غيّب نظام الأسدين الأب والابن المكونات السورية المختلفة عن الحياة السياسية السورية، وحرمها من التعبير عن نفسها سياسيًا واجتماعيًا، وحجّم دورها، حتى ألغاه في بعض الحالات، إلى أن أعادت الثورة السورية فتح المجال العام ثانية أمام المكونات السورية للدخول في معترك السياسة من جديد.
التركمان السوريون كانوا جزءًا من هذه المكونات التي غابت تمامًا عن النشاط الاجتماعي والسياسي قبيل الثورة السورية، وتعرضوا هم الآخرون إلى ضغط النظام، إذ مُنعوا تمامًا من تشكيل أي منظمات اجتماعية وثقافية أو حركات سياسية في تلك الحقبة، لما اعتبره نظام الأسد من تهديد دائم يجب مواجهته، وعدّهم امتدادًا لتركيا والدولة العثمانية.
جاءت الثورة السورية لتحول مسار الحياة السياسية إلى منعطف آخر مثّل بداية مرحلة سياسية جديدة لبعض المكونات العرقية، وفرصة للتعبير عن نفسها ووجودها السياسي والتنظيمي مثل التركمان والأكراد والسريان الآشوريين، واختلفت طرق تعبير تلك المكونات عن نفسها تبعًا لأهدافها ورؤاها السياسية وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
التركمان والثورة السورية
عبّر التركمان عن أنفسهم سياسيًا وثقافيًا وعسكريًا عقب اندلاع الثورة السورية مباشرة، وانخرطوا في الحراك الثوري بشقيه السلمي والعسكري، فشاركوا في المظاهرات السلمية، ثم في العمل المسلح مع تحول الثورة إلى التسليح لحماية المدنيين من بطش النظام وأجهزته القمعية الأمنية، حيث شكل التركمان ألوية وكتائب تركمانية تتبع للجيش الحر، أو انضموا أفرادًا إلى باقي التشكيلات العسكرية التابعة وقتئذ للجيش الحر وباقي الفصائل الإسلامية كـ”حركة أحرار الشام الإسلامية” وغيرها.
لم يحظ التركمان بتجربة سياسية وتنظيمية حقيقية في تاريخ المشهد السوري، عدا مشاركتهم في مرحلة ما بعد الاستقلال من فرنسا غداة انفتاح المجال العام وما شهدته سوريا في ذلك الوقت من تجربة ديمقراطية حديثة، فكان من أبرز الشخصيات السياسية التركمانية في تلك الفترة أديب الشيشكلي وشكري القوتلي.
كان لا بد مع انطلاق الثورة السورية وتعقد مساراتها وتشعبها، من تشكيل تنظيم سياسي يعبر عن الحراك، ويلبي تطلعات التركمان السوريين ويطالب بحقوقهم، فتشكلت “الكتلة الوطنية التركمانية السورية” في فبراير/شباط عام 2012، من مجموعة ناشطين تركمان في الداخل السوري والمغتربين في المهجر، نشطت إغاثيًا في مناطق التركمان في الداخل السوري وفي تركيا، وقدمت دعمًا إغاثيًا لكتائب التركمان المسلحة في الجيش الحر، ورفعت شعار “تمثيل تركمان سوريا سياسيًا والسعي لتحقيق أهدافهم بتوحيد صف التركمان في المغترب لتشكيل نواة قوة سياسية تلعب دورًا أساسًا في الثورة السورية”.
تبع ذلك إعلان تأسيس “الحركة الديمقراطية التركمانية” في مارس/آذار 2013، رافعة شعار “بناء الإنسان، نبني الوطن”، حيث ركزت نشاطها في محافظة حلب، مطالبة ببناء دولة ديمقراطية تعددية، وإشراك التركمان في كتابة دستور جديد للبلاد، والاعتراف بالحقوق الثقافية والاجتماعية للتركمان، لينبثق من رحمها “حزب الحركة الوطنية التركمانية” عام 2014، معلنًا خلال مؤتمره التأسيسي هدفه في الحفاظ على هوية التركمان السوريين وثقافتهم.
أعقب ذلك تأسيس “حزب النهضة” في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، الذي تبنى مبادئ “الحرية والنهضة والعدالة”، حيث أكد في بيانه التأسيسي على ضرورة “الارتقاء بالمجتمع التركماني للوصول إلى الدولة المدنية التعددية البرلمانية الحرة حيث تكون الشريعة الإسلامية أهم مصدر للتشريع مع مراعاة بقية الشرائع”.
المجلس التركماني السوري.. المظلة السياسية الأوسع
في 30 مارس/آذار 2013 تأسس “المجلس التركماني السوري” في مدينة إسطنبول، منبثقًا من رحم “جمعية أتراك سورية”، أولى التشكيلات التركمانية السياسية التي تشكلت بعد الثورة عام 2012، لتولي شؤون اللاجئين السوريين التركمان.
