يواجه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أزمات حادة جراء إدارته الوحشية لحرب غزة والانتهاكات التي ارتكبها – ولا يزال – جيشه بحق المدنيين العزل من النساء والأطفال والشيوخ في القطاع المحاصر منذ أكثر من مائتي يوم، كانت الحصيلة ارتقاء ما يزيد على 34 ألف شهيد ونزوح مليون ونصف شخص، وعشرات الآلاف باتت حياتهم على المحك بسبب ثنائية الجوع والقصف.
ولأول مرة منذ بداية الحرب يجد نتنياهو وجنرالاته أنفسهم في هذا المأزق الصعب، حيث تصاعُد الضغوط الداخلية والخارجية، وقلق بشأن صدور مذكرة اعتقال بحقهم، وتدحرج كرة النار على مستوى الرأي العام العالمي الناقم على سياسة الاحتلال، وسط غضب شعبي جام ومطالبات بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة تحمل بين طياتها شهادة وفاة رسمية لمستقبل “بي بي” السياسي.
وفي ظل سياسة “شد الحبل” التي تُمارس إزاء رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرًا، توقع البعض أن يُسفر هذا الضغط عن تنفيس نسبي، ولو مؤقت، لبالونة غزة المنتفخة بغاز التوتير والتصعيد الوحشي، فهل يقود مأزق نتنياهو نحو انفراجة محتملة رغم الضغوط التي يتعرض لها للوصول بتلك البالونة لمرحلة الانفجار؟
مأزق رباعي
يعاني نتنياهو خلال الأيام الماضية من حالة من فقدان التوازن، وتوتر ملحوظ، كشفت عنه العديد من وسائل الإعلام العبرية، وذلك بسبب 4 ضغوط يتعرض لها مؤخرًا، أسفرت عن بعثرة أوراقه وإرباك حساباته، هي:
مخاوف الاعتقال.. يواجه نتنياهو شبح الاعتقال على خلفية ما يثار بشأن قرب إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء ومعه وزير الجيش يوآف غالانت والجنرال أفيف كوخافي، وذلك بسبب جرائم الحرب المرتبكة في غزة والتي يأتي على رأسها حرب التجويع الممارسة بحق أكثر من مليوني إنسان محاصرين بالقطاع.
وأصاب هذا الحراك نتنياهو بالقلق والخوف بشكل كبير، وإن حاول إبداء غير ذلك، كما ذهبت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، الأمر الذي دفعه إلى بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية والاتصالات المكثفة مع قادة الدول الحليفة خلال الساعات الماضية، لإحباط خطط الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحقه وجنرالاته، بحسب ما قالت صحيفة “The Times of Israel”، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن المكالمة الهاتفية التي أجراها نتنياهو مع الرئيس الأمريكي جو بايدن أمس تمحورت حول هذا الأمر وحث واشنطن على ممارسة ضغوطها لإثناء المحكمة الدولية عن خطوتها المرتقبة.
عاجل | القناة 12 الإسرائيلية: رسائل وصلت إسرائيل تشير لتزايد احتمال إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين كبار pic.twitter.com/gvnAlRCwbX
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 23, 2024
الضغوط الدولية.. تواجه حكومة الاحتلال ومجلس الحرب المصغر انتقادات دولية لاذعة، من الحلفاء والخصوم معًا، بسبب تجاوز الانتهاكات التي يرتكبها جيش الاحتلال الخطوط الحمراء، وانتهاج سياسة “الأرض المحروقة” وتدشين مرحلة متطرفة من “حرب التجويع” الممنهجة التي تستهدف تعريض حياة عشرات آلاف المدنيين للخطر كسلاح ضغط على المقاومة.
