يبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأكثر انزعاجًا هذه المرة بعد أن وصلت عملية التسوية لطريق مسدود، فهو يحاول الحفاظ على جنين الدولة لكن إعلان ترامب الأخير ضرب كل أوراق التفاوض بعرض الحائط، فقد عبر عباس عن سخطه قائلًا: “واشنطن لم تعد مؤهلة لرعاية عملية السلام”، ولكن من الوسيط البديل؟ وكيف ستتعامل السلطة مع تداعيات الحدث؟
اللحظة الفارقة التي وصل بها الرئيس عباس إلى طريق مسدود، وصل إليها الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات، لكن التعاطي مع تبعاتها كان مختلفًا من كلا الرجلين، فقد وصف الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في مذكراته بعنوان “من حياتي” تفاصيل اللقاء الأخير الذي جمعه بالراحل عرفات في كامب ديفيد، فقد ضغط على أرجل عرفات طالبًا منه التوقيع على القدس الغربية عاصمة “إسرائيل”، بصيغة الأمر، رفض عرفات التوقيع قائلًا: “إن وقعت ستمشي غدًا في جنازتي”.
برغم النتيجة الواحدة التي وصل إليها عرفات وعباس (أن الإدارة الأمريكية تراوغ لصالح الاحتلال الإسرائيلي فقط)، فإن الرئيس عباس لم يفعل أي من الجبهات المسلحة في الأجهزة الأمنية
وحسب مرافق عرفات في الطائرة الخاصة الذي روى اللحظات الأخيرة حين سأله ما الذي تريد فعله يا سيادة الرئيس فرد عليه غاضبًا: “خليها تولع”، عاد عرفات مسرعًا ووجه خطابه الأخير بعد كامب ديفيد قائلًا: “ليس فينا وليس منا من يفرط في ذرة تراب من القدس الشريف، أنا كنت أقول القدس كلها كلها”، يقصد رده على بيل كلينتون وباراك.
أمر عرفات بتفعيل العمل العسكري وإنشاء مجموعات كتائب شهداء الأقصى التي انبثقت من الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفشل معها مخطط الأمريكان في انتزاع القدس من الفلسطينيين، حتى استبدلته أمريكا برئيس جديد بعد قتله بالسم.
على النقيض تمامًا برغم النتيجة الواحدة التي وصل إليها عرفات وعباس (أن الإدارة الأمريكية تراوغ لصالح الاحتلال الإسرائيلي فقط)، فإن الرئيس عباس لم يفعل أي من الجبهات المسلحة في الأجهزة الأمنية التي تلقت تدريباتها من المساعدات الأمريكية، فـ45% من هذه المساعدات ذهبت لتدريب وتفعيل قوى الأمن الفلسطينية وفق عقيدة جديدة، الكفاح السلمي، كبديل عن العمل العسكري بما يحفظ الاستقرار الأمني والسياسي للاحتلال الإسرائيلي دون تقدم ولو خطوة واحدة على أرض الواقع للفلسطينيين لا في السيادة أو في التنمية.
هل تستبدل أمريكا عباس في حال رفضه مقترحها للسلام؟
كتب عديد من المثقفين وقت زيارة عرفات الأخيرة لكامب ديفيد قائلين: “أما كان يمكن للقيادة الفلسطينية أن تعتذر وتتحمل شيئًا من غضب الرئيس بيل كلينتون بدلًا من الذهاب للفشل المؤكد”؟ نفس التساؤل والمطالبات تطرح اليوم في استعدادات لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمبعوث ترامب الخاص جيسون غرينبلات ذي الأصول اليهودية، وقد علم مراسل “نون بوست” أن عباس سيرفض لقاء غرينبلات.
لكن رفض عباس للرؤية الأمريكية الجديدة يعني بالضرورة استبداله بشخص آخر قادر على القبول بما تمليه الإدارة الأمريكية حرفيًا وبتوافق عربي، فقد كشفت وكالة الأنباء العالمية رويترز أن مسؤولين أمريكيين يعكفون على وضع خطة للسلام بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي.
حاولت روسيا الدخول كوسيط في عملية السلام الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي لكنها فشلت، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي يرفض حتى اللحظة الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي
قال مسؤولون أمريكيون إن الإدارة الأمريكية تعكف على وضع خطة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تتناول كل القضايا الكبرى، بما فيها قضايا القدس والحدود واللاجئين، وتكون مدعومة بأموال من السعودية ودول خليجية أخرى لصالح الفلسطينيين.
