أن تصبح أبًا وأمًا لطفل في قطاع غزة، بات حُلمًا صعبًا لمئات الأزواج في السنوات الأخيرة، وذلك بفعل تعاقب العدوان الإسرائيلي المستمر واستخدام الغازات السامة عبر الصواريخ والقنابل الدخانية التي أثرت بشكل كبير – وفق دراسات طبية – على معدلات الخصوبة.
ورغم ارتفاع تكاليف عملية “زراعة طفل أنابيب”، فإن الأزواج في قطاع غزة، يقدمون على هذه الخطوة عدة مرات حتى تقر أعينهم بإنجاب مولود أو توأم يزين حياتهم، وذلك من خلال المراكز المختصة، وهي قليلة في القطاع، لا يتجاوز عددها 10 مراكز.
وبفعل التطورات الطبية في مجال زراعة طفل الأنابيب، بات الأزواج يجمدون الأجنة لزراعتها في مرات قادمة، خاصة في حال لم تنجح تجربتهم الأولى أو الثانية أو حتى العاشرة وذلك حسب عدد الأجنة التي تنتج عند عملية التلقيح، لأن طريقة تجميد الأجنة تخفف عنهم الأعباء المادية.
وكعادتها “إسرائيل”، تعمل على قتل كل ما هو فلسطيني، فقد كشف تقرير لوكالة رويترز أن قذيفة إسرائيلية استهدفت أكبر مركز للخصوبة بقطاع غزة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تسببت في قتل نحو 5 آلاف من أجنة أطفال، بعد نزع الأغطية عن خمسة خزانات تحتوي على النيتروجين السائل كانت في زاوية من وحدة الأجنة.
وعندما تبخر السائل بالغ البرودة ارتفعت درجة الحرارة داخل الخزانات وقُضي بذلك على أكثر من 4 آلاف من أجنة أطفال الأنابيب إضافة إلى ألف عينة أخرى لحيوانات منوية وبويضات غير مخصبة كانت هي الأخرى مخزنة في مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب، وهو المركز الوحيد المختص بحفظ الأجنة والعينات في القطاع.
سيدات يروين معاناتهن في حفظ الأجنة
كان تأثير ذلك الانفجار الواحد بالغًا، ويعد مثالًا على الخسائر “غير المرئية” للحرب العسكرية الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من مئتي يوم على قطاع غزة، عدا عن أن تلك الأجنة كانت الأمل الأخير لعشرات الأزواج خاصة بمن تقدم بهن العمر وباتت فرصتهم الأخيرة كحال هداية مرزوق – 46 عامًا – وهي من غرب مدينة غزة لكنها نازحة داخل خيمة في مدينة رفح.
تصف لـ”نون بوست” حكايتها بالمؤلمة، فهي حاولت الإنجاب سبع مرات، إحدى هذه المرات كانت في مصر، وآخرها العام الماضي وكانت النتيجة سلبية، لكن لم تيأس كونها جمدت اثنين من الأجنة وكانت تنتظر زرعهما في رحمها بداية العام الجاري.
تقول: “نزحت إلى الجنوب كما طلب الاحتلال الإسرائيلي من سكان البناية التي نسكنها في شارع الجلاء، طيلة الوقت كنت أفكر وزوجي بالأجنة وأدعو الله أن يحفظهما كونهما حلمي الأخير بالإنجاب”.
وتضيف “جاء خبر استهداف مركز البسمة، لكنني لم أشاهد الصور عبر الإنترنت وبقي لدي الأمل بحفظ الأجنة، أو أن إدارة المركز حفظتهم في مكان آخر خاصة بسبب الاستهداف المتكرر للمنطقة”.
تصمت مرزوق قليلًا ثم تتنهد معلقة: “منذ 25 عامًا وأحلم بأن أصبح أمًا، وكانت فرصتي الأخيرة لأن زوجي أخبرني في حال فشلت التجربة الأخيرة سيتزوج عليّ”، مضيفة “حقه يكون أب”.
وذكرت أنه قبل أيام شاهدت صور المركز وعلمت بالخبر اليقين وهو استهداف مختبر الأجنة، وقتها صدمت وبكت كثيرًا وشعرت باليأس، فكل شيء تدمر بالنسبة لها “البيت هدم، وحلم الأمومة قصف”، حتى إن ثلاثة من أشقائها استشهدوا ولم يتبق لها إلا الخيمة التي تقيم فيها رفقة زوجها.
وهمست: “صحيح أنهما أجنة، لكنني كنت أشعر بالأمومة، أشعر بأنني أم مكلومة فقدت صغارها، أريد أن يواسيني العالم بأطفالي الذين عشت معهم في مخيلتي تفاصيل كثيرة”.
أما لبنى أبو قمر – 34 عامًا – تحمل في أحشائها جنينًا عمره 8 أشهر، خضعت لعملية “زراعة طفل أنابيب” قبل الحرب بشهر، ومنذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب نزحت رفقة زوجها عند أقاربها في خانيونس حتى تتلقى الرعاية الصحية اللازمة.
تقول: “بقيت مدة ثلاثة شهور في راحة كاملة، رغم أن الخوف كان يراودني وزوجي من خسارة الجنين الذي انتظرناه منذ عشر سنوات (..) وحين هدد الاحتلال باقتحام خانيونس ذهبنا إلى أقاربنا في رفح، وفروا لي مكان مريح عدا عن تأميني من “إبر الهيبارين”، ومن حين لآخر اخضع لفحص الطبيبة”.