حيث ضم المجلس تحت جناحيه معظم الأحزاب والحركات السياسية التركمانية، مثل “الكتلة الوطنية التركمانية السورية” و”حزب الحركة الوطنية التركمانية” و”حزب النهضة التركماني”، معربًا عن هدفه في تنظيم التركمان ليكونوا أكثر فاعلية في مشاركة المكونات الأخرى في بناء سوريا المستقبل، فكان المظلة السياسية الأوسع لتركمان سوريا، رغم انتقادات وجهها له البعض في وقت لاحق بأنه بات يعاني من ترهل مؤسساتي وعدم قدرته على التمثيل المناسب العادل للتركمان.
انضم المجلس التركماني للائتلاف الوطني الذي جمعه به علاقات جيدة، فدخل في مباحثات طويلة معه بدأت عام 2014، لبحث تمثيل أوسع للمكون التركماني داخله، حيث أقر الائتلاف عملية التوسعة، لتشمل رفع تمثيل المجلس التركماني إلى 9 أعضاء عام 2016، وأبرزهم عبد الرحمن مصطفى، الذي تولى نائب رئيس الائتلاف في العام 2017، ثم رئيسًا له في عام 2018، ورئيسًا للحكومة السورية المؤقتة منذ عام 2019.
تبنّى المجلس قرارات جنيف المتعلقة بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية دون أن يكون للأسد دور في مستقبل سوريا، وطالب بمشاركة التركمان في إدارة الدولة والمناطق التي يتواجدون فيها، داعيًا إلى وحدة سورية، واعتماد “الجمهورية السورية” بدلًا من “الجمهورية العربية السورية”، رافضًا إعلان الفيدرالية من قبل “حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD”، الذي جمعته به علاقات متوترة، حيث يتهمه المجلس بتهجير التركمان من المناطق التي سيطر عليها شمال شرقي سوريا.
جدير بالإشارة أن المجلس التركماني جمعته علاقات متينة مع تركيا، فحظي برعاية ودعم تركي واضح منذ تأسيسه، حيث حضر رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو المؤتمر التأسيسي للمجلس في أنقرة، الذي أشار فيه داوود أوغلو إلى التقارب الثقافي والعرقي مع التركمان السوريين، إضافة إلى اللقاءات المتكررة التي جمعت قيادات في المجلس والمسؤولين الأتراك والأحزاب التركية.
تركيا التي ترى نفسها راعية تاريخية وسياسية وثقافية للتركمان السوريين، خاصة المتمركزين في الشمال السوري في محافظتي حلب واللاذقية، ركزت جهودها على تقديم الدعم للقوى التركمانية السياسية منها والعسكرية، في سياق دعمها المبكر لقوى المعارضة السورية على المستويات الإعلامية والسياسية والعسكرية والإغاثية واللوجستية، فكان لها دور ثابت في سياق تنظيم القوى التركمانية على المستويين السياسي والعسكري، ليغدو التركمان رقمًا مهمًا ومؤثرًا على صعيد السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا.
وضمن الإطار العسكري، تشكلت فصائل عسكرية تركمانية عديدة منذ بداية الحراك المسلح ضد النظام قاتلت في صفوف الجيش الحر، وتفاعلت مع متغيرات الملف السوري العسكري، وعملت تلك الفصائل في مناطق ذات أغلبية تركمانية، لا سيما في محافظتي حلب واللاذقية، مثل “لواء السلطان محمد الفاتح”، و”فرقة السلطان مراد” في حلب، و”الفرقة الساحلية الثانية” التي تشكلت بعد اندماج عدة ألوية وكتائب تركمانية في اللاذقية عام 2015.
بالعودة إلى المجلس التركماني فقد جمعته علاقات جيدة مع الفصائل العسكرية التركمانية، لكن تلك العلاقة انحصرت في دوائر الدعم المعنوي والإغاثي من المجلس لتلك الفصائل، إذ يرى البعض بأنه لم تكن هناك سلطة مباشرة من السياسيين التركمان على العسكر، فضلًا عن عدم مشاركة المجلس بتقديم دعم عسكري واضح للفصائل.
في المجمل، شارك التركمان في العمل السياسي والعسكري منذ بداية الثورة السورية، وعملوا على إعادة إحياء دورهم في الحياة السياسية في سوريا، وتحقيق بعض المكاسب القومية المتعلقة بالمطالبة بتثبيت حقوق الشعب التركماني في دستور البلاد، وانخرطوا فعليًا في تأسيس الأجسام السياسية الائتلافية المعارضة، بداية بالمجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني والهيئة العليا للتفاوض، ولاحقًا في اللجنة الدستورية.