اتسمت العلاقة بين أمريكا وإيران بالتأرجح بين العداء الظاهر والعلاقات الدافئة سرًا لفترات قصيرة، وتعود جذور العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى القرن الثامن عشر، ففي عام 1883 كان صمويل بنجامين أول مبعوث دبلوماسي لأمريكا في إيران، ليتم إعلان العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسميًا في عام 1944، وظلت هذه العلاقات تأخذ طابع التفاهم التجاري والدبلوماسي ما بين البلدين لفترة امتدت لنحو 10 أعوام إلى أن بدأ العداء الرسمي بين إيران بقيادة محمد مصدق وبريطانيا حليفة أمريكا.
ولعلنا نتذكر أن أبرز محطات هذه العلاقة التاريخية كانت عام 1953 عندما ساعدت المخابرات المركزية في الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق وتعيد للسلطة الشاه محمد رضا بهلوي، ووقتها لم تكن أمريكا الشيطان الأكبر بالنسبة لإيران ولم تكن إيران العدو الأكبر بالنسبة للأمريكيين، وفي عام 1967 زودت الولايات المتحدة إيران بمفاعل طهران للأبحاث، وهو مفاعل نووي بقدرة خمسة ميغاوات يعمل باليورانيوم المخصب بنسبة 93% الذي يصلح لأغراض الأسلحة.
وفي عام 1979 أرغمت الثورة الإسلامية الإيرانية الشاه المدعوم من الولايات المتحدة على الفرار وعاد آية الله روح الله الخميني من المنفى وأصبح أول مرشد ديني أعلى، وطالب طلبة أصوليون واشنطن بتسليم الشاه لمحاكمته واستولوا على السفارة الأمريكية في طهران في 4 من نوفمبر/تشرين الثاني واحتجزوا العاملين فيها كرهائن لمدة 444 يومًا.
وفي عام 1980 أخذت العلاقات منعطفًا جديدًا، حيث قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع إيران وصادرت أصولاً إيرانية وحظرت أغلب الأنشطة التجارية معها، وفي محاولة إيرانية للبحث عن مخارج وانفراجة للوضع المتأزم في العلاقات (الأمريكية – الإيرانية) أفرجت إيران عام 1981 عن الرهائن الأمريكيين بعد دقائق من انتهاء فترة ولاية كارتر وتنصيب رونالد ريغان رئيسًا للولايات المتحدة.
شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية طفرة في العلاقات الدبلوماسية بعد تولي الرئيس بارك أوباما السلطة
إلا أن العلاقات عام 2002 دخلت في نفق مظلم بعد أن أعلن الرئيس جورج دبليو بوش أن إيران والعراق وكوريا الشمالية تمثل “محور شر”، ومسؤولون أمريكيون اتهموا طهران بإدارة برنامج سري للأسلحة النووية، وفي عام 2007 في ديسمبر/كانون الأول، أصدرت المخابرات الأمريكية تقريرًا يؤكد أن إيران كانت تعمل على تطوير أسلحة نووية حتى خريف 2003 حيث أوقف العمل في هذا البرنامج، وبعدها بعام أرسل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للمرة الأولى مسؤولاً هو بيل بيرنز من وزارة الخارجية للمشاركة مباشرة في المفاوضات النووية مع إيران في جنيف.
ثم تولى الرئيس بارك أوباما السلطة لتشهد العلاقات الأمريكية – الإيرانية طفرة في العلاقات الدبلوماسية حيث أبلغ أوباما زعماء إيران بأنه سيمد لهم يده إذا فتحوا له أيديهم وأقنعوا الغرب بأنهم لا يحاولون صنع قنبلة نووية، وجرت سلسلة من المفاوضات مع إيران عن برنامجها النووي من 2009-2012 تأرجحت بين التوافق والاختلاف.
