“أحيانًا يعجز الناس عن مواجهة الظلم والاستبداد، فيحوّلونه إلى نكات”، بهذه العبارة وصفت أستاذة العلوم السياسية، هبة عزت، واقع الشارع العربي في مواجهة السلطة بشتى أشكالها، ما قد يفسر انتشار البرامج السياسية الساخرة بكثرة، خاصة بعد فترة الربيع العربي، وكأن الخطاب الساخر هو السلاح الذي لا نستطيع أن نرفعه حقيقةً في وجه الأنظمة المستبدة، ولأننا نستشعر عجزنا عن ممارسة المساءلة في الشارع، أو في المجال العام، أو في المجال السياسي، نلجأ إلى التهكُّم كنوع من أنواع الانتقام بالحيلة.
ما قبل الربيع العربي وما بعده
في محاولة لفهم واقع البرامج السياسية الساخرة٬ يتوجّب علينا أن نراقب المشهد من كل أبعاده٬ فكان لا بدَّ أن نسمع تحليل الخبراء والمحللين السياسيين لهذا النوع من البرامج، وبتعريف الباحث والمختص في العلوم السياسية، محمد أبو رمان، “هذا الفن يعدّ نوعًا من الأدب السياسي الأشبه بالنداء الحركي، لديه رسالة اتصال، وهذه الرسالة تعدّ تكتيكًا من تكتيكات العمل السياسي والاتصال الجماهيري، بهدف التأثير والتغيير”.
بينما قسمَ الكاتب والمحلل السياسي رومان حداد، مراحل ظهور هذه البرامج إلى قسمَين: مرحلة ما قبل الربيع العربي٬ ومرحلة ما بعده. وصرّح حداد: “في المرحلة الأولى لم يكن هناك مساحة متاحة في الوطن العربي للبرامج السياسية الساخرة٬ باستثناء لبنان٬ وهذا قد يراه البعض ناتجًا عن مساحة الحرية الهائلة في الساحة اللبنانية٬ لكنني أعتقد أن سبب ذلك مساحات الصراع ما بين القوى السياسية التي أتاحت لكل جهة أن تكون حاضرة بكامل قوتها٬ وأن تملك وسائل إعلامية تساعدها للهجوم على الطرف الآخر، فأنتجوا البرامج الساخرة لكي يتم من خلالها التعليق على السلوك السياسي للطرف الآخر”.
ووضّح حداد أن البرامج السياسية الساخرة شهدت أول نقلة نوعية في المنطقة العربية بعد اندلاع الربيع العربي٬ عندما ظهر برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، موضحًا: “الذي أنتج هذه الحالة في مصر هو الصراع ما بين الدولة العميقة والدولة الواقعية. الدولة الواقعية كانت بيد الإسلاميين بعد نجاح مرسي٬ والدولة العميقة كانت رافضة لذلك، هذا الصراع خلق مساحة متاحة لكي يظهر برنامج “البرنامج”. والدليل على ذلك أنه عندما تحالفت الدولة العميقة مع الدولة الواقعية في لحظة انتصار عبد الفتاح السيسي، انتهى البرنامج”.
وفي حوار مع الكاتب والإعلامي الأردني الساخر أحمد حسن الزعبي، الذي أكّد على تأثُّر هذه البرامج بعد أن أحكمت السلطات قبضتها عليها عندما لاحظت انتشارها الواسع٬ موضحًا: “لم أعد أشاهد برامج سياسية ساخرة داخل مصر تتحدث عن مصر٬ وحتى هذه البرامج داخل الأردن وتتحدث عن الأردن قد أُعدمت نهائيًّا”.
الانتشار الواسع والقبول الجماهيري
من خلال مراقبة المشهد عبر توسيع بؤرة النظر٬ نشهد إقبالًا جماهيريًّا هائلًا على هذه البرامج٬ وبالتالي نلاحظ ازدياد عدد هذا النوع من البرامج السياسية الساخرة وتنوع محتواها، حيث انتشرت بين الناس حلقات هذه البرامج بشكل واضح وملحوظ٬ خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كل برنامج كان يتناول بصورة أساسية بلدًا معيّنًا٬ ويتطرق بشكلٍ جانبي إلى الحالة السياسية العربية ككُلّ، فوجدنا على سبيل المثال برنامج “نور خانوم” من تقديم نور حداد، والذي تناول بشكل رئيسي الحالة السورية٬ وبرنامج “جو شو” تقديم يوسف حسين الذي تناول الحالة المصرية بصورة خاصة٬ وبرنامج “من سف بلدي” لأحمد الزعبي الذي ركّز على الحالة الأردنية، وبرنامج “البشير شو” للإعلامي العراقي أحمد البشير، وغيرها الكثير من البرامج الساخرة من هذا النوع.
