سليلة الأغنية الأندلسية الكلاسيكية التي امتزجت مع المدائح النبوية، ولدت ونشأت وتطورت في الأحياء الشعبية بالعاصمة الجزائرية، تنقل هموم البسطاء وتعبر عن وجعهم ومعاناتهم، إنها أغنية “الشعبي” الجزائرية، في هذا التقرير يأخذكم “نون بوست” في جولة لمعرفة هذا الفن الجزائري الذي لا يحمل المعنى نفسه للأغنية الشعبية في باقي الدول العربية.
في حي القصبة العتيق
في أربعينيات القرن الماضي، تأسست موسيقى “الشعبي” على يد الحاج محمد العنقا (1978-1907)، بحي القصبة العتيق في مدينة الجزائر، العاصمة، التي أصبحت جزءًا من التراث الموسيقي الجزائري وأحد أهم الأشكال الفنية المنتشرة في هذا البلد العربي.
كانت تعرف في بداياتها الأولى بتسمية “المديح” و”المغربي” والمغيربي” أيضًا، ثم أصبحت تسمى “الشعبي” بداية من سنة 1946، لتشتهر بهذا الاسم بعد أن خلدها عمالقة من المطربين الذين جعلوا منها فنًا عريقًا يمثل صوت الشعب، على اعتبار أنها تحاكي يومياته وتصف الواقع المعيشي له، من خلال القصائد التي تتغنى بأفراحه وأحزانه، وتعبر عن أحاسيسه ومشاعره، ليتمكن هذا النوع الفني الأصيل في فترة وجيزة من كسب جمهور واسع.
عرفت هذه الموسيقى التي تجمع بين الموسيقى العربية والأندلسية وتقليد الشعر الشفوي والإيقاعات البربرية، ذروتها في خمسينيات القرن الماضي في القصبة السفلى
يعتبر هذا الفن من بين التنوعات الغنائية الناتجة عن تطور التراث الغنائي والموسيقى الأندلسية التي نقلها المهاجرون الأندلسيون إلى مدن المغرب العربي بفضل توطينه وتكييفه مع التراث المحلي لهذه المدن والموروث عن حقبة تاريخية قديمة.
تعتبر هذه الموسيقى جزءًا بارزًا من الشخصية الجزائرية التي تميزها عن باقي الشخصيات الأخرى سواء العربية أو الغربية، وجزء مهمًا من التراث الجزائري الذي يحمل رسائل كثيرة كتبها أشخاص عاشوا تجارب مختلفة ومراحل مميزة في تاريخ البلاد، فنقلوا بموسيقاهم ظواهر معينة عاشوها في مجتمع عريق.
في أحياء القصبة برز فن “الشعبي”
وقد عرفت هذه الموسيقى التي تجمع بين الموسيقى العربية والأندلسية وتقليد الشعر الشفوي والإيقاعات البربرية، ذروتها في خمسينيات القرن الماضي في القصبة السفلى حول الكنيس الكبير وفي باب الواد والمرفأ حيث كان يتجاور عرب ويهود وسكان من منطقة القبائل ومالطيون وإسبان وإيطاليون.
احتضنته المقاهي
ترتكز موسيقى الشعبي على ما يسمى بالشعر الملحون الذي يتميز بطول القصيدة، حيث يتكون بعضها من 150 بيتًا، مما يطيل الأغنية التي قد تصل إلى 40 دقيقة، وتتميز موسيقى هذا الفن بالإيقاع المأخوذ في معظمه من الموسيقى الأندلسية من بينها “بورجيلة” و”مسامعي” و”روميا”، من أهم آلات هذه الموسيقى (وترية وأخرى نقرية أو إيقاعية) الكمان والقيتارة والطر والزرنة والدربوكة والمندول التي تعتبر من التراث الموسيقي الغنائي المضبوطة علميًا.
وتسمى أماكن تأدية موسيقى الشعبي “المحشاشات” كما تسمى أيضًا “الدبكيات” كونها موجودة في الطابق السفلي، وهو مكان مزدوج الوظيفة بين النهار والليل فهو نهارًا عبارة عن مقهى، ويتحول في الليل لممارسة الموسيقى، ويضم آلات موسيقية عديدة ويعتبر مكانًا للقاء “الحشايشية”، ومن أشهر المقاهي التي احتضنت هذا الفن مقهى “ملاكوف”، ويلقب رئيس فرقة “الشعبي” بـ”الشيخ” بغض النظر عن سنه.
قبل الاستعمار وبعد
في بداية نشأته كان لهذا النوع من الغناء دور كبير في الحفاظ على القيم الدينية والاجتماعية وربط الناس ببلدهم في أوج فترة الاحتلال الفرنسي، فقد وجد الجزائريون فيه القيم الجميلة والنبيلة والمبادئ الحميدة التي كان المستعمر الفرنسي يعمل جاهدًا للقضاء عليها وإبعاد الناس عنها، ضمن سياسة التغريب التي كان ينتهجها في الجزائر لحمل الناس للخروج من ملتهم، فهو يدعو إلى احترام العادات والتقاليد وترك المعاصي في الكثير من القصائد التي ما زال الجميع يحفظها ويرددها إلى الآن.
بأنغامهم الجميلة والعذبة، ارتبط فنانو فن “الشعبي” بالشرائح البسيطة في المجتمع الجزائري، فهم يخاطبونهم باللغة التي يفهمونها
يعتبر الشعبي، حسب موسيقيين جزائريين، موسيقى حية ومفتوحة تتغذى من إسهامات عصرها من حيث بنية الفرقة وأيضًا من خلال الاستماع والاهتمام الذي يولى إلى أعمال المراكز الكبرى لإنتاج الموسيقى العالمية للفترة، وتستند على إسهامات التقاليد والحكايات والأساطير والممارسات الصوفية والطقوس والعبادات.