لتعلن أمريكا في نهاية عام 2012 بدء سريان قانون أمريكي يتيح لأوباما سلطة فرض عقوبات على بنوك أجنبية من بينها بنوك مركزية لدول حليفة للولايات المتحدة إذا لم تنجح في تخفيض وارداتها من النفط الإيراني بشكل ملحوظ.
وفي عام 2013 انتخب حسن روحاني رئيسًا لإيران بناءً على برنامج يدعو لتطوير علاقات إيران مع العالم واقتصادها، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تخفيف العقوبات المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.
وكانت أول خطوة في هذه السياسة في 28 من سبتمبر/أيلول حيث تحادث أوباما وروحاني هاتفيًا فيما يمثل أعلى اتصال بين البلدين خلال 30 عامًا، لتتطور العلاقات نحو التقارب الحذر، وتنجح حكومة روحاني في 14 من يوليو 2015 بإبرام صفقة مع القوى الست فيما عرف باتفاق (1+5) حيث وافقت إيران بمقتضاها على أخذ سلسلة من الخطوات من بينها تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي وتعطيل جانب رئيسي من جوانب مفاعل آراك النووي مقابل تخفيف العقوبات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بدرجة ملموسة.
وأظهرت إيران المزيد من الود والتقارب في علاقتها مع أمريكا وأطلقت سراح عشرة بحارة أمريكيين كانوا على متن زورقين في المياه الإقليمية الإيرانية بعد أقل من 24 ساعة من احتجازهم في 14 من يناير/كانون الثاني 2016.
اعتبر ترامب الاتفاق النووي بأنه يصب في صالح إيران إقليميًا ودوليًا ولا يخدم مصالح أمريكا
وفي نفس الشهر أعلنت كل من أمريكا وإيران تنفيذ اتفاق لتبادل السجناء يتم بموجبه الإفراج عن أربعة أمريكيين محتجزين في إيران مقابل العفو عن سبعة على الأقل من الإيرانيين، أغلبهم يحملون الجنسيتين الإيرانية والأمريكية إما سبقت إدانتهم في محاكم أمريكية أو ينتظرون محاكمتهم، وإطلاق سراح أمريكي خامس في خطوة منفصلة.
وفيما بعد أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران اتخذت خطوات للحد من أنشطتها النووية بمقتضى اتفاق يوليو/تموز، والولايات المتحدة رفعت العقوبات التي فرضتها على إيران بسبب البرنامج النووي.
ومع الفوز المفاجئ والملفت للمرشح الجمهوري القادم من قطاع الأعمال والتجارة دونالد ترامب، دخلت العلاقات الأمريكية الإيرانية مرحلة من التراجع والتصريحات المستفزة من الطرفين، فقد أعلن ترامب أنه سيعمل على إعادة فتح باب التفاوض بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وأنه يعتقد أن الاتفاق أعطى لإيران ما لا تستحق.
أطلق ترامب سلسلة من التصريحات هدد فيها بتمزيق أو تغيير بعض بنود الاتفاق النووي المبرم في تموز/يوليو 2015 بين إيران ومجموعة (1+5) التي تضم بالإضافة إلى أمريكا كلًا من روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والذي دخل حيز التنفيذ في مطلع 2016، واصفًا إيّاه بأنه أسوأ اتفاق وقعته أمريكا في تاريخها، واعتبر ترامب الاتفاق النووي بأنه يصب في صالح إيران إقليميًا ودوليًا ولا يخدم مصالح أمريكا.
وبعد شهور من التسخين خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مساء الجمعة 14 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، في خطاب خصصه للعلاقة بإيران، بدءًا بالاتفاق النووي، ومرورًا بالسياسات الإيرانية “العدوانية” في المنطقة، وصولًا إلى طبيعة نظامها الديكتاتوري، وحالة حقوق الإنسان في إيران، وشدد خلال حديثه أنه لن يصدق على الاتفاق النووي، قائلاً إن على الكونغرس دراسته خلال 60 يومًا، والنظر في كونه سيعيد فرض عقوبات على طهران أو لا، وفي حال لم يفعل الكونغرس شيئًا فإنه سيلغيه بصفته رئيسًا للولايات المتحدة.
