ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأيام القليلة الماضية، وبعد اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، تأكد الجميع من الهوية الحقيقية للطرف الذي دعمه في الانتخابات ليصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. فقد كان لقرار ترامب وقع كبير في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وستكون له تأثيرات إيجابية على وضع بعض الأطراف في المنطقة وعلى رأسها إسرائيل، التي ستكون المستفيد الأول. وبهذا المعطى الجديد، ستعسى العديد من الأطراف لتعزيز موقفها في المنطقة.
المحامي التركي
تعتبر تركيا من المستفيدين الأكثر وضوحا، ويتجلى ذلك في شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يحاول استغلال قضية القدس لتعزيز موقفه على الساحة السياسية الداخلية وعلى مستوى السياسة الخارجية. وفي هذا الإطار، أكد مدير وكالة الأنباء الروسية “ريا نوفوستي”، فلاديمير أفاتكوف، أن “الوضع الراهن للقدس، يسمح لأردوغان بحشد الطبقات القومية المحافظة داخل المجتمع التركي، والحد من عدد أنصار النهج الغربي في الجمهورية التركية”.
من هذا المنطلق، تبدو هذه المسألة بالنسبة للرئيس التركي، مسألة حياة أو موت؛ فعلى الرغم من عمليات التطهير التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة، لا يزال في البلاد العديد من الموالين للغرب. لذلك، يحاول الرئيس التركي بكل الوسائل الممكنة إثبات أنه لا وجود لأي بديل غربي لتركيا العظمى. كما يرفض هذا الزعيم صورة تركيا لدى الغرب باعتبارها بلدا صغيرا مطالبا بطاعة أوامر الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فضلا عن إصراره على الوفاء لمبادئ الهوية الإسلامية التركية.
قد يتحول أردوغان إلى بطل الشارع العربي، القادر على التصدي للعنف، وذلك بتقديم نفسه كوسيط بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتسوية العلاقات مع الفلسطينيين
مما لاشك فيه، تحظى القدس بمكانة مميزة لدى المسلمين، مما يجعل للأحداث الأخيرة تأثيرا كبيرا على وعي الشعب التركي المسلم، الذي يواجه بعض مظاهر العنصرية من الغرب. ورغم الأهمية التي تكتسيها مسألة تعزيز أردوغان لمكانته على الساحة السياسية الداخلية، إلا أن الأهم بالنسبة إليه هو السياسة الخارجية، فهو ينصب نفسه كمدافع عن جميع المسلمين. في هذا السياق، قال الرئيس التركي “لا يحق لأحد أن يتلاعب بمصير المسلمين الذين يربو عددهم عن مليار نسمة في سبيل تحقيق مصالح شخصية”. ومن الواضح أن الرئيس التركي تمكن من الظفر بهذه المكانة.
في سبيل تحقيق هذا الرهان، لم يتردد أردوغان في إبراز هذه الصورة أكثر في قمة إسطنبول لمنظمة التعاون الإسلامي. وفي الحقيقة، لا يتوقع أردوغان تضامن النخب العربية معه، بل يعتبر ذلك غير ضروري ويستخدم منبر المنظمة ليصف تركيا بأنها البلد الأكثر صرامة ضد إسرائيل. وفي هذا الصدد، بلغ دعم أردوغان لقضية القدس إلى حد قطع العلاقات مع إسرائيل. في المقابل، لا تعتبر تل أبيب العلاقات مع الرئيس التركي هامة جدا، ولعل ذلك ما أكده وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي قال “نحن نفضل الحصول على القدس على العلاقات مع أردوغان”.
من ناحية أخرى، تتفهم القيادة الإسرائيلية أن خطاب رئيس الوزراء التركي ووعوده بدعم الفلسطينيين من شأنه أن يحفز بشكل جدي على تفاقم العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفيما بعد، قد يتحول أردوغان إلى بطل الشارع العربي، القادر على التصدي للعنف، وذلك بتقديم نفسه كوسيط بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتسوية العلاقات مع الفلسطينيين.
المصارعون الإيرانيون
في خضم الأحداث الجارية، تُنافس إيران أردوغان على مكانته “كصديق مهم للعرب”. في الواقع، تمكن الإيرانيون من إثبات ذلك على أرض الواقع أكثر من الأتراك فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، واقتنصوا فرصا كثيرة. ومنذ فترة طويلة، تراهن طهران على الشارع العربي وتحاول التلاعب بالمشاعر الدينية والقومية، في سبيل تحقيق أهدافها المعادية لإسرائيل والمناهضة للولايات المتحدة.
حيال هذا الشأن، يذكر أنه كان للرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد شعبية كبيرة بين العرب، أكثر بكثير من شعبية حكوماتهم “الغادرة”، وذلك بفضل شعاراته المنادية بتدمير الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي الوقت الراهن، تستمر السلطات الإيرانية في هذه اللعبة. فعلى عكس الرئيس التركي الذي يحاول الحصول على تنازلات من الأمريكان، يفضل الإيرانيون الصدام المباشر.
إن حرمان أنقرة من التنوع على مستوى سياستها الخارجية سيجعلها أكثر اعتمادا على العلاقات مع روسيا، مما يعني أن ذلك سيخدم موسكو
بناء على هذا المعطى، ستحاول إيران إثارة موجة من العداء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث لن يتوانى الرئيس الإيراني حسن روحاني وبقية المسؤولين الآخرين عن توجيه تصريحات نارية ضد دونالد ترامب، قد تتطور سريعا لتتحول إلى استعمال القوة. فستعمل طهران على دعم شركائها من حماس وحزب الله عسكريا وماليا، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع انتفاضة ثالثة. وتجدر الإشارة إلى أن طهران تعتبر حرب حزب الله ضد إسرائيل أمر لا مفر منه، لكنها تفضل أن يكون موقف الشارع العربي في صفها قبل ذلك.
