لا نريد أن نسمي الفشل باسمه، لكنه فشل ثقيل الوطء ولا مهرب لكل حصيف من النظر إلى الحقيقة الفاجعة في عينيها، لقد فشلت تجربة الديمقراطية القائمة على الانتخابات حتى الآن، لذلك نجزم بعدم جدواها بالشروط الحالية.
إذا توقف المرء عند العنوان، فإنه سيجد في باطنه دعوة للعنف، لكن إذا تطوع لقراءته فسيجد أن القصد الذي نرمي إليه هو التأكيد على أن البلد في حاجة إلى تغيير فكري وسلوكي يسبق الانتخابات الحقيقية ويؤسس لحياة سياسية متطورة ينتج عنها تغيير عميق وعلى مدى بعيد.
هذه القناعة صحت لدينا بعد تجربة عشرية الحريات التونسية، حيث جرى تنظيم دورات انتخابية برلمانية وبلدية تميزت بالكثير من الشفافية، لكنها رغم ذلك لم تنتج التغيير المرجو شعبيًا ونخبويًا. أين الخلل الذي نراه سببًا في الفشل والذي إذا تم علاجه تبدأ الديمقراطية؟
الثورة العجول
غني عن القول إن الثورة (التي صار الكثير يخجل من اسمها) قد فاجأت النخب السياسية وأربكتها، فسارت إلى الانتخابات بما تيسر، فكانت النتائج غير متوافقة مع طموحات الكثيرين للحكم، وكانت الردة عن النتائج منذ إعلان النتائج وقبل تشكيل أول حكومة للثورة، والجهد الذي صرف لتجاوز النتيجة بغير وسائل الصندوق كان أكثر من جهد الاستثمار في الصندوق الانتخابي، وكانت النهاية انقلابًا على كل المسار.
من هنا نمسك رأس خيط التحليل، لم تكن النخب قد نضجت فكريًا لتقبل نتيجة الصندوق، ولم يكشف الصندوق الانتخابي الشفاف والأول في تاريخ تونس عن الفائز بل كشف بالخصوص القوى التي لا يمكنها أبدًا أن تنال بالصندوق بغيتها، وهذه القوى هي التي خربت الصندوق وكل ما قد يبنى عليه مستقبلًا. وقال قائلهم في مواضع كثيرة: الديمقراطية التي تأتي بالإسلاميين لا يمكن قبولها أو السير فيها، وبالتالي فإن كل وسائل إسقاطها مشروعة بل ضرورية لقطع الطريق على الإسلاميين.
والنتيجة لقد تم قطع الطريق فعلًا، لكن ليس على الإسلاميين فحسب بل على الديمقراطية ومستقبل البلد. ونحن نعيش وسط الطريق المقطوعة لقد صار التقدم فيها مستحيلًا إلا بشرط أوضح من شمس الصيف. الديمقراطية تمر حتمًا بالتعايش مع الإسلاميين وما لم يقبل الجميع هذا الشرط فإن الصندوق منتهي ولن تفتح الطريق إلى استئناف.
أين ذهب حديث الديمقراطيين قبل الثورة؟ لقد ذاب بكل بساطة وفضحته التجربة، لم يكن هناك ديمقراطيون بل طلاب سلطة عرفوا أن حديث الديمقراطية يزعج الديكتاتور فرفعوه، فلما أتيحت لهم فرصة حقيقية وإن بغير جهدهم بل بثورة عوام الناس من خارجهم انكشف زيف الخطاب بممارسة غير ديمقراطية لا تختلف في شيء عن سياسة الديكتاتور.
جردة الحساب الضرورية
في تونس هذه الأيام حيث يهيمن حديث الانتخابات الرئاسية، يمسك الجميع على حزب النهضة الإسلامي كراسات طويلة من الأخطاء، حتى إننا لو جمعنا كل ما في الكراسات لوجدنا جرائم جديرة بأحكام إعدام، وكل أصحاب هذه الكراسات مطمئنون إلى سلامة خطابهم الذي ينجيهم من النقد الذاتي، فالخطأ ليس من طبعهم ولا من تفكيرهم، وليس لهذا من اسم إلا الهروب من استحقاق التغيير الذي يبدأ بمراجعات شاملة.
لا أحد في تونس يشير إلى دور النقابة التي خربت مسار الانتقال الديمقراطي، ولا أحد يشير إلى الحزيبات التي حكمت دون أن يكون لها وزن انتخابي مثل الحزب الشيوعي، لا أحد نبه إلى أن الإعلام عمل على ترذيل العملية الديمقراطية وصور ما بعد الثورة كحالة خراب قاتمة لا يمكن إصلاحها إلا بطرد الإسلاميين وهو ما حصل فعلًا.
