من أهم الممارسات التي يقوم بها العاملون في المهن الشاقة سواء صيادون أو بناءون أو حصادون أو رعاة وغيرهم، هي الغناء، فيمكّنهم الغناء من كسر رتابة العمل ودعمهم على الاستمرار من خلال الأغاني والأهازيج التي تشعل حماسهم.
الغناء لا يُمارس فقط في أثناء أداء الأعمال، وإنما حاضر رئيسي في احتفالات الزفاف والنجاح وانتصارات المقاومة في البلدان المحتلة. في هذا المقال نستعرض معًا بعض تلك الأغاني والأهازيج التي اشتهرت في المجتمع الفلسطيني قديمًا وأخذت مكانتها الخاصة تاريخيًا وتراثيًا، وتجارب بعض الفنانين والباحثين لإحياء هذا الفن الأصيل.
المقاومة
حين نتحدث عن فلسطين فإن ما يأتي لذهننا عنها الاحتلال وقبله الانتداب وتاريخ طويل من المقاومة، ساهم بشكل كبير في إثراء الفن المقاوم بها، ومن أبرز أغنيات المقاومة ما قبل الـ48: “ظريف الطول” أو “زريف الطول” التي تحكي عن شاب مقاوم في أسطورة يقصد بها كل من حمل السلاح في وجه الاحتلال يقول الحكاء: “زريف الطول كان نجار وغريب عن القرية، كان اسمه فلسطيني، بس طوله كان سبب اسمه، خلوق ما برفع عينه في امرأة، وكان أبو حسن يعطيه أجره كل أسبوع، وما كان يعرف وين بروح فيه، بنات القرية حواليه وهو ولا هو هون، مرت المختار فصلت نملية، مشان تلفت نظره لبنتها.. وأم خليل مرت خطيب القرية فصلت عنده صندوق (أواعي) وحكتله عن بنتها، حتى الخطيب في خطبة الجمعة لمح للموضوع بس ما في فايدة”.
ويضيف الرواي: “في يوم هجموا قطعان اليهود على القرية، واستشهد 3 شباب، ثاني يوم غاب زريف الطول، ورجع بعد 4 أيام، رجع بالليل ما حدا شافه، بعد شهر رجعت قطعان اليهود، كان زريف الطول مشتري 5 بواريد وزعهن على شجعان القرية، قتلوا 6 يهود”.
“ثاني يوم القرية قامت وقعدت، النسوان باعن ذهبهن مشان الشباب تشتري بواريد، وصاروا يغنوا “يا عربي يا ابن المقرودة بيع أمك واشتري بارودة”، رجعت القطعان توخذ بالثأر وحصلت معركة مثلها ما صار، هرعوا الناس كبار صغار وفي كروم التفاح ريح الثورة نسّم وفاح،
استشهد شباب كثير بس خسائر القطعان أكثر، جمعوا الشهداء، زريف الطول مش معهم وزريف الطول مش مع اللي بقوا، بس الكل حلف يمين إنه شاف زريف الطول قتل أكثر من 20 يهوديًا، وكان يطخ ببارودتين وهو اللي سحب عمار وجهاد أولاد الأرملة من ساحة المعركة وهم جرحى والرصاص زي زخ المطر فوق رأسه، طول الليل القرية دورت بالمشاعل على زريف الطول ما بين إله أثر”.
“ومرت الأيام، وصار زريف الطول أغنية القرية:
يا زريف الطول وين رايح تروح بقلب بلادنا تعبقت الجروف
يا زريف الطول وقف تاقولك رايح عالغربة وفلسطين أحسنلك”
“بعدها بخمس سنين إبراهيم الحلاق حلف يمين إنه شاف زريف الطول مع عز الدين القسام في أحراش يعبد، وجهاد ابن الأرملة بقول شافه مع الحنيطي بدرب الثوار بيافا، أكيد مهو مش غشيم عنه، وكثير ناس حلفت إنه كان ببورسعيد مع جمال عبد الناصر، وعلى الوصف ناس شافوه بالكرامة على نهر الأردن بفجر دبابة بعد ما قطعت النهر، بس آخر مرة شافوه
كان بغزة، طلع للقطعان من نفق رمى صلية صواريخ على تل أبيب ورجع على الخندق.
