إنها سنة السينما المستقلة في أمريكا ولا شك! فمنذ نجاح فيلم الرعب “اخرج” Get Out تواتر الحديث عن عناوين كثيرة مثل “وقت جميل” Good Time، و”ختم المكتبة” Ex Libris، لكن استأثر فيلم دايفد لوري David Lowery بحلقات الجدال واختلاف المواقف الحاد بين من يعتبره أيقونة هذا العام ومن يراه مقلبًا سخيفًا.
ويشهد هذا الجدل على الاهتمام المتزايد بالسينما المستقلة، وبالتعبيرة التجريبية وتجاوز المألوف، وكأن المشاهد الأمريكي قد ضجر من اعتماد سينما الأستوديوهات على سينما النوع Genre التي تضمن حدًا أدنى من “المتوقع”، وصار يطلب نوعًا من المفاجأة، وهو ولا شك ملاقيها في “قصة شبح” A Ghost story.
لا يملك لوري الكثير من الأفلام الروائية الطويلة في محفظته الخاصة، فقد اهتم أكثر بالأفلام القصيرة وله منها عناوين محترمة مثل Pioneer الذي اشتهر به وحصد بفضله جوائز عديدة سنة 2011، ومع ذلك، فهي ليست المرة الأولى التي يتعامل فيها مع الثنائي كايسي آفلك Casey Affleck وروني مارا Rooney Mara، فقد أديا معه في فيلم “أليس لهما جسما قديسين؟” Ain’t them bodies Saints، الذي حقق نجاحًا لا بأس به.
قصة شبح A Ghost Story هو فيلم روائي من بطولة هذا الثنائي تقريبًا، أي إذا ما اكتفينا باعتبار المنزل الذي يسكنان فيه فضاءً مكانيًا فحسب، فهو في الحقيقة محور هذا العمل ومنطلقه، نلمس ذلك منذ البداية، حين يعبر الزوجان عن موقفين متناقضين تجاهه، فالزوجة تصر على مغادرته، والزوج يبدي تعلقًا بالمكان لا تفهمه هي، ويستمر الجدال هادئًا حينًا وعصبيًا حينًا آخر حتى يذعن أخيرًا، أين الشبح هنا؟
لا شك أن هذا الفيلم يتحدى نظرية النوع، ويتغلغل عبر خواص الأصناف السينمائية منتقيًا من أي منها ما يعجبه
لا يتأخر الشبح في الظهور، إن هي إلا ليلة بعد موافقته، حتى يتعرض الزوج إلى حادث قاتل يقلب مجرى الأحداث، وبشكل طريف يتصنع الواقعية، يخرج الشبح من الجسد المغطى بالملاءة البيضاء، فيتشكل عفويًا في صورته الكلاسيكية التي عرفها الأدب الشعبي منذ القرن التاسع عشر، ويخرج بحثًا عما كان منذ ساعات حياته.
لمن لم يشاهد الفيلم بعد، لا أنصحه بمعرفة تفاصيل أكثر، فكما ذكرت، هو عمل تجريبيٌ طريف، ليس كمثله شيء تقريبًا، وهو بذلك يتحدى “المتوقع” الذي يخبر عنه عنوانه.
قصة شبح، تعني في العادة الخوف، تعني الأشياء التي تحدث ليلاً، تعني الموت وما بعد الموت، تعني الأصوات التي لا نعرف مصدرها، والمصابيح التي تضيء لوحدها، والكؤوس التي تتحطم فجأة، والأطفال الذين يشعرون بما لا يشعر به الآخرون، هل تجاوز الفيلم كل هذه التفاصيل أم استحضرها؟ لا أحب أن أجزم بأي شيء هنا، سوى أن الفيلم في النهاية كان وفيًا لعنوانه، وأن مشاهدته تجربة مختلفة سواء أعجبتك أم أحبطتك، أما لمن شاهدوه بالفعل، فيمكنكم متابعة القراءة.
