يراقب العالم مدينة القدس بتوجس ملموس وبمشاعر الاستياء والغضب التي عكست وجودها في الشوارع والمدن الفلسطينية والعربية وحتى الغربية، بعدما اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، ضاربة بالقانون الدولي والحقائق التاريخية والاعتراضات العالمية والتحذيرات عرض الحائط.
وعلى مر سنين الاحتلال، توالت المحاولات الإسرائيلية لدعم سيادتها على القدس والتي بدأت بتهويد البلدة القديمة في القدس بشتى الطرق، وغيرت الكثير من ملامح هذه البلدة سواء بما يخص تكوينها الاجتماعي أو ثقلها الاقتصادي والسياسي، وهذا ابتداءً من تغيير أسماء الشوارع والأزقة ونهاية بخطتها لتوسيع حدود القدس لتصبح 600 كيلومتر مربع، وهذا ما سيجعل مساحة البلدة أقل من 0.15% من المساحة الكلية.
البلدة القديمة.. قلب القدس
قسمت القدس إلى 3 مناطق، البلدة القديمة التي تقع داخل السور العثماني الذي بناه السلطان سليمان القانوني خلال فترة حكمه للمدينة ما بين 1520 و1566 على أنقاض السور الروماني، وإلى المناطق الغربية والشرقية الواقعة خارج هذا السور التي تم فصلهما بعد النكبة ومن ثم ضُمت مجددًا بعد النكسة عام 1967.
تمثل البلدة القديمة مركز مدينة القدس، فهي تضم أبرز المقدسات الإسلامية والمسيحية مثل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتتميز ببناياتها والحارات والشوارع المتلاصقة المرصوفة بالحجارة والمسقوفة بعقود تربط المباني على جانبيها على شكل أقواس أو قباب، كما تحتوي على مجموعة من الأسواق الشعبية المهمة مثل القطانين والعطارين والدباغة وخان زيت والخواجات وخان السلطان، وغيرها.
أضافت اليونسكو مدينة القدس القديمة وأسوراها على قائمة التراث العالمي بناء على طلب الأردن، وفي عام 1982 أدرجت على قائمة التراث المهدد
جدير بالذكر، أن اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) أضافت مدينة القدس القديمة وأسوراها على قائمة التراث العالمي بناءً على طلب الأردن، وفي عام 1982 أدرجت على قائمة التراث المهدد، وبهذا الصدد نددت المنظمة بمحاولات التهويد وطالبت “إسرائيل” بعدم المساس بمعالم هذه البلدة.
أحياء البلدة القديمة
الحي الأرمني: أصغر أحياء البلدة القديمة ويمثل تقريبًا نحو 17% من مساحة المدينة، و80% من مساحة الحي عبارة عن دير، سمي بهذا الاسم نسبة إلى الأرمن الذين أتوا من تركيا للقدس بناء على طلب السلطان سليمان الذي أراد تغيير معالم قبة الصخرة فأحضر مهندسيين أرمنيين من مدينة كوتاهيا التركية.
كان من بين المهندسيين داهود أوهانسيان الذي جاء إلى القدس لدراسة القبة وتجهيز المعدات اللازمة في ترميمها ولكن لم يتمكن من العودة إلى بلاده بعد عامين من إقامته في القدس فقرر البقاء بها واستكمال حياته ومهنته في المدينة، من أهم أبنيته كاتدرائية الأرمن والمعروفة بقلعة القدس والمشهورة بمآذنها وأبراجها، يسكنه 4450 شخصًا، فيه بؤرتان استيطانيتان و17 معلمًا دينيًا.
الحي الإسلامي: أكبر أحياء القدس القديمة، ويوجد فيه أكبر كثافة سكانية في العالم، فيه 22 ألف نسمة تقريبًا ويوجد بداخله حرم القدس الشريف وبه 10 بؤر استيطانية.