زريف الطول كل مقاوم، وكل إيد قابضة على السلاح وسبابتها على الزناد
بعرف، في سؤال؟ هو زريف الطول ما بموت؟ ليش هو الفلسطيني بموت”!
من سجن عكا
في خضم ثورة الـ36 اعتقل البريطانيون بعض الثائرين وأصدروا حكمًا بالإعدام على 3 منهم هم: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الله الزير، بعد الإعدام اتشحت فلسطين بالسواد، وغُني لهم: “من سجن عكا وطلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي .. جازي عليهم يا شعبي جازي.. المندوب السامي وربعه عمومًا”
الحصاد
يتم الحصاد في أكثر من ظرف ولمدد زمنية متباينة تختلف بحسب نوع المحصول والطقس الذي يتم فيه الحصاد.
من أكثر الأغاني الشائعة حول الحصاد في فلسطين:
يا زرع قطفتو والندى عليه.. يا سامي ندهتو واسم الله عليه
يا زرع قطفتو من شطك يا واد.. يا فلان ندهتو من بين الأجواد
يا زرع قطفتو من شطك يا بير.. يا فلان ندهتو من عند الوزير
يا زرع قطفتو من روس الموارس.. يا فلان ندهتو من بين الفوارس
وأغنية العاتابا:
يا بلادنا يا أم العنب والزيت
يا بلاد الغرايب كيف بدنا نبيت
يا بلادنا يا أم الشجر والهيش
في بلاد الغرايب كيف بدنا نعيش
ومن أشهر أغاني الحصاد التي يرردها الحصادون وقت جني القمح أيضًا:
يا منجلي يا منجلاه
رايح ع الصايغ جلاه
ما جلاه إلاّ بعلبة
ريت هالعلبة عزاه
منجلي يا أبو الخرايش
منجلي في الزرع طافش
منجلي يا أبو رزة
ويش جابك من غزة
وحين يكون الحصاد متعبًا، ينشد الحصادون أغاني تهون عليهم صعوبة الأمر مثل:
بكرة بتخلص الحصيدة
والموارس والغمور
تنلبس الثوب المطرز
ونقعد في القصور
أو كهذه الأغنية حين يشتد عليهم حر الشمس:
والحصيدة ما بتتعبش
بتعب لقاط المشمش
كل ما هب الهوا
وهو على إمّه يِدْوِش
لاقيني على حراشه
حديثك حديث الباشا
وقع في بركة الصافي
طمّلِتْ تاطوله
وقع جسمي من كتافي
الزيتون بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين ليس مجرد محصول يقومون بجنيه وإنما رمز وطني له شأنه ووضعه، لذلك فأغاني الزيتون دائمًا تكون مختلفة، بالإضافة إلى أن موسم قطاف الزيتون يكون في أجواء لطيفة حرارتها غير حادة، فجاءت أغانيه عذبة رقيقة تمتاز بانسيابية عالية:
زيتونا حامل والزيت بنقط منه
زيتونا يا وحداني يا رب كثّر منه
زيتونا حامل والزيت ع جراره
نايف يا وحداني يا رب تعمر داره
الزفاف
يعد الزفاف من أكثر المناسبات التي تحتاج للغناء كحاضر أساسي يبهج المحتفلين ويطربهم، وهو الفرع الأكبر الذي به الأغاني والأهازيج في أي تراث شعبي خاصة التراث الفلسطيني:
إيويها لزينة الشباب وزينة الحارة
إيويها إن وصفت بالوصف ما وفيت
إيويها أمير صغير وتلبق له الإمارة
إيويها بحنة مكة جيت إحنيك
إيويها يا بدر ضاوي والحلى كله ليك
إيويها ما تلبق الحنة إلا لإيديك
وأغنية أخرى للمحبة والمعزة
يا مرحبا بك ومن دلك ومن جابك
يا مرحبا بالطريق إل عرفتنا بك
لولا المحبة على الأقدام ما جينا
ولا دعسنا بأراضيكم رجلينا
وأغنية للمباركة والصلاة على النبي:
طاحت الخيل ترقص في ميدان العريس
يا صلاتك يا محمد يا خزاتك يا إبليس
طاحت الخيل ترقص في ميدان العرسان
يا صلاتك يا محمد يا خزاة الشيطان
من أبرز أغاني الزفاف أغنية هز الرمح، وكانت خاصة فقط بمناسبات الزفاف، بعد النكبة دخلت عليها كلمات جديدة حولتها لأغنية احتفالات وبها أيضًا روح الثورة
هز الرمح بعود الزين وأنتوا يا نشاما منين
إحنا شبابك فلسطين والنعم والنعمتين
بعض هذه الأغاني والأهازيج خضعت للتطوير والإنعاش على يد الكثير من الشباب الفلسطيني المعني بإحياء التراث الفلسطيني كالفنانة دلال أبو آمنة عبر مبادرتها “يا ستي” التي عمدت لتطوير الأغاني الفلسطينية من كل الألوان التي استعرضناها في بداية المقال وترى في ذلك إنقاذًا لما تبقى من القرى المهجرة.
