لم تكن أفكار داروين مقبولة عالميًا حتى عام 1940. والحقيقة أنّ داروين نفسه تأخر في نشر فرضياته خوفًا من كيفية تفاعل المجتمع معها وردود أفعاله تجاهها. وحين نُشرت لم يقبلها المجتمع العلميّ لسنوات عديدة، ففكرة أنّ البشر يرتبطون بشكلٍ أو بآخر بالقردة كانت مرفوضة كليًّا سواء من المجتمع أو العلماء أو حتى رجال الدين والكنيسة، لدرجة أنّ العديد من المحاكمات أُقيمت بحقّ المعلّمين الذين كانوا يُدرجون نظرية التطور في مناهجهم الدراسيّة.
يجادل البعض بأنّ الثورة العلمية الداروينية لم تكن حقًا “داروينية”، فقد شهدت تلك الفترة أيضًا الكثير من العلماء الذين توصّلوا لأفكار مماثلة ومشابهة لتلك التي جاء بها داروين، ويرى البعض أنّ مفهوم التطور يرجع إلى عصور قديمة جدًا وأنّ داروين ذاته قد بنى نظرياته على استنتاجات سابقة وبالتالي لم يأتِ بما هو فريد وإنما كان أول من من جعل تلك الفرضيات محتومة ولا مفرّ من تجاوزها أو التغاضي عنها.
اليوم، باتت نظرية “الانتقاء الطبيعي” مقبولةً من المجتمعات العلمية جميعها بالإضافة للكنيسة الكاثوليكية، وقد لعبت هذه النظرية دورًا رئيسيًّا في تطور البحث العلمي خاصة بعد اندماجها مع العلوم الأخرى كالوراثة والأعصاب والبيولوجيا وعلم النفس وغيرها، فيما تمّ تطبيق فكرة “البقاء للأصلح” ومفاهيم النظرية الأخرى على العديد من النظريات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتجارية التي تتحكّم بالسوق المالي للدول الكبرى، وغيرها.
وبشكلٍ مبسّط جدًا، أشار داروين أنّ الكائنات الحية كانت دومًا في صراعٍ من أجل البقاء، وأنّ تلك التي تكون مهيأة بشكلٍ أفضل لملائمة البيئة التي تعيش فيها هي الأميل للانتصار على أقرانها في ذلك الصراع، وبالتالي تصبح الأصلح للبقاء هي وذريتها وما يتعاقبها من أجيال.
نظرية “التطور بالقفزات Saltation ” في البيولوجيا كانت الأكثر شيوعًا لشرح نظرية التطور قبل أن يأتي داروين بأفكاره
وفي صراع البقاء المحكوم بقوانين الوجود والبيئة ومتغيراتها الدائمة، ثمة خيارات ثلاث أمام الأنواع البيولوجية المختلفة، إما النجاح في مواجهة هذه المتغيرات البيئية والتفوق في صراع البقاء بدون حدوث تطورات بيولوجية واضحة وإنما من خلال صفاتها الحالية القادرة على التكيّف، وإما حدوث تطوريؤدي لنشوء نوع جديد من أجل التكيف مع المتغيرات البيئية والتنافس الدائم بين الكائنات الحية على مصادر البقاء، وأخيرًا هناك الانقراض نظرًا لعدم القدرة على مواكبة قوانين البيئة والطبيعة ومجابهتها.
جديرٌ بالذكر أنه قبل ما يُعرف بالعصر الدارويني، كانت نظرية “التطور بالقفزات Saltation ” في البيولوجيا هي الأكثر شيوعًا لشرح نظرية التطور، والتي استخدمت تعبيرًا عن التحول المفاجئ من جيل إلى الجيل الذي يليه، ويكون هذا التحول كبيرًا أو ضخمًا مقارنة بالتغيرات التي تجري عادة للكائن الحي، ويستعمل هذا المصطلح لوصف التغيرات غير التدريجية وبالأخص لتشكل نوع جديد بطريقة لا تتسق مع أو تخالف نظرية التطور المعاصرة.