الحي المسيحي: تمركز المسيحيون بشكل خاص في هذا الحي، حيث بلغ عددهم قديمًا نحو 6 آلاف نسمة، وفي الوقت الحاليّ قل عددهم إلى نحو 4 آلاف نسمة بسبب المضايقات المستمرة التي تعرضوا لها في ظل الاحتلال.
الحي اليهودي أو حارة شرف: أحدث أحياء البلدة القديمة، بُني فوق 5 حارات مقدسية، ويقع بالقرب من حارة المغاربة التي كانت تملكها عائلة عربية تدعى “شرف”، وفي فترة الانتداب البريطاني استأجر اليهود مساحات واسعة من الحارة وتملكوا نحو 4% منها، ولسوء الحظ هدمت هذه الحارة خلال النكبة وخرج أهالها منها.
بقيت 20 عائلة عربية فقط تعيش في هذا الحي، إلى جانب 70 محلًا تجاريًا لهم، وطردت آخر عائلة عربية من الحي عام 1980 وهي عائلة “أيوب التوتنجي”
عام النكسة، ادعت “إسرائيل” امتلاكها لهذه الحارة بعد أن طردت 3 آلاف من سكانها الفلسطينيين وحولوا اسمها إلى حارة اليهود وتوسعوا من الناحية الجنوبية على حساب حارة الأرمن والنصارى.
ففي مطلع عام 1975 بقيت 20 عائلة عربية فقط تعيش في هذا الحي، إلى جانب 70 محلًا تجاريًا لهم، وطردت آخر عائلة عربية من الحي عام 1980 وهي عائلة “أيوب التوتنجي”، وبهذا يكون الاحتلال شكل بؤره الاستيطانية الأساسية داخل هذا الحي من خلال طرد سكانه الفلسطينيين الأصليين وسلب أراضيهم لدعم سيادته بشكل كامل.
حارة المغاربة: تقع بجوار حائط البراق، وخلال عام النكسة احتلت دولة الاحتلال الجزء الشرقي من مدينة القدس وفي نهاية الحرب دمرت “إسرائيل” هذه الحارة بجميع أزقتها وآثارها التي شملت 138 بناية، من بينها جامع البراق وجامع المغاربة ومدرسة الأفضلية والزاوية الفخرية ومقام الشيخ، لتقيم مكانها ساحة لاستقبال آلاف اليهود.
سميت بهذا الاسم نسبة إلى المغاربة الذين عبروا عن اهتمامهم بالقدس وبالتجوال في هذه المدينة والصلاة في معابدها منذ القرن الثامن للهجرة، وبعد سقوط الأندلس ازدادت أعداد الهجرة إلى هذه البلدة التي سميت باسمهم.
هذا ويتعرض ساكنو هذه البلدة لأشكال مختلفة من الضغط ومحاولات التهجير وهو ما أدى إلى تناقص أعداد السكان في البلدة ونموهم بشكل بطيء، وهذا بحسب الإحصائات التي ترصد الكثافة السكانية في البلدة القديمة والتي بلغت 36.6% فردًا في الدونم وذلك في نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة.
كيف جرى تقسيم وتسمية أحياء البلدة القديمة؟
وفقًا لأستاذ التاريخ الإسلامي نظمي الجعبة “سميت الأحياء – في العصور الوسطى – بناءً على الحرف يمارسها سكان هذه المناطق، كما سميت بمسميات طبوغرافية بحسب موقعها في المدينة أو مسميات دينية وأصول عرقية أو دينية، لكنها لم تكن على مر التاريخ مقسمة بالشكل المقسمة عليه اليوم، فهذا النوع من التسميات ليس متعارف عليها بثقافة أهالي المدينة”، ونوه الجعبة أن التقسيم الأوروبي في بداية القرن التاسع عشر أخذ بعين الاعتبار المركز الديني لكل طائفة وعلى هذا الأساس تم تقسيم هذه الأحياء بهذا الشكل الموجود حاليًّا.