ومع مرور الوقت وفي ظل إصرار الاحتلال على حرب الإبادة التي يشنها منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على أمل تحقيق الأهداف المنشودة منها والتي فشل فيها حتى اليوم، تزايدت رقعة الانتقادات الدولية ضد نتنياهو، وتصاعدت المطالب – حتى داخل الدول الحليفة كالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا – التي تنادي بفرض عقوبات على “إسرائيل” وإعادة تقييم العلاقات معها ووقف تصدير السلاح لها، هذا بخلاف الدعوى المرفوعة داخل محكمة العدل الدولية، التي لم يصدر الحكم فيها حتى اليوم، وتتهم فيها جنوب إفريقيا الكيان المحتل بارتكاب جريمة إبادة بحق الفلسطينيين، وهو ما وضع تل أبيب في حرج كبير أمام الحكومات الداعمة لها، والتي بدورها تعرضت لانتقادات وضغوط هي الأخرى بسبب دعمها لجيش الاحتلال في تلك الحرب
الرأي العام الغاضب.. لم تواجه “إسرائيل” رأيًا عامًا دوليًا ضدها كما تواجهه اليوم، انتفاضة غير مسبوقة لدى الشارع العالمي، جامعات ومجتمع مدني، منددة بسياسات الاحتلال وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني، وفي المقابل زخم لم تعرفه القضية الفلسطينية منذ أن وطأ المحتل بأقدامه الاستعمارية تراب فلسطين قبل أكثر من 70 عامًا.
هذا الزخم أصاب الكيان المحتل بصدمة كبيرة، كشفت عنها تصريحات كبار مسؤوليه، ووثقتها تحذيرات الحلفاء في أمريكا ودول أوروبا، كما أحدث قلقًا متصاعدًا من تجاوز هذا الغضب حاجز الهتافات والشعارات والاعتصامات إلى ما دون ذلك، وهو ما دفع وزير خارجية الاحتلال، إسرائيل كاتس، لإصدار تعليماته إلى جميع السفارات الإسرائيلية في العالم باتخاذ الحيطة والحذر والاستعداد لاندلاع ما أسماها “موجة شديدة معادية لليهود ومعادية لإسرائيل ومعادية للسامية في العالم”، حسب قوله.
"لن نرتاح حتى وإن تخلت الجامعة عن استثماراتها جزئيًا، لن نقرّ بأي نصر حتى تتحرر فلسطين" .. طلاب جامعة #ستانفورد في أمريكا يعيدون بناء مخيمهم بعد أن هدمته الجامعة. #تمرد_طلاب_امريكا pic.twitter.com/TzTGEzYol2
— نون بوست (@NoonPost) April 29, 2024
الضغوط الداخلية.. إذا كان الرأي العام العالمي الناقم ضد حكومة نتنياهو وصل إلى مستويات غير مسبوقة في الوقت الراهن، فإن الوضع داخليًا لا يختلف كثيرًا عنه في الخارج، حيث تصاعد الغضب والاحتقان الشعبي من الحكومة وسياستها وإدارة الحرب والفشل الذريع الذي منيت به وعرضت الكيان ومصالحه للخطر.
ويواجه نتنياهو وحكومته ضغوطًا داخلية غير مسبوقة، سواء من عائلات الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، الذين يطالبونه بالإفراج عن ذويهم بأي ثمن، أم من النخبة السياسية وأعضاء مجلس الحرب وعلى رأسهم الوزير بيني غانتس (انضم لحكومة الطوارئ بعد أيام من حرب غزة) الذي هدد، الأحد 28 أبريل/نيسان الحاليّ بإسقاط الحكومة حال منع وزراء فيها إبرام صفقة لتبادل الأسرى مع حركة “حماس”، مغردًا على حسابه على منصة “إكس” قائلًا: “دخول رفح مهم في الصراع الطويل ضد حماس، لكن عودة المختطفين الذين تخلت عنهم الحكومة أمر عاجل وذو أهمية أكبر بكثير”، مضيفًا “إذا تم التوصل إلى صفقة، بدعم من الجهاز الأمني الإسرائيلي، لا تنطوي على نهاية الحرب، ومنع الوزراء الذين قادوا الحكومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذلك، فلن يكون للحكومة الحق في الاستمرار في الوجود”.