وعن سبب هذه الجماهيرية عامةً، والعربية خاصةً، التي حازت عليها البرامج السياسية الساخرة٬ وضح الزعبي: “لم يعد هناك ما يعبّر عن رأي الشعب ومكنوناته وقضاياه والأحداث الحاصلة في بلاده، ولم يستطع أحد أن يقف بوجه السلطة القمعية الموجودة في كل الدول العربية٬ حتى الأحزاب السياسية فشلت في أداء هذا الدور، إلا البرامج السياسية الساخرة، حيث جاءت لتقف ندًّا لهذه الأنظمة القمعية٬ وبالتالي وجدنا انجذابًا وإقبالًا هائلًا من قبل الجماهير العربية على هذا الفن”.
ولا ننسى بالطبع طبيعة هذه البرامج التي تتصف ببساطة الأسلوب٬ مصحوبةً بخفّة ظل مقدم البرنامج٬ الذي يمرر رسالته التي ينتقد فيها سلوكًا سياسيًّا ما٬ بأسلوب مفهوم وواضح ومضحك٬ يمرّر فكرته بسلاسة لجماهير متنوعة في مستوى وعيها السياسي٬ فتكون الرسالة واضحة مباشرة٬ ولا تحتاج تحليلًا عميقًا من قبل المتلقّي.
وكان للكاتبة الأردنية هند خليفات رأي بهذا الخصوص٬ موضحةً: “عندما أدرك رجل ما أنه يستطيع أن يمرر رسالة سياسية وهو يضحك٬ أكثر بكثير ممّا يفعله وهو جادّ ومتهكم٬ وأنه باستخدام المثل الشعبي الساخر مع القليل من السخرية يستطيع رفع أعناق الكلمة٬ لجأ إلى استخدام السخرية الذكية٬ وتمرير الكثير من الرسائل الصعبة ومنها الرسائل السياسية”.
هل تقدم البرامج السياسية الساخرة وعيًا سياسيًّا؟
ما بين الجماهيرية الواسعة لهذا الفن السياسي الساخر، ما زال الجدل غير محسوم ما بين أهل الاختصاص، من الخبراء والباحثين والأكاديميين ورواد الفن السياسي الساخر، حول مضمون هذه البرامج، وأجنداتها السياسية، ومصداقيتها، وتأثيرها على الجماهير، وقدرتها على تشكيل وعي سياسي حقيقي، واستحقاقها للحرية المطلقة أم المقيّدة بخطوط حمراء.
انقسمت آراء المختصين بين من يعتقد بأن هذه البرامج تساهم في تشكيل وعي سياسي تراكمي٬ ومن يجدها بصورتها الحالية غير قادرة على تقديم فهم ووعي سياسيَّين حقيقيَّين، ولكلا منهما حججه الداعمة لموقفه.
الأكاديمي والمختص في العلوم السياسية، محمد أبو رمان يوالي فكرة أن البرامج السياسية الساخرة تقدم وعيًا سياسيًّا تراكميًّا، مستدلًّا بقوله: “بتقديري أجدُ أن هذه البرامج من أهم أدوات بناء الوعي السياسي٬ ومن أهم تكتيكاته. فمن الصعب أن يتأثر من هم في الشارع بمقال أكاديمي جادّ٬ بينما من السهل جدًّا أن تبني لديهم وعيًا سياسيًّا من خلال برنامج سياسي ساخر، وهذا ما نسمّيه بالوعي التراكمي”.
واستند أبو رمان في موقفه إلى أن هذه البرامج تركز على المفارقات والفجوات والتناقضات الموجودة في الساحة السياسية. وبقوله: “مع الوقت سيتشكّل لدى الجماهير وعيًا نقديًّا في أذهانهم٬ فإن 90% من المقالات الجادة لا تصل إلى الشارع الحقيقي٬ والعكس صحيح بما يتعلق بالبرامج السياسية الساخرة، لكونها تقدم رسالة سياسية سهلة الفهم لدى عامة الناس”.
أما هبة عزت فتعارض هذا التحليل، وتدلل موقفها من هذه القضية بقولها: “هناك مبالغة في فكرة أن الصيغ الفنية هي الصيغ التي تعيد بناء الوعي الجماهيري. قد تساعد قليلًا٬ لكن لن تدفع الشارع إلى القيام بخطوة تغيير حقيقية، والمقصود هنا لن تؤدي رسالة سياسية ساخرة إلى دفع الجموع إلى الميدان الذي يقابَل بالرصاص في كثير من الأحيان”.