هوغو دي فريس عالم النبات والوراثة الهولندي، المعروف بالأساس بإدخاله لمصطلح “طفرة” لعلم الجينات، كان واحدًا من العلماء الذين أظهروا تأثرًا واهتمامًا كبيرًا بنظرية داروين، إلا أنه لم يعترف بفكرة أنّ الأنواع الحيوية الجديدة تتشكّل من خلال التغيرات المستمرة والتدريجية، وإنما من خلال الطفرات المفاجئة غير التدريجية، وأنّ تلك الطفرات تصبح وراثية في الأجيال المتعاقبة، أي أنه كان أقرب لنظرية التطور بالقفزات.
نظرية دي فريس إلى أن الطفرات هي المواد الخام لتطور الكائنات الحية
تشير نظرية الطفرة التي وضعها دي فريس إلى أنّ الطفرات أو التغيرات غير المتواصلة هي المواد الخام لتطوّر الكائنات الحية، والأهم من ذلك أنها تظهر فجأة وبدون مقدمات وتصبح على الفور جاهزة للعمل. وعلى عكس فكرة داروين بالتغيرات المستمرة والمتواصلة، فالقدرة على حدوث الطفرة كامنة في الأصول ولا تحدث عن طريق الانتخاب الطبيعي وأنّ جميع الطفرات قابلة للتوريث من جيل لجيل، كما يتم اختيار الطفرات المفيدة واستبعاد ما عداها حسب الطبيعة، وليس العكس كما أشار داروين.
وبذلك عارض دي فريز نظرية “الانتخاب الطبيعي” التي وضعها داروين فقال أنّ الطبيعة لا ترتب نفسها لخلق ما هو مطلوب، بل أنّ قدرتها على الخلق لا حدّ لها، وهي إنما تمنح الفرص وتترك البيئة لتنتقي منها ما يلائمها”. لكنّ الدارونيين استفادوا من نظرية الطفرة ونظروا إليها على أنها تشرح نظرية الانتخاب الطبيعي، فقالوا إنّ الطفرة تزود الكائن بالتغيُّرات الوراثية اللازمة لعملية الانتخاب الطبيعي.
اتسعت الانتقادات ضد نظرية التطور بعد اكتشاف جريجور مندل لقوانين الوراثة
نظرية دي فريس لم تكن التحدي الوحيد لما جاء به داروين، ففي كتابه “التطور: نظرية في أزمة” يعرض مايكل دانتون أهم التناقضات والمغالطات العلمية التي وقعت فيها النظرية، لعلّ أهمها كانت عقب اكتشاف ما يُعرف بالانفجار الكمبري Cambrian Explosion، وهو الظهور المفاجئ لأكثر من 41 شعبة من شعب الحيوانات بشكلٍ فوريّ منذ حوالي 550 مليون سنة بلا أي سجل أحفوري يسبق هذه المدّة، الأمر الذي شكّل أزمة عميقة بالنسبة لمناصري نظرية داروين، إذ أنّ النظرية تفترض ظهور الحيوانات بشكل متدرّج بطيء مما يعني بالضرورة وجود سجل أحفوري متدرّج من الأدنى إلى الأكثر تعقيدًا يتوافق وهذه الرؤية، وهو ما حصل عكسه تمامًا في الانفجار الكامبري، الأمر الذي يدعم نظرية دي فريس ومن وافقوه.
فيما بعد، شكّلت نظرية داروين أزمةً حقيقية بين أوساط العلماء، خاصة في مطلع القرن العشرين، وهي الفترة التي وصفها مؤرخي العلم بفترة كسوف الداروينية، وفي حين أنّ فكرة الأصل المشترك التي أشار إليها داروين كانت شبه مقبولة، إلا أنّ “الانتقاء الطبيعي” لم يكن مقبولًا بما يكفي ليكون مرجعًا أساسيًا لتفسير التطور.
ومما لا شكّ فيه، أن الشكوك والانتقادات المتعلقة بنظرية داروين كانت قد ازدادت واتسعت بعد اكتشاف جريجور مندل لقوانين الوراثة، لأن الطبيعة المنفصلة للطفرات وتوارثها بموجب قوانين مندل تبدو متناقضة مع الافتراض الدارويني بأنّ التطور يمر بالتغيير التدريجي الذي ينطوي على فترات مترابطة ومتدرجة.
