تزداد التحديات التي تواجه النازحين في العراق مع بداية فصل الشتاء، واستمرار التغافل الحكومي والدولي عن مأساتهم، فغالبيتهم يسكنون في معسكرات نزوح غير صالحة للحياة الإنسانية وغير متوفر فيها أبسط الاحتياجات التي تعينهم على الصبر وتحمل الظروف غير الاعتيادية التي يعانون منها.
ومنذ بداية كانون الثاني/يناير من العام 2014 وحتى 30 من تشرين الأول/أكتوبر 2017 حددت إدارة الهجرة الدولية وتتبعت عمليات النزوح، ووصلت إلى أن أعداد النازحين في العراق 3 ملايين و174 ألف الذين نزحوا داخل الأراضي العراق، ومحافظة نينوى أو الموصل (تبعد 465 كيلومترًا شمال بغداد) تعدّ من أكبر المحافظات الشاهدة على عمليات النزوح الداخلي، فوصلت الأعداد إلى أكثر من 987 ألف نازح”.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي أعلن ستيفان دوجاريك المتحدث الرسمي باسم الأمين العام الأمم المتحدة أن عدد النازحين في العراق منذ عام 2014 بلغ 5.4 مليون شخص.
التحركات الحكومية العراقية عاجزة عن إعادة الحياة إلى هذه المدن
استمرار معاناة النزوح الداخلي تعدّ واحدة من أكبر التحديات التي تواجه إعادة الحياة إلى المدن لأن بقاء الأهالي في الفلاة والصحراء يعني عدم الاستقرار النفسي والحرمان من الراحة والأمان والطمأنينة، والحرمان من التعليم، وازدياد الضغوط النفسية وبالذات على رب الأسرة حينما يجد نفسه عاجزًا عن تقديم أي شيء لعائلته خاصة بالنسبة للعوائل الفقيرة المضطرة للبقاء في هذه المعسكرات، واستمرار البطالة للقادرين على العمل من أفراد العائلة.
وقد أثبتت السنوات الماضية أن دور الحكومة عبر وزارة الهجرة والمهجرين ليس بمستوى الحدث، وربما مقتصر على تقديم بعض السلات الغذائية، وهذا لا يكفي لإنهاء معاناة أكثر من 3 ملايين نازح لأنهم بحاجة إلى حلول جذرية تنتشلهم من واقعهم المرير، وليس إلى سلات غذائية تبقيهم على قيد الحياة.
كارثة النازحين الحقيقية أنهم لم يجدوا من يوفر لهم الأرضية المقبولة إلى حد ما للعودة إلى ديارهم للحفاظ على كرامتهم وحياتهم، وفي الـ6 من الشهر الحاليّ حذرت الأمم المتحدة من أن إزالة مخاطر المتفجرات والمخلفات الحربية في مدينة الموصل العراقية الشمالية يحتاج إلى سنوات من العمل لتخلو المدينة منها، وأنه في اليومين الأولين من التقييم، أبلغَ المدنيون والوكالات الوطنية الأخرى عن أكثر من مئة من المخاطر المتفجرة إلى فِرَق الإزالة في طريق نينوى وهو الشارع الرئيسي الذي يمتد من الغرب إلى الشرق عبر المدينة القديمة.
وقبل أسبوعين قال عضو لجنة الهجرة والمهجرين البرلمانية زاهد الخاتوني: “عاصفة محملة بالغبار وصلت نينوى دون أن يتم الاستعداد لها جيدًا من الجهات المعنية بالنازحين، والمخيمات اقتلعتها الرياح وأودت بأهلها في العراء وبقي النازحون وحدهم، وبعد هذه العاصفة الترابية – وحتى قبلها – لم نلحظ اهتمامًا من مديرية الصحة وكأن الأمر لا يعنيهم، بل أكثر من ذلك أن الوضع مرّ دون أن يكلفوا أنفسهم بالوجود خلال العاصفة وتقديم الإسعافات الأولية للمصابين بأمراض الجهاز التنفسي”.
الحكومة ليس لديها رؤية واضحة لإعادة النازحين أو إعمار المناطق المدمرة، وهناك 400 ألف شخص لم يعودوا حتى الآن إلى صلاح الدين، و230 ألف نازح لم يعودوا إلى بيجي لأسباب غير معروفة
عدم صلاحية مدينة الموصل للحياة أكدته العديد من الأطراف المحلية والأجنبية، وسبق للمدير الأقدم لبعثة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في العراق بير لودهامر أن كشف اتساع نطاق وجود المتفجرات في الموصل بشكل لم يسبق له مثيل.