من المحتمل أن يقود إلغاء الاتفاق النووي الإيراني إلى حدوث مواجهة شخصية بين الرئيس ترامب والرأي العام الأمريكي الذي يفضل أغلبه عدم تورط أمريكا عسكريًا في الخارج
ومن هنا بدأت العلاقات (الأمريكية – الإيرانية) تشهد منعطفًا جديدًا مع الاستراتيجية الجديدة التي ينتهجها ترامب وأعلنها ضد إيران والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث خطوات أساسية:
– منع إيران من الحصول على السلاح النووي وعدم التصديق على الاتفاق النووي ما لم تضَفْ له بنودًا جديدة منها حظر التصنيع الصاروخي، لا سيما طويلة المدى أو تلك القادرة على حمل رؤوس نووية.
– فرض عقوبات مشددة على الحرس الثوري الإيراني (الذي أدرج مؤخرًا ضمن قائمة العقوبات الأمريكية)، والتصدي لأنشطته التي تنهب ثروة الشعب الإيراني، وفق بيان البيت الأبيض، وحشد المجتمع الدولي لإدانة “الانتهاكات الصارخة” للحرس الثوري لحقوق الإنسان.
– التضييق على أذرع إيران العسكرية خارج حدودها وأهمها حزب الله اللبناني، وقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في الـ10 من الشهر الحاليّ، مكافأة مالية تصل إلى 12 مليون دولارٍ لمن يساعد في اعتقال اثنين من أبرز قيادات الحزب، داعيةً دول العالم إلى “الانضمام إليها في معاقبة ومنع نشاطات الحزب”، وفي مؤتمر صحفي لمسؤول بالوزارة، قالت الخارجية الأمريكية إنها رصدت نشاطًا متواصلًا لصالح حزب الله اللبناني في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن رغم ذلك ليس من السهل، لا على الرئيس ترامب أو الكونغرس، اتخاذ قرار بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي عقدته مجموعة (5+1) مع إيران للأسباب التالية:
– سيؤدي إلغاء الاتفاق إلى حدوث توترات شديدة في مسار العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وطهران من جهة وبين واشنطن وشركائها في الاتفاق من جهة أخرى، حيث يعتبر إلغاء الاتفاق إخلالاً بمصداقية الدول الكبرى والأمم المتحدة ومجلس الأمن بعد أن أصبحت الاتفاقية مع إيران جزءًا من وثائق المنظمة الدولية.
– إذا تم إلغاء الاتفاق سيهدد ذلك المصالح الاقتصادية الكبرى (المتعلقة بالنفط والغاز وصفقات السلاح والصفقات التجارية) لروسيا والصين حال موافقة كليهما على أي محاولة أمريكية لإلغاء الاتفاق أو تعديله، لا سيما إذا قررت إيران الرد على ذلك بصورة تضر بحلفاء أمريكا وشركائها.
– من المحتمل أن يقود إلغاء الاتفاق إلى مواجهة شخصية بين الرئيس ترامب والرأي العام الأمريكي الذي يفضل أغلبه عدم تورط أمريكا عسكريًا في الخارج.
يمكن أن يتسبب هذا القرار في فتح جبهة أكثر اشتعالًا مع كوريا الشمالية التي يحاول العالم كبح تهديداتها النووية، فضلًا عن التأثيرات المُحتملة لقرار ترامب على علاقات الولايات المتحدة سواء بالدول التي وقعت معها على الاتفاق، أو مع حلفاء واشنطن الذين قد يتضرروا أكثر منها إذا ما قررت كوريا الشمالية تصعيد التوتر مع واشنطن خاصة كوريا الجنوبية واليابان.