عزت لا تجد أن هذه البرامج ستساهم بشكل مباشر في إحداث تغييرات جذرية على المستوى الجماهيري٬ موضحة: “ما يدفع الناس إلى الحراك إدراكهم لواقعهم المرير٬ وما يدفعهم إلى التغيير هو شعورهم بالخوف على مستقبلهم٬ أو أيديولوجيا يؤمنون بها٬ أو عقيدة.. لا أظن أن الصيغ الفنية الشبيهة بهذا النوع من البرامج ستكون الدافع للجماهير من أجل التغيير”.
بينما يميل الزعبي إلى التأني في الحكم على هذه البرامج٬ موضحًا: “بعض البرامج تساعد على تقديم وعي سياسي٬ ويكفي أنها تساعد في كثير من الأحيان على كسر هالة المسؤول٬ وبعض البرامج نجدها لا تتخطى مستوى الإضحاك والسخرية وحسب، لكونها تفتقر إلى الرسالة الحقيقية في مضمون محتواها، وهنا تكمن المفارقة”.
لا تنفي هذه الآراء حقيقة أن الكوميديا آسرة وحاجة إنسانية، ومن فهمَ هذه المعادلة استطاع أن يستغلها لصالحه عبر تطعّيم الرسالة السياسية النقدية بالضحكة، لإيقاظ عقلية الناس الاسفنجية، لفهم ما يدور حولهم قبل أن يتبنوا المواقف والقضايا.
ضغوط وخطوط حمراء
الكثير من التساؤلات حول طبيعة العلاقة ما بين السلطة ورواد الفن السياسي الساخر٬ فما هي الخطوط الحمراء التي تفرَض على هذه البرامج؟ ومن الذي يفرضها؟ وما هو الواقع الذي يعيشه رواد هذا الفن داخل بلادهم؟
وفي رحلة البحث عن إجابات متعلقة بملف الحريات٬ كان للزعبي تجربته الخاصة التي سردها لنا٬ قائلًا: “هناك تضييق وملاحقات أمنية بأساليب متنوعة٬ ففي السابق إذا كتبنا مقالًا سياسيًّا ساخرًا، قد يتصل بك موظف أمني ويخبرك أنك تطرقت لتفاصيل لا يجب عليك الخوض بها.. الآن الأمر اختلف٬ حيث لا يتم التواصل معك٬ بل يذهب الموظف الأمني مباشرة إلى المحطة التي تقدم برنامجك٬ ويقول لهم: الغوا برنامج أحمد”.
وأضاف الزعبي شارحًا التضييق الذي يتعرض له: “تمّ الاعتذار مني من قِبل محطة تلفزيونية كانت قد رتّبت لمقابلة معي للحديث في قضية مجتمعية ليست سياسية، لكن في اللحظة الأخيرة اتصلت المحطة بي واعتذرت عن مقابلتي بعد أن أعلنت في إعلان يسبق الحلقة أن البرنامج سيستضيفني٬ وبلحظة غامضة تراجعوا عن مقابلتي.. ألا يُعتبر كل هذا تضييقًا؟”.
وفي الطرف الآخر من هذا الرأي تقف الكاتبة هند خليفات٬ حيث تجد أن موضوع الملاحقات الأمنية أمر مبالغ به٬ قائلة: “أسهل شيء أن أكتب تغريدة وأقول قد زُجَّ بي في السجن لكوني كتبت كذا٬ أو صرحت بكذا، وبالحقيقة قد يكون عليّ قضية ضريبة. فلا تصدقوا كل هذه الأبواق٬ الحريات لدينا مصانة٬ انتبهوا جدًّا من صناعة القطيع”.
الواقع يمنحنا عادة الجواب الأكثر وضوحًا وشفافيةً، خاصةً أن غالبية – وإن لم تكن جميع – البرامج السياسية الساخرة في الدول العربية تحديدًا، تقدم خارج الدولة الأم أو في بلاد المنفى، والسبب في ذلك بطبيعة الحال هو الخوف من الملاحقة الأمنية والحرمان من الحق في حرية الرأي والتعبير عن المواقف السياسية تجاه أي قضية تؤثر على حياة المواطنين، ولأن هذه البرامج لا تتناسب مع الصورة والسمعة العامة التي تحاول الأنظمة هندستها أمام الرأي العام وتكشف عن وجهها الحقيقي، فأن أبسط ما تفعله الحكومات تجاهها هو النفي أو التكتيم، لكي لا تشكل تهديدًا لرموزها ومشاريعهم.