قدمت الداروينية الحديثة عدة تغييرات في تفسير كيفية حدوث التطور وعملياته، واقترحت تعريفًا جديدًا له بأنه “تغيرات معينة تحدث في تكرار الأليل عند الكائنات”، وبهذا أكدوا على الأساس الجيني للتطور
الفجوة بين ما توصل له العالمان، اللذان يُعتبران حجري أساس في علم التطور والوراثة، حفزت الكثير من علماء القرن العشرين لمحاولة التوفيق بين النظرة الداروينية الحديثة والنظرة المندلية في سلسلة من الأبحاث التي نشرت بين عامي 1918 و 1930. أما في العقدين اللاحقين، أي في أربعينيات وخميسينيات القرن الماضي، فقد قام مجموعة من العلماء بمن فيهم ثيودوسيوس دوبزانسكي وجوليان هكسلي وإرنست ماير وجورج سيمبسون وجورج ستبينز بتوسيع نطاق نظرية التطور لتشمل عدة اتجاهات أخرى بناءً على ما توصل إليه كل من داروين ومندل.
وقد أظهر عملهم الجماعي كيف يمكن للانتقاء الطبيعي والطفرات أن تفسر التغيرات طويلة الأجل التي تظهر في الأحافير التي عثر عليها الإنسان. فيما حاولوا التوصل لإجاباتٍ صريحة حول تكون الأنواع الجديدة، الأمر الذي لم يلتفت له داروين أبدًا، وبذلك خرج ما يُسمى بالتوليفة الحديثة للتطوّر أو الداروينية الحديثة، والتي لا تزال تشكّل نموذجًا قياسيًا في علميْ الأحياء والتطور، وتقوم على مبادئ داروين الأساسية إلى جانب نظرية الوراثة التي بدأت على يد مندل.
قدمت الداروينية الحديثة عدة تغييرات في تفسير كيفية حدوث التطور وعملياته، واقترحت تعريفًا جديدًا له بأنه “تغيرات معينة تحدث في تكرار الأليل عند الكائنات”، وبهذا أكدوا على الأساس الجيني للتطور. والأليل هو نسخة أو شكل بديل للجين أو موقع كروموسومي. وللجين على الأقل نسختان أو شكلان بديلان، أحيانًا قد ينتج عن الألائل المختلفة المحتوية على اختلافات في الشفرة الوراثية خلال وصفات مختلفة كلون الجلد أو العين، إلا أن الكثير من الاختلافات لا تؤدي إلا لاختلاف ظاهري طفيف أو معدوم.
أما في سبعينيات القرن الماضي، فقد طرح ستيفن جولد في عام 1972م آليةً جديدة للانتخاب الطبيعي سمّاها بالتوازن المتقطع Punctuated Equilibrium ، والتي قدمت تفسيرًا تطوريًا للحفريات الجديدة المكتشفة، مقترحةً بأنّ الكائنات الحية تمر بفترات استقرار لا تظهر فيها أية أنواع جديدة، ثمّ تعقبها فترات تحول عنيف تؤدي إلى ظهور أنواع جديدة مختلفة بشكل مفاجئ، وبذلك تكون فرضية جولد نقدًا مباشرًا لكلّ ما جاء به داروين، خاصة وأنها أيضًا انتقدت “السلف المشترك الواحد” الذي أشارت إليه نظرية داروين، وأكدت على وجود عدة أسلاف مشتركة.
بالمحصلة، تبقى نظرية التطوّر الداروينية أحد أبرز النظريات العلمية في العصر الحديث، وإلى يومنا هذا ما زالت المؤسسسات العلمية والأبحاث التطورية تركّز عليها وعلى تطبيقاتها في العلوم الطبيعية والإنسانية، برغم ما يكتنفها من كثير من الأخطاء أو الأجزاء الناقصة، وبالرغم ما تبعها من انتقادات أو محاولات لاستكمالها والبناء عليها.