وأفادت الوكالة أن صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر هو الذي يضع الخطة بالتعاون مع المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط جيسون غرينبلات، وستكون شاملة وتتجاوز الأطر التي وضعتها الإدارات الأمريكية السابقة، ومن المتوقع الكشف عنها قبل منتصف عام 2018.
هل يمكن استبدال أمريكا بوسيط جديد؟
حاولت روسيا الدخول كوسيط في عملية السلام الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي لكنها فشلت، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي يرفض حتى اللحظة الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، ويعتبر جميع الأراضي التي احتلت عام 67 فلسطينية محتلة، ودعا لمقاطعة البضائع التي تنتج في مستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، لكنه لم ينقل هذه الخطوات واقعًا على الأرض لتحقيق سيادة فلسطينية، ولم يستطع مواجهة الإدارة الأمريكية في إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967.
ليس أمام السلطة في رام الله إلا أن تنزاح من درب شعب يُحسن خوض عصيانٍ مدنيٍ سلميٍ شاملٍ ومستدامْ، كانت بروفته الناجحة أزمة بوابات الحرم
الموقف العربي منساق للرؤية الأمريكية ولا يستطيع الخروج منها نحو رؤية عربية مستقلة مواجهة للخطوات الأمريكية التي تدعم بالكامل الاحتلال الإسرائيلي في كل خطواتها، على حساب السيادة الفلسطينية، ولو كان الموقف العربي موحدًا لاستطاع انتزاع حقائق جديدة على الأرض داعمة للفلسطينيين، لكنه يجاري الرؤية الأمريكية في المنطقة استعدادًا لصفقة القرن التي تعني تصفية القضية الفلسطينية وتدويلها لقضية شعب جائع يريد التنمية الاقتصادية فحسب بعيدًا عن السيادة.
قبول المستوى الرسمي العربي بالمخططات الأمريكية لا يعني بالضرورة التحكم في الأوضاع على الأرض، فأمريكا التي أبلغت الاحتلال الإسرائيلي برفع البوابات الإلكترونية إبان الثورة السابقة في القدس قبل أشهر، هي نفسها التي ستضطر إلى سحب اعترافها بما يضمن استقرار الأوضاع في حال انفجارها داخليًا أو خارجيًا.
ويبقى الوسيط الأمريكي مرهونًا بالحراك الشعبي والعربي بما يضمن الاستقرار لتحقيق مصالحه، فاستمرار الحالة الثورية للفلسطينيين والعرب في الداخل والخارج هو الضامن لهذا التغيير، ولعله الاختبار الأخير للشعوب الإسلامية والعربية في قضيتها المحورية والمركزية “فلسطين وعاصمتها القدس”، وإن قال الفلسطينيون “لا” بفصائلهم التي ترفض خط التسوية بشكله الحاليّ أو بمجمله ومن خلفهم الشعب، يعني تمامًا أن الخطة الأمريكية الجديدة مجرد حبر على ورق.
هل طويت صفحة أوسلو؟
يرى الكاتب صلاح كمال الطويل أنه ليس أمام السلطة في رام الله إلا أن تنزاح من درب شعب يُحسن خوض عصيانٍ مدنيٍ سلميٍ شاملٍ ومستدامْ، كانت بروفته الناجحة أزمة بوابات الحرم، وهو الكفيل بوضع المحتل على سكّة دحر احتلاله وقبع استيطانه دون قيد أو شرط.
ويقول الطويل: “كل نخب السياسية الفلسطينية هي اليوم أمام امتحان جدارة التاريخ، فكما فلسطين تختزل القضايا، فالقدس تختصر ساحاتها لما يتكثف فيها ما هو فلسطيني وعربي ومسلم ومسيحي وعالم ثالثي وإنساني وحقوقي، ولما يأتلف في حومتها من وطني وقومي وإسلامي، ولما ترمز إليه من سوابق نزال مع غزاةٍ بَغَوا وكنَسهم محرروها”. ووجه الكاتب كلمة أخيرة إلى الأنظمة العربية الرسمية قائلًا: “دعكم من اللعب بالقدس، إنها محرِقة وحارق”.