ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما اعتبرتُ أن النماذج الإعلانية على الإنترنت تعتبر نماذج مكرسة للاحتيال، تم اعتمادها من قبل الشركات العملاقة المحتكرة، مثل غوغل وفيسبوك، لبيع أعداد ضخمة من الإعلانات عبر الإنترنت للمعلنين. كما تعمل هذه الشركات في الوقت نفسه، على جمع الكثير من المعلومات الشخصية التي تخص المستخدمين. وليس ذلك فحسب، حيث لم تتوان هذه الشركات عن التلاعب بمحرري المحتوى الأصليين وحرمانهم من نسبهم في الأرباح، ليتم اسكاتهم بتقديم الفتات. في المقابل، لم يفت الأوان بعد لتدارك الوضع وإصلاحه بالنسبة لبراندن آيخ، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “بريف سوفتوار”، وهي شركة ناشئة مقرها سان فرانسيسكو، يسعى القائمون من خلالها إلى تغيير المعايير السائدة وغير العادلة المتبعة على الإنترنت.
قام براندن آيخ بتصميم لغة البرمجة “جافا سكريبت” في إطار عمله لحساب شركة “نيتسكيب”، كما أنه شارك في خلق مؤسسة “موزيلا”، الذي طُور من خلاله متصفح “فايرفوكس”. وقد كان ينبغي على آيخ أن يغادر المؤسسة لأسباب لا علاقة لها برؤيته الإبداعية أو براعته التقنية. عقب ذلك، أسس آيخ شركته الحالية التي صممت متصفحا مختلفا تماما عن بقية المتصفحات الأخرى.
في الحقيقة، يختلف متصفح “بريف” عن غيره، حيث يعمل على منع المواقع الأخرى من تتبع بيانات المستخدمين ويسمح بالتحكم في تدفق الإعلانات، في حين يتخطى هذا المتصفح “مضادات حظر الإعلانات” التي تستخدمها المواقع الإخبارية الكبرى. ويعمل هذا المتصفح بشكل أفضل من برمجيات حظر الإعلانات الأخرى التي توجد على “كروم” “وسفاري”. في واقع الأمر، وقع إنشاء المتصفح عن طريق شفرة “كروميوم” التابعة لغوغل، علما وأنه لا يمكن تتبع مستخدميه من قبل أنظمة التحقق المستعملة في الإنترنت.
من جانبه، وصف آيخ هذه الخاصية قائلا: “نحن نتخفى في صلب المتصفح كروم”. وتعد هذه البرمجية المستحدثة مفيدة جدا لمقاومة المد الإلكتروني للإعلانات غير المرغوب فيها من قبل رواد الإنترنت. يبدو متصفح “بريف” مضرا لمحرري محتويات الإعلانات، للوهلة الأولى، الذين يعتمدون على دخل المتأتي من الإعلانات. ولكن آيخ يتطلع إلى بناء نموذج مختلف، حيث يستطيع منتجو الإعلانات أن يحصلوا على أرباح أكبر مقارنة بالوضع الحالي.
يعتزم متصفح “بريف” منح المستخدمين 70 بالمائة من إجمالي الإيرادات من الإعلانات التي تباع مباشرة من قبل الشركة
في هذا الصدد، أوضح آيخ، قائلا: “نعقد صفقات مع الراغبين في التسويق المباشر والوكالات الإعلانية، مما يسمح لنا بتشكيل ملف خاص. في الأثناء، يتمكن جميع مستخدمي “بريف”، في منطقة معينة، من الولوج إلى سجلات البحث والتجارة الإلكترونية، كما يستطيعون النقر على هذه السجلات لتسجيل الدخول، وينطبق هذا الأمر على مستخدمي موقع “اليوتيوب” ومواقع مشهورة أخرى كذلك، دون أن يقع تتبعهم. يستطيع “غوغل” الاطلاع على هذه التبادلات أو التحركات ولكن بصفة محدودة”.
تتمثل فكرة “بريف” في استبدال غوغل وفيسبوك على اعتباره وسيط أساسي بين المعلنين ومستخدمي الإنترنت من خلال تقديم تحليل دقيق لمختلف الطلبات استنادا إلى ما يستطيع جمعه من معلومات حول المستخدم نفسه. في الأثناء، تصل الإعلانات إلى أشخاص حقيقيين الذين يجب أن يوافقوا فعلا على رؤية هذه الإعلانات، وليس لبرامج التتبع أو الحسابات المتعددة التي ينشئها المستخدم نفسه.
في الواقع، يعمل “بريف” على ترسيخ مبدأ احترام القواعد التي يضعها المستخدم وليس العكس. أما بالنسبة لبيانات المتصفح، لا يهتم “بريف” بجمع وبيع بيانات المستخدمين، حيث من المفترض أن يقع تحليل هذه المعلومات، انطلاقا من جهاز الكمبيوتر الخاص بالمستخدم. ولسائل أن يسأل: لماذا قد يوافق الأشخاص على مشاهدة الإعلانات؟ حسنا، لأنهم سيحصلون على أموال مقابل ذلك ابتداء من النصف الأول من السنة المقبلة.
في الواقع، يعتزم متصفح “بريف” منح المستخدمين 70 بالمائة من إجمالي الإيرادات من الإعلانات التي تباع مباشرة من قبل الشركة. أما في حال كان الناشرون يشاركون في عملية البيع على اعتبارهم قناة إعلانية، سيحظى الناشرون بنحو 70 بالمائة من العائدات، في حين سيحصل المستخدمون على 15 بالمائة فقط. يشكل هذا النموذج الإعلاني، في الوقت الراهن، مصدر الأرباح الوحيد للناشرين عبر موقع آيخ، ولكن من المتوقع أن تتأتى مداخيل مباشرة أيضا من قبل مستخدمي المتصفح.