عملية النقد والمحاسبة حتى الآن مغشوشة وكيدية، لأنها تنطلق من نفس الموقع الاستئصالي. إفراد طرف سياسي وحيد وتحميله باطلًا كل صعوبات المرحلة الانتقالية وتبرئة بقية الفاعلين الأنقياء الأتقياء، فلا وجود لميزان موضوعي يمكن اعتماده، لكن توجد لحظة شجاعة سياسية يمكن لكل فاعل فيها أن يتحدث عن موضع تقصيره وعن أخطائه، لا نرى هذه اللحظة قادمة بل نرى الإمعان في تجريم طرف دون البقية.
حتى هذه اللحظة يمكن للحياة أن تستمر في تونس كما تيسر (وكما سارت دائمًا بلا ديمقراطية)، لكن أن نفكر في بناء مستقبل سياسي ديمقراطي منطلقين من نفس الموقع فإن هذا يفقدنا الأمل في الديمقراطية ويجعلنا نجزم بأنها لن تكون وسيلة للتغيير.
إما توبة جماعية وإما الخراب
لدينا كراستنا في نقد الإسلاميين، لكن ليس فيها خيانة الديمقراطية ولا تدمير الإعلام وسجن الصحفيين والعبث بمؤسسات الدولة، وفي كراستنا لا نجد أثرًا لسرقة الإسلاميين للمال العام ولا أخونة المؤسسات ولا التسفير لبؤر التوتر ولا تنظيم الاغتيالات السياسية، طبعا هذه كلها أمور نسبت إلى الإسلاميين وبت فيها القضاء ببراءة لا شك فيها.
لكن منتقدي النهضة لم يبدلوا كراساتهم، ولا نراهم يفعلون، لأن تبرئة النهضة تفقدهم وجودهم، إذ تنتفي أسباب الإقصاء فتكون العودة إلى الصندوق (ولو بعد حين) وبالًا عليهم لأن ليس لهم قاعدة انتخابية، تلك الكراسات الظالمة هي تغطية على فقر الفكر وخوف القلب أمام الصندوق الانتخابي.
لم يمنع الإسلاميون أحدًا من بناء حزب أو تجميع جمهور، لكن هؤلاء الفقراء لم يفعلوا لأنهم لم يملكوا فكرة تغري الجمهور فيتبعهم، إننا نراهم منذ زمن بعيد أشخاصًا (أفرادًا) متمركزين حول ذواتهم يظنون بها الكمال ويتهمون الآخرين بالجهل والتخلف والرجعية.
هذه الذوات المنفوخة لا تخجل الآن من خطب ود الإسلاميين (الذين تجمعت فيهم عيوب الأرض)، فيسيرون إليهم زحفًا على بطونهم من أجل استعمال قاعدتهم الانتخابية في صندوقهم، وفي صورة الرفض فإن التهم جاهزة (تخريب الديمقراطية)، إنهم يقولون باختصار مثير للشفقة (الإسلاميون سيئون قبل أن يصوتوا لنا ويوم الانتخاب هم ملائكة ثم يعودون سيئين بعد أن يمنحونا المواقع ويبقون خارجها بالقوة).
هذا العقل لا يبني الديمقراطية ولا يعطي أي حرمة للصندوق الانتخابي، إننا نراه عقلًا إجراميًا ونرى أن منحه تقديرًا باسم التعايش هو تقدير خاطئ بل هو خطيئة وهذه من أخطاء الإسلاميين التي نضعها في رأس كراس خطاياهم، هل سينجز الإسلاميون الديمقراطية وحدهم؟ ليس مطلوبًا منهم أن يفعلوا، لكن مطلوب أن يتوقفوا عن تزكية الجريمة باسم التعايش.
نعم نعتبر أن تساهل الإسلاميين مع هؤلاء الخصوم/ الأعداء هو عمل مدمر للديمقراطية، وكل تساهل معهم يعني استدامة وضع الاستئصال الذي يعانيه الإسلاميون أولًا ثم يرتد تخريبًا على الحياة السياسية برمتها، لقد تساهل الإسلاميون كثيرًا في حق أنفسهم، لكن إثمهم تجاوزهم إلى البلد ونحن من ضحاياه.
ونختصر أن أي مشاركة في عملية انتخاب دون استتابة الاستئصاليين هي مواصلة غش الديمقراطية، فكيف تكون هذه الاستتابة؟ إن تركهم في فراغ فكرهم وسوء طويتهم هو عقاب كافٍ حتى إعلانهم التوبة. يوجد صندوق انتخابي بعيد في المستقبل وجب انتظاره بعدم تزكية أعداء الديمقراطية الذين يقطعون طريقهم بمتعة وتشف.