وأضاف لم يكن هناك تقسيمات بين أهالي السكان بتاتًا، فلم يكن هناك أماكن محددة لليهود أو للمسلمين أو المسيحيين، فمظاهر الاختلاط والتعايش بين الديانات المختلفة كانت تصل إلى داخل البيوت الفلسطينية.
القيود المفروضة على البلدة القديمة
محاولات أسرلة الوجه الفلسطيني للبلدة القديمة
بدأت بلدية الاحتلال الإسرائيلي بتغيير أسماء بعض الحواري والأزقة في البلدة القديمة واستبدالها بأسماء جديدة، فهي خطة مدروسة من الاحتلال لتزوير التاريخ الفلسطيني ومسح معالمه وتراثه ولغته وثقافته، لإضفاء الشرعية على وجوده في فلسطين ونفي الرواية الفلسطينية وتوثيق الرواية الإسرائيلية في التاريخ.
غياب المخططات العمرانية
هذه إحدى المشاكل التي يواجهها سكان أهالي البلدة القديمة الذين يعانون من قدم المباني داخلها وعدم إمكانية بناء أو تجديد المساكن، إضافة إلى الاكتظاظ السكاني الهائل وتكاليف البناء الباهظة جدًا التي تعيق بالتالي من تطورها العمراني.
مع بناء جدار الفصل العنصري عام 2004 انقطع تدفق الناس والبضائع بسهولة – يعتبرون رأسمال هذه البلدة – إلى هذه الأسواق مما قلل من حجم القوة الشرائية
مصادرة الأراضي والاستيلاء على ممتلكات أهالي المدينة القديمة
خلال السبع السنوات الأخيرة تم تسريب نحو 60 منزلاً للمستوطنين، مما أدى إلى ارتفاع عددهم 60%، وفي نهاية عام 2016، وصل عدد المستوطنين الساكنين في منازل الفلسطينيين إلى 5 آلاف مستوطن من أصل 220 ألفًا في جميع أنحاء المدينة المحتلة.
تضييق على التجار والأسواق الشعبية
اعتادت أسواق المدينة الانتعاش المرهون بزوار أحيائها ومحلاتها التجارية من جميع أنحاء المدن الفلسطينية – الضفة الغربية وأراضي 48 المحتلة – ولكن مع بناء جدار الفصل العنصري عام 2004 انقطع تدفق الناس والبضائع بسهولة – يعتبرون رأسمال هذه البلدة – إلى هذه الأسواق مما قلل من حجم القوة الشرائية.
فهذا الجدار يعتبر حاجزًا سياسيًا أمام 120 ألف مقدسي أي ثلث سكان القدس، هذا إلى جانب منافسة السوق الإسرائيلية التي تحظى باهتمام حكومي ودعم الشركات العالمية التي تأمن لها التسهيلات وتقلص من هامش الخسارة لديها.
بنى تحتية متهالكة
وعدت حكومة الاحتلال الإسرائيلي المحكمة العليا بالالتزام بتخصيص ميزانيات لمتابعة شؤون الأحياء الواقعة داخل السور عام 2005 عندما أرادت بناء جدار الفصل العنصري، لكنها لم تف بهذا الوعد، فنسبة ما تقاضته البلدة القديمة عام 2015 لم يتجاوز الـ0.001% من ميزانية البلدية، هذه القيود والمضايقات كانت كفيلة بخلق أزمة حقيقة داخل البلدة، مما دفع البعض للبحث عن بديل خارج السور لفقر الإمكانات وفرص التطوير الموجودة.
وختامًا، وفي ظل غياب دور السلطة الفلسطينية عن هذه الخطط والخطوات التي تهدف إلى زعزعة النمو الفلسطيني داخل أرضه، لا يمكن إنكار نجاح سياسات “إسرائيل” في إثارة صعوبات يومية تجعل الفلسطيني يعيش في شقاء لا مفر منه.