وسط هذه الأوضاع المزرية نجد أن الإهمال والاستخفاف والمتاجرة الحكومية بمعاناة النازحين وصلت لدرجة توزيع مواد منتهية الصلاحية، وهذا ما أكدته بعض المؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان، ومنها اتهام المفوض في المفوضية العليا لحقوق الإنسان (وحدة الجميلي) لفرق بوزارة الهجرة بتوزيع مواد غذائية منتهية الصلاحية ومن النوعيات الرديئة والمتعفنة على النازحين في مخيمات (الشهامة والكرامة) في محافظة صلاح الدين.
وهذا يشكل استهتارًا ولا مبالاة بحياة الناس البسطاء ويتنافى مع المبادئ التوجيهية بشأن النزوح الداخلي والمستوحاة من مبادئ حقوق الإنسان العالمية والقانون الدولي الإنساني.
في بداية الشهر الحاليّ أكد النائب عن صلاح الدين (157 كيلومترًا شمال العاصمة بغداد) شعلان الكريّم أن الحكومة ليس لديها رؤية واضحة لإعادة النازحين أو إعمار المناطق المدمرة، وهناك 400 ألف شخص لم يعودوا حتى الآن إلى صلاح الدين، و230 ألف نازح لم يعودوا إلى بيجي لأسباب غير معروفة، بالإضافة إلى 65% من عرب قضاء طوز، وكذلك جميع سكان القرى المحيطة بناحية آمرلي وسليمان بيك.
وأكد أيضًا أن تلك المناطق تعرضت إلى أضرار كبيرة في عمليات التحرير نهاية عام 2015 مما تسبب بتدمير 1267 منزلاً في 7 قرى محيطة بالطوز وآمرلي بشكل كامل.
وفي ديالى (45 كيلومترًا شمال شرق بغداد)، قالت مصادر محلية: “القوات المشتركة وميليشياتها تواصل منع مئات العائلات النازحة من العودة إلى منازلها في مناطق وقرى بناحيتي جلولاء والسعدية في ديالى، بدوافع طائفية ومن أجل تغيير مناطقهم ديمغرافيًا”.
قضية إعمار المدن العراقية المدمرة لا تقوى عليها حكومة بغداد وحدها، فهي بحاجة إلى مؤتمر دولي تنفيذي وليس شكليًا لجمع التخصيصات المناسبة
أمام هذه الحقائق المؤلمة نجد أن التحركات الحكومية عاجزة عن إعادة الحياة إلى هذه المدن، ولا تقوى حتى على إنعاشها والسعي لبث الروح فيها، وسبق لتقارير حكومية مختصة صدرت قبل شهرين عن أمانة مجلس الوزراء العراقي أن كشفت ضرورة تخصيص الحكومة ما لا يقل عن 20 مليار دولار للمدن المحررة حديثًا من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بغية توفير الحد الأدنى من الخدمات والبنى التحتية المدمرة والقطاعات التي تحتاج دعمًا عاجلاً في المدن المحررة ولها تماس مباشر بحياة المواطنين وأبرزها المستشفيات والمدارس والكهرباء والماء والاتصالات والطرق والجسور.
وقبل انتهاء معارك الموصل أعلنت وزارة التخطيط العراقية أن حجم المبالغ المطلوبة لإعادة إعمار المناطق المحررة يُقدر بنحو 100 مليار دولار، وخطة إعادة الاستقرار ستكون على مدى 10 سنوات، وبثلاثة مسارات رئيسية حسب الأولية والأهمية! وكم سيحتاج العراق اليوم لإعادة الإعمار بعد تدمير مدينة الموصل بشكل لا يمكن تقديره بسهولة؟!
قضية إعمار المدن العراقية المدمرة لا تقوى عليها حكومة بغداد وحدها، فهي بحاجة إلى مؤتمر دولي تنفيذي وليس شكليًا لجمع التخصيصات المناسبة، ويتم تسليمها للجان أجنبية مختصة تنبثق عن المؤتمر بحضور ممثل عن حكومة بغداد، والتنفيذ يكون عبر شركات أجنبية دون أن تكون حكومة بغداد متدخلة في الموضوع المالي وذلك بسبب الفساد الكبير الذي ينخر دولة العراقية منذ عام 2003 وحتى اليوم.
وبعد عام من المؤتمر يمكن أن تنتهي مأساة النازحين تمامًا، إن كان هناك رغبة محلية ودولية حقيقية لإنهاء معاناتهم، وإلا فإن الحلول الحكومية الترقيعية لن توقف معاناة ملايين المهجرين، فمتى سيتحرك المجتمع الدولي للقضاء نهائيًا على مأساة النازحين العراقيين؟!