في البداية، قد تلجأ طهران للعمل في الخفاء، مما يعني أن تحركاتها قد تقتصر في الوقت الحالي على التصريحات القاسية وتوجيه التهديدات. وفي ظل الوضع الراهن، قد تحاول طهران قيادة الاحتجاجات العربية لإثارة رعب الحكومات العربية.
التحالف غير المقدس
من المعلوم أن السعودية تعتبر إيران عدوها اللدود، وهي مستعدة للتحالف حتى مع الشيطان للتصدي لهذا الخصم. وفي الوقت الحالي، تعد إسرائيل “الحليف الشيطان” للقيادة السعودية. فمنذ فترة طويلة، تجمع بين إسرائيل والسعودية محادثات سرية بوساطة أمريكية، حول إنشاء محور مشترك معادي لإيران.
في الواقع، من المستحيل إضفاء الشرعية على هذه العلاقة نظرا لأن السعوديين لن يتفهموا ذلك، خاصة وأنه منذ عدة عقود، رُسّخ في الفكر العربي مبدأ حظر التعاون مع “العدو الصهيوني” الذي يقتل “الفلسطينيين المسالمين” العزل ويمنعهم من إنشاء دولتهم.
لحل هذه المشكلة، وجدت القيادة السعودية أن إضفاء الطابع الدبلوماسي (في العلاقات الثنائية الإسرائيلية السعودية) الذي يعمل على حل القضية الفلسطينية، سيكون قناعا مناسبا لإخفاء العلاقات الإسرائيلية السعودية المشبوهة. والمثير للاهتمام أن المواجهة مع إيران بالنسبة للملكة العربية السعودية أهم بكثير من مصير الفلسطينيين. فلطالما كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على استعداد لتقديم تنازلات جدية لإسرائيل في سبيل التوصل إلى حل سريع للمسألة الإيرانية.
أضاف بيان ترامب على هذه التنازلات لمسة شرعية، وبذلك، تحول الرئيس الأمريكي إلى كبش فداء. ففي الوقت الراهن، يقع توجيه كل الغضب والعداء إلى الولايات المتحدة الأمريكية
في الآونة الأخيرة، انتشرت العديد من الشائعات فيما يخص هذه التنازلات المتعلقة بالضفة الغربية وحق العودة وسيادة فلسطين. ولكن ما تم تأكيده فعليا هو أن محمود عباس اتخذ قراره في الرياض تحت الضغط، حيث كان أمامه خياران إما الموافقة على التنازل أو ترك منصبه لشخص آخر يكون أكثر مرونة.
على هذا الأساس، أضاف بيان ترامب على هذه التنازلات لمسة شرعية، وبذلك، تحول الرئيس الأمريكي إلى كبش فداء. ففي الوقت الراهن، يقع توجيه كل الغضب والعداء إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة أخرى، دعا محمد بن سلمان الفلسطينيين للتخلي عن القدس ومحاولة التأقلم مع الواقع الجديد. وفي خطوة لاحقة، ستُجبر كل من الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل محمود عباس؛ الذي سيكون الخاسر الأكبر في هذه الصفقة، على الاعتراف بالواقع الجديد، ثم سيبدؤون بكبح جماح إيران فعليا.
المكان المقدس
في ظل هذه الأحداث، ستكون روسيا المستفيد الرئيسي، إذ يشهد جميع اللاعبين الأساسيين في المنطقة حالة من الفوضى، ستتيح لها فرصة ترتيب أوراقها. ومن خلال هاذ القرار، ساهم ترامب أولا في فتح آفاق دبلوماسية واسعة لروسيا. ووفقا لأغلب الدول العربية، أخرج ترامب نفسه من عملية التفاوض لحل الصراع العربي الإسرائيلي بعد خطابه الأخير.
وتجدر الإشارة إلى أن عملية التفاوض المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلية بالغة الأهمية. ونظرا لأن الكرملين تمكن من كسب سمعة طيبة باعتباره وسيطا فعالا في المسألة السورية، فإن خروج واشنطن من اللعبة سيتيح لموسكو فرصة أكبر من تركيا لتلعب دور الوسيط.
من الممكن القول إن خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير كان بمثابة هدية قيّمة لروسيا
ثانيا، سيؤدي قرار ترامب إلى تدهور علاقات الولايات المتحدة مع العديد من الدول في الشرق الأوسط، التي على عكس المملكة العربية السعودية، لا تسعى إلى التصدي إلى الخطر الإيراني، خاصة تركيا. وفي الوقت الحالي، توجد ثلاث نقاط خلاف بين تركيا والولايات المتحدة؛ التي تتمثل في مصير فتح الله غولن، ووضع القدس، والأكراد. وفيما يتعلق بالمسائل الثلاث، ترفض الولايات المتحدة الاستجابة لتركيا. وبالتالي، سيكون موقف تركيا صعبا للغاية، لأنه من المرجح أن تصل العلاقات التركية الأمريكية إلى طريق مسدود.
في المقابل، إن حرمان أنقرة من التنوع على مستوى سياستها الخارجية سيجعلها أكثر اعتمادا على العلاقات مع روسيا، مما يعني أن ذلك سيخدم موسكو. وستأخذ العلاقات الروسية التركية اتجاهات أكثر تقدما فيما يتعلق بمسألة شبه جزيرة القرم والقوقاز بالإضافة إلى الشأن السوري، وستكون جميعها لصالح روسيا. وعلى هذا الأساس، من الممكن القول إن خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير كان بمثابة هدية قيّمة لروسيا.
المصدر: صحيفة “روسكايا فيسنا” الروسية