منذ اللحظة الأولى لعملية الكرامة كانت الأمارات واضحة على أنها مشروع استحواذ على السلطة من بوابة العسكر، وليس هذا بمستغرب من حفتر السبعيني الذي يدرك جيدا أن حظوظه في السلطة عن طريق صندوق الانتخاب ضيئلة جدا، وقد ملأه أملا نجاح انقلاب مصر الذي سيكون فيما بعد رافده الخارجي الرئيس.
لا أريد أن أطيل على القارئ العزيز بذكر تراجيديا هذه العملية الكارثة فهي قريبة عهد منه، ولكن لابد لنا من وقفات قبل أن نصل إلى فصلها الأخير الذي يعنينا، فقد بدأت هذا العملية بمشهد أشبه بمشهد الكوميديا السوداء، عسكريٌّ هرم يعلن تعطيل الحياة السياسية وتجميد الشرعية الدستورية على شاشة قناة من خارج حدود الوطن، هذه البداية المرتبكة لم تفتّ في طموح السبعيني، وبعدها بحوالي ثلاثة أشهر أعلن انطلاق عملية أسماها الكرامة مستغلاً فيها تردي الوضع الأمني في مدينة بنغازي واحتقان الشارع السياسي نتيجة الأداء الكارثي للمؤتمر الوطني وحكومته.
فرفعت العملية شعار محاربة الإرهاب واستقطبت كل إقصائي متجلبب بعباءة المدنية ولا يرى لغير أيدلوجيته حق الممارسة السياسية –وكلهم آنذاك مستأنس بالتجربة المصرية-، لم تكن هذه العملية حرباً على الإرهاب بقدر ما كانت حرباً على كل مظاهر المدنية التي تساقطت تباعاً في فصول الكرامة الأليمة، دخلت مدينة بنغازي في احتراب وصراع داخلي أيقظ خلايا التطرف النائمة وتسبب في موجة نزوح واسعة، وعطل عمل أغلب المؤسسات ودمر كثيراً من المباني والمعالم، وأطلق النعرة القبلية المقيتة لتعمل مُديتها في نسيج المجتمع وتترك فيه شروخا وجروحا غائرة يصعب اندمالها.
نجحت الكرامة في القضاء على كل معارض لها متطرف أو غيره، بل قضت على كل مظاهر المدنية وصار حذاء العسكر يعلو كل الرؤوس
طال أمد الكرامة وامتد ظلها القاتم ليخفي معالم المدنية في أغلب مدن الشرق، فعينت الحكام العسكريين، وجمدت المجالس البلدية المنتخبة وعينت بدلا عنها عسكريين يسيرون شؤون البلديات، ووجدت العملية في تيار السلفية المدخلية خطاباً دينياً يبرر، وفتوى بحسب الأمر العسكري تصدر، فمكّن له وأطلق يده في المؤسسة الدينية فاعتلى المنابر واستأثر بالفتوى، وشكّل قوة عسكرية تبطش بكل مخالف إما تصفية جسدية أو إخفاء قسرياً.
ووجدت الكرامة في القبيلة حاضنتها وبيئتها الملائمة لتثبت وتستمر فقدمتها ومكنتها فارتفعت أصوات القبائل بالمبايعة والتأييد لتقضي على أي مظهر من مظاهر المدنية الحقة، فتراجع بذلك التيار المدني الذي أيد الكرامة ابتداءً بعد أن أصبح صوته همساً خافتاً في ضوضاء نعرة القبيلة وخطاب المداخلة المتعصب للاستبداد والمسوَغ له.
وبذلك نجحت الكرامة في القضاء على كل معارض لها متطرف أو غيره، بل قضت على كل مظاهر المدنية وصار حذاء العسكر يعلو كل الرؤوس حتى ولو كان في أرجل المجرمين والقتلة وأصحاب السوابق، فامتلأت حوايات القمامة بالجثث مجهولة الهوية وكثر الخطف والإخفاء القسري والنهب والسرقة، ولازالت مدينة درنه محاصرة وأهلها محتجزين في سجن كبير حتى يذعنوا لمجرمي الكرامة.
كل هذه الفصول الدامية لم تفضِ بحفتر السبعيني إلى السلطة، ولقد مثل إنجاز اتفاق الصخيرات –على عيوبه وما فيه من خلل- العائق الأكبر أمامه؛ وذلك بسبب ما حظي به هذا الاتفاق من إجماع دولي على اعتباره الإطار السياسي الوحيد للخروج من الأزمة، فلم يملك حفتر إلغاؤه أو تجاوزه بسبب الضغط الدولي الذي قد يتعرض له، وإن استطاع تعطيل تنفيذه وتفعيله من خلال أداته السياسية المتمثلة في مجلس النواب، وحفتر يدرك جيداً أن الطريق إلى السلطة تستلزم تجاوز الاتفاق السياسي ولا سبيل لذلك في نظره إلا بانقضاء مدة الاتفاق المحددة بسنتين والتي تنتهي في 17/12/2017، ومن هنا يبدأ الفصل الأخير في مشروع المشير.
يستوجب تمسك كل الأطراف بالاتفاق السياسي والمسار الأممي إطاراً وحيدا للحوار وحل الأزمة
بدأت معالم هذا الفصل في الظهور منذ أن صرح المتحدث الرسمي لعملية الكرامة في يونيو الماضي بإمهال السياسيين ستة أشهر لحل الأزمة قبل أن يتدخل جيش الكرامة، ثم انطلقت بعدها حملة التفويض للمشير ليتولى زمام الأمور في مشهد ساذج ومبتذل، يحاول إنتاج دكتاتورية هزلية مستميتة على السلطة راضيةً أن تنال نصفها ولو انشطر الوطن، وقد زادت في الآونة الأخيرة وتيرة خطابات المبايعة والتفويض مع ما صاحبها من إزالة للافتات المراكز الانتخابية في بنغازي وبعض مدن الشرق ونحن في انتظار ما قد يصدر من حفتر بعد 17 ديسمبر.
وعلى افتراض مغامرة حفتر بقبوله التفويض –نتيجة إفلاسه سياسيا- فإن هذا الأمر لن يحقق له حلمه في الوصول إلى السلطة بل قد تسبب له عزلة سياسية تخرجه من نهائيا، ومع ذلك فإن هذه الخطوة ستزيد من أمد الأزمة وتوسع الهوة بين الشرق والغرب، مما يزيد من أعباء التيار المدني المنسحب بصمت من معسكر الكرامة والذي بدأ في إحياء واجهته السياسية من جديد، ويؤكد مسؤوليته في إخراج المنطقة الشرقية من عباءة العسكر بعد أن روج لها وجعلها خطا أحمر غير قابل للنقاش، كما يفرض على المجتمع الدولي اتخاذ موقف صارم وحاسم من هذه المليشيا المجرمة وقائدها، يستوجب أيضا تمسك كل الأطراف بالاتفاق السياسي والمسار الأممي إطاراً وحيدا للحوار وحل الأزمة وأن التنازل عنه يمثل بداية فصل جديد من الفوضى قد يصعب الخروج منها.
المصدر: ليبيا الخبر