ومثلما كان ملاذًا لهم قبل الاستقلال، كان ملاذًا لهم أيضًا بعد الاستقلال حين فضل الكثير من مطربي هذا الفن الكبار النأي بأنفسهم عن الدعاية الرسمية، واختاروا الشعب ونقل همومه، فكانت أغنية “الشعبي”، رد فعل على التهميش الذي طال الجزائريين وأبناء العاصمة من السلطة الحاكمة.
بأنغامهم الجميلة والعذبة، ارتبط فنانو فن “الشعبي” بالشرائح البسيطة في المجتمع الجزائري، فهم يخاطبونهم باللغة التي يفهمونها، لغة العوز والحاجة تمامًا كما يخاطبونهم بلغة القلب والإحساس الجميل المليء بالصدق النابع من شخص يقاسمهم نفس الإحساس، فكان بمثابة إبداع تلقائي بسيط صادر عن وجدان مشترك بين أبناء المجتمع، حاملاً معه ذاك الكم الهائل من الموروث الثقافي والأخلاقي الخاص بالجماعة الشعبية عبر الزمن.
أدت أغنية “الشعبي”، منذ انطلاقتها دورًا مهمًا في دعم ثقافة المجتمع الجزائري وتبرير أنماط سلوك أفراده إما احتفاءً وشكرًا أو استنكارًا وتنديدًا، وبسبب الالتفاف الجماهيري حول فناني “الشعبي”، ظلت جنائز كبار فنانيه أهم جنائز البلاد، لا ينافسهم في ضخامتها السياسيون بما في ذلك كبار المسؤولين ورؤساء البلاد.
مما جعل لها حيزًا كبيرًا في ذاكرة الصغار والكبار، فكانت تذاع في القنوات والإذاعات قبل وبعد صلاة العيد وفي ليلة المولد النبوي الشريف، ومباشرة بعد آذان الإفطار في شهر رمضان الكريم وبعد إعلان رؤية هلال العيد أو هلال مطلع شهر الصيام.
أبرز أسمائه
ارتبطت أغنية “الشعبي” بأسماء كبيرة ساهمت في النهوض بها، وإيصالها إلى ما وراء الحدود، أبرزهم الحاج محمد العنقاء الملقب بـ”الكاردينال” الذي ترك إرثًا فنيًا خالدًا، حيث كتب 350 أغنية وسجل ما يقارب 130 منها، من بينها “الحمام اللي ربيتو مشى عليا” و”الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا” و”مالو بطا عليا” و”ولفي مريم” و”لا إله إلا الله”.
استطاع صاحب رائعتي “يوم الخميس” و”عويشة والحراز” أن يسطع نجمه ويتألق في سماء أغنية “الشعبي”
ويعد الحاج محمد الذي يحمل اسم “ايت أوعراب محمد إيدير” رمزًا للأغنية الشعبية ويعود إليه الفضل في تطويرها وتقريبها من البسطاء وجعلها تعبيرًا عن همومهم، ويعود الفضل في اكتشافه إلى الفنان الراحل الشيخ مصطفى الناظور الذي أعجب به كثيرا فضمه إلى فرقته الموسيقية، رغم معارضة والده.
ويؤكد عديد من الموسيقيين، أن العقنا – أو عميد الأغنية الشعبية كما يطلق عليه – قام بثورة على النص، حيث بسط كلماته وغير ألفاظه الغامضة، وأصبح ممكنًا أن تسمع في حفل واحد مديحًا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقصيدة أخرى ”ما تسمع فيه غير كب وهات ربي غفار”.
إلى جانب محمد العنقا، نجد الهاشمي قروابي الذي يطلق عليه البعض “أسطورة الفن الأصيل”، فعشقه للغناء جعله يتقرب من شيوخ الطرب الشعبي، غامر وتحدى ولم تنته الستينيات حتى كان له أسلوبه الشخصي في الغناء الذي قام على تحرير أغاني “الشعبي” وتقريبها من الطرب المشرقي والغربي.
استطاع صاحب رائعتي “يوم الخميس” و”عويشة والحراز” أن يسطع نجمه ويتألق في سماء أغنية “الشعبي”، حيث تميزت مؤلفاته بالتنوع والثراء، وأدى بامتياز الأغاني القصيرة لا سيما أغنية “البارح كان في عمري عشرين” التي رافقت العديد من الأجيال منذ 40 سنة وأعادها الفنان المصري محمد منير، إلى جانب أغاني أخرى هي “يا الورقة” و”يوم الجمعة خرجوا لريام”.
https://www.youtube.com/watch?v=IYwTdKfn9nA
فضلاً عن هؤلاء، برز اسم محمد الباجي الذي لم يكتف بالغناء فقط، بل كان أيضًا مؤلفًا وملحنًا، فقد كتب العديد من القصائد الشعبية التي تغنى بها عمالقة الفن الشعبي الجزائري، من بينها “يا المقنين الزين” و”بحر الطوفان” و”فلسطين”، إلى جانب قصائد أخرى في المديح الديني والعاطفي والوطني.
إلى جانبهم، نجد دحمان الحراشي، الذي اشتهر بأغنيته الرائعة “يا الرايح وين مسافر” التي انتقد فيها هجرة شباب الجزائر إلى فرنسا، ولاقت إقبالاً كبيرًا داخل الجزائر وخارجها، وتغنى بها عديد من المطربين، وقد أعطى الحراشي لأغنية الشعبي رونقًا خاصًا، حيث تميزت أغانيه بأسلوب جميل يعالج قضايا المجتمع.