أطلق “بريف”، مليار وحدة من عملة بيسك أتينشن توكين، التي تعد بمثابة العملة المعماة الخاصة بالمتصفح، والتي يمكن تحويلها إلى عملات إلكترونية مشفرة
يسمح “بريف” لمستخدميه بالقيام بدفعات عن طواعية باستخدام عملة مشفرة متصلة بالمتصفح. وتكون هذه الدفعات عبارة عن اشتراك شهري شامل يدفعه المستخدم في حين يكون نصيب صانعي ومحرري المحتوى الإعلاني من هذه الدفعات، وفقا لحجم استهلاك للمحتوى الذي قاموا بإنتاجه، من قبل المستخدمين. ولكن يمكن للمرء أن يتصور بسهولة كيف يمكن لشركات الإعلانات دمج الاشتراكات الخاصة بها في صلب محفظات العملة المشفرة، وكيف يمكن للمستخدمين إنفاق جزء من حصصهم المتأتية من الإعلانات لسداد الاشتراكات.
عموما، تعد هذه الخطة مربحة للجميع، أي للمعلنين والمستخدمين والناشرين، على الرغم من أنها تتسم بنقاط ضعف معينة، حيث أنها في حاجة إلى الانتشار بشكل واسع لتصبح مثيرة للاهتمام بالنسبة لجميع المستخدمين على الإنترنت. في هذا السياق، أفاد براندن آيخ أن مستخدمي متصفح “بريف” سيتخطون حاجز 5 ملايين شخص في السنة المقبلة. كما يؤمن آيخ أن هذا الرقم سيرتفع بسرعة قياسية تماما مثل ما حدث مع متصفح “فايرفوكس” أو شركة “نيتسكيب”.
في أيار / مايو، أطلق “بريف”، مليار وحدة من عملة بيسك أتينشن توكين، التي تعد بمثابة العملة المعماة الخاصة بالمتصفح، والتي يمكن تحويلها إلى عملات إلكترونية مشفرة. وتم بيع هذه الوحدات لنحو مائة وستة وخمسين ألف مستخدم، علما وأن قيمتها تبلغ 67 مليون دولار. في الحقيقة، يحظى “بريف” حاليا بمبالغ نقدية هامة، ولكنه أبقى على كمية من عملته في رصيده ليتمكن مستخدموه من دفع مستحقات محرري المحتوى بواسطة هذه العملة.
شرع “بريف” في تقديم هذه الوحدات المتبقية في رصيده في شكل منح لمستخدميه، على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون هذه الطريقة بدائية في إطار دفع هذا المشروع الناشئ. في هذا السياق، أورد براندن آيخ، أنه ليس في حاجة إلى قاعدة مستخدمين عملاقة لدفع فكرته وتحقيق تغيير جذري، حيث أنه بصدد إتباع طريقة تدريجية وبسيطة في الصدد.
تعد مبادرة براندن آيخ فكرة مبتكرة ومميزة ومن الممكن أن تساهم في تغيير الإنترنت بشكل جوهري إلى الأبد
على العموم، يبدو أن فكرة “بريف” تقدم نموذجا إعلانيا أفضل وأكثر إنصافا للعالم، كما من شأنها أن تجبر الثنائي المحتكر على شبكة الإنترنت، غوغل وفيسبوك، على أن تجري تعديلات على مستوى سياساتها. ففي حقيقة الأمر، يؤمن “بريف” طريقة فعالة لحماية المستخدم من سرقة بياناته الشخصية من قبل الشركات الكبرى لتقوم باستخدامها لأغراض مادية.
من جهته، يرجح براندن آيخ أن كلا من شركة غوغل وفيسبوك ستحاولان تقليد متصفح “بريف”، كما أنه يستبعد أن الشركتين قد تبادران باعتماد النموذج الأصلي، بل في الغالب ستعملان على تقليده. في الأثناء، يبدو أن حلم آيخ الرامي إلى خلق فضاء افتراضي خال من الاحتكار واستغلال البيانات الشخصية للمستخدمين صعب المنال، خاصة وأن “بريف” لم يعمم طرحه بعد. ونظرا لأن توسيع مجال اعتماده يستند بالأساس على التقدم التكنولوجي، يتطلب الأمر من الشركة المصنعة لبريف تطوير المزيد من برمجيات التعلم الآلي، فضلا عن القيام بالتحسينات اللازمة على منصة “الإيثريوم” للسماح بالمزيد من عمليات تداول عملة بيسك أتينشن توكين عبر تقنية “البلوك تشين”.
في المقابل، من الصعب أن لا أدعم فكرة “بريف” سواء على اعتباري مستخدما للإنترنت سئم من نموذج الإعلان القائم على الاحتيال المنتشر حاليا أو كاتبا محترفا مهتما ببيع أعماله. ففي الحقيقة، يرغب الجميع في أن يطلعوا على الإعلانات بمحض إرادتهم، وأن يتقاضوا الأموال مقابل ذلك. علاوة على ذلك، يريد معظم المستخدمين تقديم مكافأة مادية لمحرري الإعلانات الموهوبين. ولعل الجانب الأهم يتمثل في حقيقة أن متصفح بريف في غنى عن سرقة بيانات المستخدمين. على العموم، تعد مبادرة براندن آيخ فكرة مبتكرة ومميزة ومن الممكن أن تساهم في تغيير الإنترنت بشكل جوهري إلى الأبد.
المصدر: بلومبورغ