وأضافت: “أتمنى أن تنتهي الحرب قريبًا وألد في أجواء هادئة بعيدًا عن خسارة جنيني، ففي مركز البسمة قتل ثلاثة أجنة قمت بتجميدهم، واليوم ما زلت متمسكة بجنيني أحاول حمايته والابتعاد عن كل الضغوط السلبية والتفكير في بعد عائلتي عني، حيث لا يزالون في شمال القطاع، وكنت أتمنى لو كانت أمي أو شقيقتي بجانبي يوم ولادتي”.
ومن داخل خيمة النزوح بدير البلح وسط قطاع غزة، تحكي وسام مصلح – 39 عامًا -، أنها خضعت لعمليات كثيرة في مصر وتركيا لتتمكن من الإنجاب، وحين عادت لغزة الصيف الماضي عاد لها الأمل حين تمكن الطبيب من معالجتها وزوجها وزراعة جنين واحد في أحشائها.
وحين اندلعت الحرب كانت في شهرها الثاني، حاولت مصلح حماية جنينها، وبقيت في مدينة غزة حتى وقت الهدنة نزحت مشيًا على الأقدام إلى مخيم النصيرات وسط القطاع.
مكثت شهرًا واحدًا حاولت فيه السيطرة على مخاوفها وعدم الهرب والهلع وقت وقوع الصواريخ بالقرب من البيت، لكن كانت النهاية مؤلمة “موت الجنين في بطنها لنقص الأكسجين” وعدم وفرة علاجها.
اليوم وصلت مصلح وزوجها منذ ثلاثة شهور إلى مصر بعد بيعها آخر ما تبقى لها من مصاغ، دفعته للتنسيق من أجل السفر، تحاول الاستقرار النفسي للعودة إلى العلاج.
وفي سؤالها عن إصرارها على الإنجاب في الوقت الذي يستهدف فيه الاحتلال الأطفال بشكل مباشر حتى وهم أجنة ردت: “جكر بالاحتلال سأحاول ألف مرة”.
ومن بين القصص التي فيها أمل، نعود إلى نور الهبيل – 33 عامًا – حملت طفلة أنابيب أنجبتها قبل ثلاثة أشهر وأسمتها “سلام”، حين علمت بتدمير مركز البسمة اجتهدت لحماية جنينها، فهي كانت تحتفظ بثلاثة أجنة تم القضاء عليهم.
تقول: “غامرت كي تأتي طفلتي سلام إلى هذا العالم، كدت أفقد روحي وقت ذهابي بالسيارة لولادتها كون منطقة المخيم الجديد في النصيرات كانت محاصرة ويوجد قناص يعتلي إحدى البنايات، أطلق النار على سيارة العائلة، لكن تمكنا من الفرار حتى ولادة طفلتي، وحين انسحب الجيش من المنطقة عدنا”.
وتضيف: “أخشى عليها كثيرًا خاصة وأنا أشاهد كيف يقتلون الأطفال الرضع، وكذلك الأجنة في بطون أمهاتهم”، معلقة: “رغم خوفي الشديد على صغيرتي لكن لدي أمل في بقائها على قيد الحياة، خاصة أن هناك العديد من الصغار الذين خرجوا من أرحام أمهاتهن الشهيدات”.
20 ألف طفل ولدوا منذ الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة
ووفقًا لتقرير رويترز، كان مختبر الأجنة في أبريل/نيسان الحالي، لا يزال مليئًا بالحطام ومستلزمات المختبر المدمرة.
في حين ظهرت خزانات النيتروجين السائل وسط الأنقاض، بينما كانت الأغطية مفتوحة، وظهرت في قاع أحد الخزانات سلة مملوءة بقصبات صغيرة ملونة بحسب رمزها تحتوي على الأجنة المدمرة.
يقول الدكتور بهاء الغلايني مدير المركز البسمة الطبي إنه وفريقه يدركون معنى خسارة 5 آلاف جنين للأهالي، فهم واكبوا معاناة الأزواج في مرحلة العلاج حتى تمكنوا من حقن طفل أنابيب والاحتفاظ بما تبقى من الأجنة للمرات المقبلة.
ويؤكد الغلايني أن خسارة الأجنة ليست مادية فقط رغم أن العملية تحتاج آلاف الدولارات، لكنها في ذات الوقت نفسية وتترك أثرًا كبيرًا على حياة الأزواج.
ونشر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني معطيات مفصلة عن معاناة الطفل الفلسطيني، وكشف بالأرقام أن “إسرائيل” تقتل نحو 4 أطفال كل ساعة في قطاع غزة، ويعيش أكثر من 43 طفلًا دون والديهم أو دون أحدهم.
وتحدث التقرير، بالتفصيل عن أعداد الأطفال القتلى في قطاع غزة، ما يفوق 14 ألف من الأطفال يشكلون 44% من إجمالي عدد القتلى في قطاع غزة، بالإضافة إلى 20 ألف طفل ولدوا منذ الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة.
كما تشير تقارير وزارة الصحة في قطاع غزة إلى تسجيل مئات حالات الإجهاض والولادة المبكرة نتيجة الذعر والهروب القسري.
ويبدو واضحًا تعمد المنظومة العسكرية الإسرائيلية استهداف الأطفال والأجنة، فهي تدرك أنه رغم قتل آلاف الصغار، فإن الأهالي في قطاع غزة يصرون على إنجاب جيل جديد يعي قضيته وخطورة المحتل عليها، فالثوار الذي يقاومون المحتل اليوم على الأرض هم من وُلد معظمهم خلال الانتفاضة الثانية سنة الـ2000 وحرب الفرقان 2008 -2009.