كهرباء ومرافق المياه والمساعدات الغذائية والطبية، الملايين من السكان الأصليين – الذين شهدوا هم أنفسهم مثل هذا العنف لعدة قرون – لدعم القضية الفلسطينية.
وعلى مدار الأشهر الماضية، جرت مسيرات احتجاجية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني في جميع أنحاء العالم، واجتذبت حشدًا متنوعًا من الناس، بما في ذلك العديد من الدول والمجتمعات الأصلية، وندد المحتجون بـ”الإمبريالية الأمريكية” لدعمها العدوان الإسرائيلي الذي أفضى إلى التطهير العرقي والإبادة الجماعية، بينما اتهم آخرون “إسرائيل” نفسها بـ”الاستعمار الاستيطاني”.
وبينما تضع مجتمعات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم ثقلها خلف الفلسطينيين، يقارن العديد من الناشطين والأكاديميين بين محنة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال في غزة وتجارب السكان الأصليين حول العالم، ويرى بعضهم أوجه تشابه وروابط بين الاثنين، فقد خلق العنصر المشترك المتمثل في “إنهاء الاستعمار” بكل مظاهره، روابط متقاطعة بين مختلف النضالات حول العالم، وسمح للنضال الفلسطيني من أجل التحرير بأن يتناسب تمامًا مع السرد العالمي الجديد.
وينضم الآلاف من الذين يعرفون ما يعنيه دعم حقوق السكان الأصليين، والذين يفهمون ما حدث لهم ولماذا، إلى المسيرات ضد نفس الجرائم التي تُرتكب ضد الفلسطينيين، وينبع تضامنهم مع الفلسطينيين من تجربتهم مع الاستعمار الاستيطاني، وهو شكل من أشكال الاستعمار الذي يعمل من خلال استبدال السكان الأصليين بمجتمع استيطاني
وتنطبق تسمية الدول الاستعمارية الاستيطانية على “إسرائيل” أيضًا، ويمكن التدليل على ذلك بالاستيطان المستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب السياسات الأخرى التي تزيح الفلسطينيين عن ديار أجدادهم، وتحتوي هذه السياسات على أوجه تشابه مع تلك التي أدت إلى نزوح أو تجريد مجتمعات السكان الأصليين في أماكن أخرى من العالم.
وغالبًا ما تُعتبر الدول التي سارعت بتأييد الاحتلال أيَضًا مثل الولايات المتحدة وألمانيا وكندا وبريطانيا، أمثلة على الدول الاستعمارية الاستيطانية، ورغم وجود فروق مهمة من حيث العادات والتقاليد والثقافات والجغرافيا والتاريخ والسكان المختلفين المعنيين، فإن الشعوب الأصلية تتقاسم واقعًا غير سار، وفي تجربة حرمانها من أراضي أجدادها، وهي تجربة التهميش والتمييز والنزوح والتطهير العرقي.
على سبيل المثال، في أستراليا، البلد الذي يعاني فيه السكان الأصليون من ممارسة الشرطة والسياسيين العنصريين والفقر المستشري، كانت جميع الفظائع التي تعرض لها السكان الأصليون، بما في ذلك الهجمات العنيفة التي شنها جنود مسلحون ومصادرة الأراضي والفصل الاجتماعي والشيطنة العنصرية، سمة من سمات حياة الفلسطينيين منذ عقود.
ويتجلى الاعتراف بالرعب من العنصرية التي يواجهها السكان الأصليون في أستراليا في الرد على الحرب الإسرائيلية على غزة، وينعكس ذلك في الآلاف من مناهضي العنصرية الذين حضروا الاحتجاجات ضد الحرب، فضلاً عن العديد من تعبيرات التضامن على وسائل التواصل الاجتماعي التي تربط نضال السكان الأصليين والفلسطينيين.
وبما أن نضالات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم تتحالف مع نضال الفلسطينيين، فإن القوى الاستعمارية ليس لديها خيار آخر إلا دعم “إسرائيل” الاستعمارية الاستيطانية، التي تمثل بالنسبة لها حليفًا مهمًا وقاعدة عمليات في منطقة جيوسياسية معادية إلى حد كبير.