منذ الوهلة الأولى التي لوح فيها الرئيس الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” وعزمه نقل سفارة بلاده إليها، كانت تركيا في مقدمة الدول التي تحركت للتصدي لهذا القرار، وكان رئيسها رجب طيب أردوغان أول من أبدى استعداده لهدم جسور الهدنة مع دولة الاحتلال وإضرام النار بسفن العودة في مواجهته مع الولايات المتحدة.
“قرار ترامب لاغ وباطل أمام الضمير البشري والقانون والتاريخ”، بهذه الكلمات التي أعلنها الرئيس التركي صريحة عقب إعلان الرئيس الأمريكي قراره، يكون بذلك دخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وتل أبيب في آن واحد، في الوقت الذي كثف فيه جهوده الدبلوماسية لإجهاض هذه الخطوة التي حذر من تداعياتها الإقليمية والدولية.
لم يكتف أردوغان بعبارات الشجب والاستنكار وإصدار بيانات الإدانة لحفظ ماء الوجه، بل سارع من أجل بناء تحالف عربي إسلامي أوروبي للضغط على ترامب لإثنائه عن هذا القرار، رغم الآثار السلبية التي من الممكن أن يتعرض لها جراء هذا الموقف، فهل تنجح تلك التحركات في تحقيق أهدافها؟
تحرك استباقي
لم تنتظر أنقرة حتى إعلان قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس في 6 من ديسمبر/كانون الأول، من أجل أن تتحرك بصورة رسمية، فخلال الساعات الثماني والأربعين التي سبقت هذه الخطوة، أجرى الرئيس التركي حزمة من الاتصالات مع بعض قادة العالم العربي الإسلامي من أجل ترتيب الإجراءات المقترح اتخاذها للرد على هذا القرار.
ثم جاءت زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، صبيحة الأربعاء الماضي لتركيا في أعقاب الاتصال الذي أجراه معه أردوغان، لبحث تداعيات هذا الخطوة التي أعلنت كل من أنقرة وعمان رفضها بكل ما تحمله من تفاصيل وما يترتب عليها من آثار.
وفي اليوم التالي، وخلال بيان مشترك، رفض البرلمان التركي بشكل قاطع قرار ترامب، معتبرًا أنه أمرًا غير مقبول، ليعلن بعدها الرئيس التركي بصفته رئيس للدورة الحاليّة لقمة منظمة التعاون الإسلامي الدعوة لاجتماع طارئ للمنظمة معلنًا أن “القدس خط أحمر بالنسبة لتركيا والمسلمين، لن يتحقق السلام للجميع إلا مع انتهاء الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية والضفة الغربية وغزة وحتى يتسنى للفلسطينيين العيش بحرية في وطنهم، على الدول التي لم تعترف بالدولة الفلسطينية حتى الآن، أن تتخذ هذه الخطوة المهمة والملحة من أجل تحقيق التوازن الذي من شأنه أن يحفظ الحس السليم والعدالة في المنطقة، وهذا القرار سيزيد من مساحات التوتر ويعمق من الصراعات بسبب الأهمية الرمزية والدينية للقدس”.
17 اتصالاً هاتفيًا
أجرى الرئيس التركي من 2 ديسمبر/كانون الأول وحتى اليوم 17 اتصالاً هاتفيًا مع قادة بعض الدول العربية والإسلامية والأوروبية بالإضافة إلى بابا الفاتيكان، يحثهم من خلالها على خطورة قرار ترامب وتداعياتها الكارثية على المنطقة وبث الضغائن بين معتنقي الأديان الثلاث، فضلاً عما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات تهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
البداية كانت السبت الماضي حين أجرى اتصالاً بنظيره الفلسطيني محمود عباس “أبومازن”، ثم بكل من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أعقبها اتصال بالرئيس السوداني عمر البشير، وذلك بحسب “الأناضول“.
وفي الجولة الثانية من الاتصالات، هاتف أردوغان كل من رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبد الرزّاق والرئيس التونسي الباجي قائد السبسي والرئيس الإيراني حسن روحاني ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنية والرئيس الباكستاني منون حسين، للتحذير من مخاطر قرار الرئيس الأمريكي على الشرق الأوسط وضرورة التحالف للتصدي له.
التحركات الدبلوماسية المكثفة التي أجرها ولا زال الرئيس التركي تهدف في المقام الأول إلى تدشين تحالف دولي ضد القرار الأمريكي وممارسة الضغوط الممكنة وفق الأوراق المتاحة لإجبار ترامب على التراجع عن هذه الخطوة
حتى خلال زيارته لليونان 7-8 من ديسمبر/كانون الثاني الحاليّ لم يتوقف عن مواصلة اتصالاته وتحركاته الدبلوماسية، فأجرى اتصالاً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بحثا خلاله أحدث المستجدات بشأن القدس، وتم تأكيد أن القرار الأمريكي سيضر باستقرار وسلام المنطقة.
كما أجرى اتصالاً هاتفيًا مع بابا الفاتيكان فرانسيس، أكد من خلاله أهمية البقاء على مدينة القدس كمدينة مقدسة بالنسبة لليهود والمسيحيين والمسلمين، محذرًا من محاولة تغيير وضعها لما يترتب عليه من مخاطر وتهديدات تضر بالجميع دون استثناء.