هل تقود تلك الضغوط نحو انفراجة؟
لم تكن ضغوط الخارج والداخل وحدها التي تؤرق نتنياهو وتسبب له صداعًا مزمنًا، فثبات المقاومة وصمودها وتكبيدها للكثير من الخسائر في صفوف جيش الاحتلال، واستمرار دوي صافرات الإنذار في المستوطنات ومدن الغلاف، رغم مرور أكثر من 205 أيام على الحرب هو صداع لا يقل في إيلامه عما تسببه تلك الضغوط، الأمر الذي زاد من وضعية الحكومة الحرجة.
وتقول علوم الفيزياء إن الأمواج حين تكون بهذا الارتفاع الشاهق، فليس هناك من سبيل سوى طأطأة الرأس والانبطاح قليلًا، حتى تمر أو تهدأ، وهذا ما تؤصله علوم السياسة والمنطق كذلك، فأمام الضغوط والانتقادات الحادة لا بد من إبداء المزيد من المرونة والتعاطي مع المسائل بما يسمح بتبريد الأجواء وتخفيف حدة التوتير.
وانطلاقًا مما أرسته علوم الفيزياء والسياسة والمنطق، فليس هناك أمام نتنياهو إلا إبداء المرونة وتقديم ما يبرئ ساحته ويخفف من حدة تلك الأمواج التي يتعرض لها، والكفيلة إذا ما اصطدم بها أن تقضي عليه سياسيًا وقد تزج به في غياهب السجون، وهناك مؤشران أوليان يذهبان في هذا الاتجاه وربما يحملان انفراجة مؤقتة إزاء الوضع في غزة.
المؤشر الأول: السماح بإدخال المزيد من المساعدات.. وهنا يجب التذكير بأن المحور الأساسي الذي تستند إليه المحكمة الجنائية الدولية في تخطيطها لإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وجنرالاته، يتعلق بتجويع الفلسطينيين داخل قطاع غزة عمدًا، ومنع دخول المساعدات لهم، ومن ثم ستحاول حكومة الاحتلال – تحت وطأة تلك الضغوط – إظهار عكس ذلك من خلال السماح بدخول المزيد من تلك الإغاثات العاجلة للمحاصرين.
ففي تصريحات له أمام الصحفيين الأجانب، زعم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، نداف شوشاني، أن تل أبيب تدعم بقوة الميناء المؤقت الذي تنشئه أمريكا قبالة غزة، ويهدف إلى إدخال المساعدات للقطاع بشكل أكبر، مؤكدًا على حرص الكيان على التعاطي بشيء من الإيجابية مع هذا الملف، وهو ما أكد عليه كذلك العميد في صفوف جيش الاحتلال، دانيال هاغاري الذي قال إن كمية المساعدات الداخلة إلى غزة زادت في الأسابيع الأخيرة بشكل ملحوظ مقارنة بما كانت عليه في السابق.
أما صحيفة “يديعوت أحرونوت” فقالت إن الخوف من إصدار الجنائية الدولية لمذكرة اعتقال بحق نتنياهو سيدفع الحكومة لفتح الباب أمام المزيد من المساعدات المقدمة لغزة، هذا في الوقت الذي أعلنت منظمة “المطبخ العالمي المركزي” الخيرية الدولية، استئناف عملها بالقطاع مرة أخرى بعد تجميد نشاطها عقب مقتل 7 من موظفيها مؤخرًا في هجوم إسرائيلي، فيما قالت صحيفة “معاريف” إن هذه الخطوة جاءت بعد ساعات قليلة من الاتصال الذي أجراه بايدن مع نتنياهو، حيث طالبه بضرورة التعاون مع المنظمات الإنسانية في غزة وعدم عرقلة عملها.