لا شك أن هذا الفيلم يتحدى نظرية النوع ويتغلغل عبر خواص الأصناف السينمائية منتقيًا من أي منها ما يعجبه، فهو على كل حال فيلمٌ عن الأشباح، فيه ما فيه من تلك التفاصيل التي ذكرتها، ولم يخل من زوجين يستيقظان على صوت البيانو الذي لم يلمسه أحد، ومن الأطفال الذين يخيل إليهم أن أحدهم في غرفتهم، ومن العائلة التي تعيش ليلة مرعبة في حضرة الكؤوس والصحون المتطايرة، لكنه رعبٌ لا يدخل المشاهد في نطاقه، وإنما يعيشه رفقة الشبح، من الضفة الأخرى للأحداث، فإذا بكل هذا الجنون يتعقلن ويبرر ويغدو سلسلة من الانفعالات الطبيعية التي تشي لا بشبح من العالم الآخر، بل بإنسان مفرط في إنسانيته، وإذا بالفيلم كأنه سيرةٌ أو دراما واقعيةٌ حزينةٌ.
والحزن سمة قصة شبح الأولى، يتجلى منذ بدايته في عيني الزوج كما تصوره الممثل كايسي آفلك، ولا شك أن اقتران وجهه بالحزن يرجع إلى ما قبل هذا الفيلم، خصوصًا عندما فاز بالأوسكار عن فيلم مانشستر البحرية Manchester by the Sea، غير أنه هنا يواجه تحديًا فريدًا، فظهوره لم يتجاوز الدقائق الأولى، قبل أن تحجبه الملاءة البيضاء تمامًا، ويتحول إلى شبح بلا ملامح، وكان عليه آنذاك أن يلعب دوره من دون ملامح الوجه ومن دون الكلام الذي يكاد يغيب عن الفيلم.
قد يبدو غريبًا أن يتسم فيلمٌ عن الأشباح بالواقعية، ولكن تلك قيمة العمل التجريبي
لذلك يبرز مستوى تعبيري آخر، برع في استخدامه آفلك وهو الحركة، فبدا من خلال أبسطها شبحًا هشًا، تائهًا، عاجزًا كما لم نعرف شبحًا قط، وهو مع ذلك لم يتخل عن دوره الكلاسيكي، فأصدر تلك الأصوات المبهمة وهشم الأشياء وأضاء المصابيح، إلخ، وكلها أتت في سياقات دراميٍة محكمة تبررها، وتجعلها طبيعية جدًا، فإذا هي عوارض انفعالات نفسية عادية، تبدر عن الغيرة أو الغضب أو الحيرة، وليست افتعالاً بغرض الإخافة كما ألفنا رؤيته في أفلام الأشباح.
ويتسع الحزن فينتقل إلى روني Rooney بهدوء وانسياب مستفزين، نتابع بعيني الشبح زوجها السابق، رحلة صراعها مع الشجن، إذ يبلغ ذروته في مشهد بسيط هادئ يحرق الأعصاب، تنهمك فيه الزوجة في البكاء الصامت والتهام فطيرة التوت الكبيرة حتى الغثيان، وهو مشهد بقدر ما تغيب فيه الدراما، تحضر فيه واقعية، لا شك أنها سمة الفيلم الثانية.
قد يبدو غريبًا أن يتسم فيلمٌ عن الأشباح بالواقعية، ولكن تلك قيمة العمل التجريبي، إذ يمزج لك روائح متباينة ليصنع منها عطرًا جديدًا، وعطر الواقعية السحرية ليس جديدًا في حقيقة الأمر، لكن له نفسًا جديدًا هنا، ذلك أن الجانب “السحري” أو “العجائبي” في الفيلم لا ينقض الجانب الواقعي ولا يقوضه، فالرواية من وجهة نظر الزوجة، عاديةٌ بسيطة، يموت فيها زوجها، وتقيم الحداد عليه طويلاً، قبل أن يقضي الزمن قضاءه وتنتقل المرأة إلى صفحة جديدة من حياتها، وتغادر المنزل.
أما تلك الأصوات الغريبة، وتلك الأحداث التي شهدتها العائلة المكسيكية بسبب الشبح، فلا تختلف عن الأحداث التي نقرأ عنها كثيرًا في الصحف في شيء، ولها تفسيرات كثيرة لا تتجاوز العلم أو نواميس الطبيعة، لذلك، فنحن بحاجة إلى الانتقال إلى ما وراء الموت، لنرى السحري في هذه الواقعية.