علاوة على ذلك فقد وسع أردوغان صباح اليوم دائرة اتصالاته لتشمل الرئيس الكازاخاستاني نورسلطان نزار باييف والأذري إلهام علييف واللبناني ميشال عون والإندونيسي جوكو ويدودو والنيجيري محمد بخاري.
خلال زيارة العاهل الأردني لتركيا لبحث القرار الأمريكي
تحالف دولي
التحركات الدبلوماسية المكثفة التي أجرها ولا زال الرئيس التركي تهدف في المقام الأول إلى تدشين تحالف دولي ضد القرار الأمريكي وممارسة الضغوط الممكنة وفق الأوراق المتاحة لإجبار ترامب على التراجع عن هذه الخطوة غير محسوبة العواقب.
ومن ثم تأتي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأنقرة، المقرر لها غدًا الإثنين، لتكلل هذه التحركات، خاصة أنه وبحسب مصادر في “الكرملين” فإنّ بوتين سيناقش مع نظيره التركي “آخر التطورات الحاصلة في مدينة القدس الفلسطينية، وتداعيات وانعكاسات قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل”، وبحث سبل التعامل معها”.
أجرى الرئيس التركي من 2 ديسمبر/كانون الأول وحتى اليوم 17 اتصالاً هاتفيًا مع قادة بعض الدول العربية والإسلامية والأوروبية بالإضافة إلى بابا الفاتيكان، يحثهم من خلالها على خطورة قرار ترامب وتداعياتها الكارثية على المنطقة
وبالانتقال من روسيا إلى وسط أوروبا، أشار مصدر رئاسي تركي، أمس السبت، أن “أردوغان ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون سيعملان معًا على محاولة إقناع الولايات المتحدة بإعادة النظر في قرارها بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال”، وذلك بحسب “رويترز“.
المصدر أضاف أن الزعيمين اتفقا خلال اتصال هاتفي على أن هذه الخطوة مثيرة للقلق في المنطقة، مشيرًا إلى أن تركيا وفرنسا ستبذلان جهدًا مشتركًا لمحاولة إثناء الولايات المتحدة عن قرارها.
واستجابة لهذه التحركات فقد تحدد الأربعاء القادم 13من ديسمبر/كانون الثاني موعدًا لانعقاد قمة استثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول من أجل صياغة موقف إسلامي موحد ضد القرار الأمريكي، وذلك وسط أجواء تفاؤلية بمشاركة عشرات من قادة وزعماء دول العالم الإسلامي في رسالة رفض واضحة لواشنطن وإدارتها.
مساعٍ مشتركة بين أردوغان وماكرون لإجبار ترامب على التراجع عن قراره
هل ينجح؟
لا شك أن تحالف يضم بين أعضائه روسيا وتركيا ومعظم دول العالم الإسلامي بالإضافة إلى فرنسا وبعض الداعمين من الدول الأوروبية الأخرى، فضلاً عن مؤسسة بحجم الفاتيكان، يمتلك العديد من أوراق الضغط على الإدارة الأمريكية التي تعاني هي الأخرى من انقسامات حادة جراء خطوة نقل السفارة للقدس.
نجاح تركيا في تدشين هذا التحالف القوي ضد القرار الأمريكي أضفى حالة من التفاؤل لدى العديد من المقربين من دوائر صنع القرار في قدرته على إرغام ترامب على التراجع عنه أو تأجيله إلى أجل غير مسمى، وهو ما دفع المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، إلى القول “الدول الغربية ستبقي سفاراتها في تل أبيب، ولن تقوم بنقلها إلى مدينة القدس”.
كالين خلال مقابلة تليفزيونية له أضاف أن بلاده كانت وما زالت ترفض سياسة اغتصاب الأراضي التي تتبعها “إسرائيل” في فلسطين، مشيرًا أنّ أنقرة ستواصل الدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية كافة، مدينًا السياسة الإسرائيلية المتبعة منذ عقود للسيطرة على الأراضي الفلسطينية بالقوة وتجريدهم من كل حقوقهم.
تهديد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، سياسية كانت أو اقتصادية، والعزف على العديد من الملفات الحساسة التي ترتبط بتلك المصالح، فضلاً عن وقف التعامل مع الكيان الصهيوني ومناهضة مصالحه في المنطقة وتضييق الخناق عليه سياسيًا واقتصاديًا وتقليل رقعة التطبيع، كل هذه الأوراق التي يملكها التحالف جديرة – إن تم توظيفها بصورة جيدة – في إجبار ترامب على التراجع عن قراره.
ويبقى نجاح هذا التحالف مرهونًا بقدرة أعضائه والدول المشاركة فيه على استخدام ما لديها من أوراق ضغط، سواء ضد واشنطن أو تل أبيب، وهو ما ستكشف عنه الأيام القادمة التي ستزيح الستار عن الأقنعة التي من المؤكد سيسقط كثير منها مع أول اختبار حقيقي.