عاجل | البيت الأبيض: بايدن ونتنياهو ناقشا زيادة المساعدات لغزة والاستعدادات لفتح معابر شمالية بدءًا من هذا الأسبوع pic.twitter.com/VRiuYEanzj
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 28, 2024
المؤشر الثاني: إبداء المرونة في مفاوضات اتفاق التبادل.. منذ انتهاء الهدنة الوحيدة التي أُبرمت بين المقاومة والاحتلال، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني وبداية ديسمبر/كانون الأول 2023، وقف نتنياهو وأعضاء اليمين المتطرف في حكومته حجر عثرة أمام أي محاولات من شأنها أن تقود نحو اتفاق جديد لتبادل الأسرى، رغم الضغوط الممارسة عليه من عائلات المحتجزين لدى المقاومة.
لكن الساعات القليلة الماضية، وبحسب تصريحات مسؤولين أمريكيين وتقارير إعلامية إسرائيلية وعربية، ربما تشهد مرونة نسبية في مفاوضات الاتفاق، سواء فيما يتعلق بالموقف من المبادرة المصرية المطروحة ورد حركة “حماس” وحكومة الاحتلال عليها، أم النقاط الخلافية التي ظلت عائقًا أمام التوصل لاتفاق بين الطرفين.
ومن المفترض أن يلتقي في القاهرة اليوم الإثنين 29 أبريل/نيسان، وفد من حماس بقيادة خليل الحية، مع رئيس المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، لمناقشة بعض النقاط التي جاءت في الرد الإسرائيلي على ورقة الحركة المقدمة في وقت سابق، هذا بجانب بحث رد حماس على المقترح المصري الذي قدمه رئيس المخابرات المصرية في أثناء زيارته لتل أبيب قبل أيام.
وكانت مصر قد قدمت اقتراحًا جديدًا لهدنة بين الطرفين، يتضمن إطلاق سراح 20 رهينة إسرائيلية والسماح بعودة النازحين إلى مناطقهم في الشمال والوسط، ووقف مبدئي لإطلاق النار لمدة 3 أسابيع يؤدي في النهاية إلى وقف دائم، وهو المقترح الذي يعتبره خبراء مناسبًا لكل من الاحتلال وحماس في ظل حاجة كل منهما لهدنة ولو مؤقتة، إما لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية كما هو الحال بالنسبة لدولة الاحتلال أو لالتقاط الأنفاس بالنسبة للمقاومة.
في المقابل.. ضغوط اليمين المتطرف
ويقف على الجانب الآخر من لعبة “شد الحبل” التي يتعرض لها نتنياهو، أعضاء حكومته من اليمين المتطرف، فإن كان غانتس قد هدد بإسقاط الحكومة إذا لم تبرم صفة لتبادل الأسرى مع “حماس”، فإن هناك تهديدًا من نوع آخر لوح به وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمني القومي إيتمار بن غفير.
ففي حديثه للقناة الـ”12 ” العبرية، وجه رئيس حزب “الصهيونية الدينية” سموتريتش، خطابًا لنتنياهو قال فيه: “الموافقة على الصفقة المصرية هو استسلام مذل” وتابع: “إذا قررتم إلغاء أمر احتلال رفح فورًا، لاستكمال تدمير حماس وإعادة الأمن لسكان الجنوب ولمواطني إسرائيل وإعادة إخواننا وأخواتنا المختطفين، فالحكومة التي ترأسونها لن يكون لها حق في الوجود”.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية (حكومية) قد قالت في تقرير لها، السبت 27 أبريل/نيسان الحاليّ، إن الوزيرين المتطرفين، سموتريتش وبن غفير هددا بالانسحاب من الحكومة في حال عدم اجتياح رفح، والموافقة على صفقة تبادل مع حماس تقضي بتجميد الحرب ووقف إطلاق النار.
في ضوء ما سبق وفي ظل المعضلة الحرجة التي يواجهها نتنياهو من الداخل والخارج، الحلفاء والخصوم، تذهب كل المؤشرات باتجاه انفراجة محتملة، ولو مؤقتة، لكن يبقى الصلف والعناد والغرور المدعوم من اليمين المتطرف ومقاربات اليوم التالي للحرب العقبة الأبرز أمام تلك الانفراجة.