لقد حاول لوري اختراق حاجز الموت، ليصف لنا بقمرته ما وراءه، فكان “قصة شبح” أشبه بفيلم واقعي عن الغيب أو عن كينونة ميتافيزيقية، وساهم هذا الأسلوب لا في إقناعنا بواقعية الأحداث، وإنما في التأمل فيما وراء الواقعية.
إن لوري يقاسمنا عبر قصة الشبح، قلقه الوجودي العميق إزاء غياب المعنى في حياته، منطلقًا من اختلاف زوجي بسيط عن قيمة الذكريات التي تحفظها جدران المنزل، يجد لوري نفسه في دوامة عدمية، تجرد فنه وتركته للأجيال اللاحقة من كل قيمة، فالكون كما يقول على لسان إحدى شخصياته العابرة، زائل كليًا، ولا يمكن أن يبقى من وجوده مثقال ذرة من أثر، فما الداعي للمواصلة؟
إن “قصة شبح”، لا يقدم إجابة حقيقية وواضحة عن معنى الحياة، أو كيف يواجه المرء عدميتها، وهي في هذا المستوى تكتفي بأن تكون انعكاسًا لحيرة صاحبها الوجودية وتخبطه
يحاول لوري أن يجيب عن السؤال، بهذه الإضافة السحرية، أي باقتفاء أثر الشبح الذي اجتاز حاجز الموت، وعاد ليتطلع إلى العالم من منظور مستقل عن المادة.
لقد غادرته زوجته مثلما غادرها، وتركت له ورقة غامضة في أحد شقوق المنزل مثلما ترك لها موسيقاه الحزينة، ربما يومًا ما تضمحل الموسيقى ولا يبقى لها من أثر، بعد جيلين أو ثلاثة مثلاً، أما هو فلا يستطيع أن يضمحل طالما لم يجد تركتها، طالما لم يعرف كلماتها الأخيرة إليه.
إن الشبح مجبول على الانتظار، كما أبدت ذلك جارته المنتظرة، فظهورها في القصة لا غرض منه سوى تبيين هذه القاعدة البسيطة، إذ اضمحلت بمجرد أن تيقنت أن من تنتظره لن يأتي، إن الأحياء أقل شقاءً ـ عند لوري ـ من الأشباح لأنهم يعيشون على الوهم المخادع، لأن لهم القدرة أن يكتبوا ورقة ما، ويتركوها في شق جدار على أمل كاذب أن تقرأ، أمل لا يحتمل إجابة جازمة، أما الشبح فهو يعيش في عالم الحقيقة، حيث الإجابة تخترق المكان والزمان، وحيث لا مجال للتوهم.
يفسر الكثير عودة الشبح في الزمن إلى ما قبل الحادثة، بسقوطه من أعلى البناية، ربما بسرعة سمحت له بالعودة الزمنية إلى الخلف، أما أنا فأعتقد في أمر أكثر بساطة وألمًا، ففي خطاب الشخصية العابرة عن الكون والوجود، تم التطرق إلى فكرة نهاية الكون ثم عودته إلى حالته الأولى، وفي ذلك إشارة إلى فكرة نيتشه عن العود الأبدي، وتكرر قصة الحياة كما هي إلى ما لا نهاية.
ولأن الشبح كائن غير مادي بالأساس، فهو لا يخضع لعملية التكرار، لذلك ظل هناك إلى ما بعد نهاية الزمان، وبعد أن تكونت الأكوان من جديد، وحكت الأرض حكايتها حتى لحظة كتابة الورقة مرة أخرى، وهي فكرةٌ تفسر إلى حد ما، وجود ذات الشبح مرتين في فضاء زمكاني واحد.
إن قصة شبح لا تقدم إجابة حقيقية وواضحة عن معنى الحياة، أو كيف يواجه المرء عدميتها، وهي في هذا المستوى تكتفي بأن تكون انعكاسًا لحيرة صاحبها الوجودية وتخبطه، لكنها تبقى عملية تجريبية شجاعة، وتعبيرةً عامرة بالانفعالات الإنسانية، وهو برأيي كل ما يرغب المرء في إدراكه.