https://www.youtube.com/watch?v=XDr51TRvyAw
فنانون آخرون يعملون على بث الروح في ذلك التراث من خلال تجديد آغانيه وغربلة ما يعثرون عليه، كـ”ريم تلحمي” و”شادي زقطان”.
تعلق تلحمي على تنوع الأغنية الفلسطينية قائلة: “نجد الأغنية الوطنية والتراثية والطربية والأوبريت والحداثة والتجريب، ونجد الشرق والغرب، إن الأغنية الفلسطينية تمتدّ لتنسجم مع الموروث العربي الشرقي الكبير الواسع، تنهل منه وتختلف معه وتطرح البدائل، لترسيخ الوطن”.
وتقول: “أغاني فلسطين متاحة للجميع، فهناك أعمال تتبع المرحلة، وأخرى تذهب بالتراث الفلسطيني إلى التجديد أو أحيانًا إلى التدمير، وأخرى تتعلّق بالغناء الشعبي فيختلط التراثي بالشعبي دون التنبّه إلى الاختلاف بينهما، وأخرى تنقل أوجاعًا وهمومًا بأبسط لغة ممكنة، وأخرى تبتعد عن الناس، وهناك أيضًا القصائد والأغاني بالعامية الفلسطينية وأغاني الشعر وأغاني النثر وهناك الطرب، والقائمة تطول”.
الأمر لم يقتصر على الفنانين فقط، فالباحثة السيدة “نائلة لبس” من مدينة الناصرة من المتعلقين بشغف بأغاني تراث فلسطين، رغم ما تحمله من تحفظ على المصطلح وتفضيلها استخدام “التراث الشامي”، مع وجود خصوصية محلية بتأثير الجغرافيا والتاريخ وغيرهما.
وترى لبس أن الفولكلور الفلسطيني هو التاريخ غير المكتوب لحياتهم الاجتماعية، ويجمع الفكر الشعبي من أمثال وأغنيات ويوثّق أحداثًا بارزة كالثورة الكبرى عام 1936 ونكبة 1948، كما جاء في قصيدة “سيروا على ما قدر الله والكاتب الله”، أو أغنية “منهجم على أبواب السرايا”.
السيدة لبس لا تتوقف على نقل ما تسمعه، بل تنقحه وتستعين بمؤرخين وعجائز وباحثين آخرين من أجل تدقيق نقلها لتلك الأغنيات، وتعتقد أن سر جمال أغنيات المهاهاة هي سلاسة وبساطة كلماتها وتنوع أهدافها، موضحة أن المرأة لم تترك حالة اجتماعية إلا وغنت لها، مما أثرى الفلكلور، فمثلاً أغنية العروس المتوفى والدها مختلفة عن العروس التي والدها حي. للسيدة لبس العديد من المؤلفات التي دونت فيها أغاني التراث الفلسطيني منها “يا ستي ويا ستي” و”أغانينا النصراوية”.
لفلسطين تراث ثري وعظيم يتناسب مع عظمة تاريخ تلك الأرض وأصالة أهلها، وربما في المستقبل يخرج علينا شباب آخرون من بقاع العروبة كلها وقد حفظوا وأحيوا هذا التاريخ الذي يروي الكثير من الذكريات.