تُعد مرحلة المراهقة من أكثر المراحل صعوبةً وحرجًا في حياة الفرد، بل وربما أكثرها، نظرًا لما يحدث فيها من آثار بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية تستمرّ مع الفرد في مراحل حياته اللاحقة، ولذلك يجد الآباء صعوبة كبيرة في التعامل مع أبنائهم المراهقين، بل وربما لا يدركون مدى تلك الصعوبة لإهمالهم تلك المرحلة والتعامل معها بحدية مطلقة دون مراعاة أساليب التهذيب والتربية الصحية التي بدورها تساعد في خلق ذاتٍ سليمة نفسيًا عند المراهق.
تُعرّف مرحلة المراهقة بأنها المرحلة التي تبدأ معها التغيرات البيولوجية والجسدية و الهرمونية لسن البلوغ وتنتهي في العمر الذي يصبح فيه الشخص مستقرًّا و له دور مستقلّ في المجتمع
يجب أنْ نتفق أولًا أنّ الغرض من أساليب التربية والتهذيب في مرحلة المراهقة ليس إدارة حياة المراهق أو التحكم به وبتصرفاته أفكاره، وإنما على الوالدين أن يعيا أنّ الهدف من ذلك كله هو خلق القدرة عنده لإدارة حياته باستقلالية وتحمل مسؤولية أفعاله وتصرفاته من خلال توجيهه إلى الطرق السليمة في ذلك.
تتميز تلك الفترة التي تبدأ ما بين العامين التاسع إلى الثالث عشر من عمر الفرد، بانخفاض درجة الاعتماد الآمن للمراهق على والديه وإنما يبدأ بالبحث عن صورة لذاته وتعزيزها من خلال اعتماده على ذاته هو، بالإضافة لتشكّل وعيٍ جديد فيما يتعلق بأنه هو المسؤول عن كلّ ما يقوم به، بعكس الطفولة التي يميل فيها الفرد للتسليم التام للوالدين والاعتماد عليهما.
وبالنسبة لكثيرين من الباحثين، فتُعرّف مرحلة المراهقة بأنها المرحلة التي تبدأ معها التغيرات البيولوجية والجسدية و الهرمونية لسن البلوغ وتنتهي في العمر الذي يصبح فيه الشخص مستقرًّا و له دور مستقلّ في المجتمع، حتى وإنْ لم تتفق مع النصف الثاني للتعريف أو تراه صائبًا، فقد يستمرّ ذلك لفترة طويلة من الزمن.
يشكو الكثير من الآباء والأمهات والمعلمين بأنه من المستحيل تقريبًا الموافقة كليًا على ما يقولونه، وحتى محاولة جذب انتباههم والحصول على تركيزهم فيما يتعلق بما يريده الآباء سواء من خلال التحفيزات أو إصدار التحذيرات وتطبيق أساليب العقاب فإنها غالبًا ما تنتهي بالفشل. والأمر يرجع لأسباب كثيرة بكلّ تأكيد منها شعور المراهق المتنامي باستقلاليته وبدء تكون هوية جديدة لذاته أو ربما بسبب الضغط الاجتماعي من أصدقائه وأقرانه من حوله.
إلا أنه يغيب عن بال الكثير من الآباء أنّ التغيرات التي تحدث في حياة ابنهم المراهق ليست مجرد فكرية أو نفسية أو اجتماعية، وإنما تعود كلها إلى تغيرات بيولوجية كبيرة، يساعد فهمها ومعرفتها في فهم نفسية المراهق وبالتالي تحديد كيفية التعامل معه أو رسم ملامح واضحة لأساليب تهذيبه وتربيته.
التغيرات التي تحدث في الفص الجبهي من الدماغ تلعب دورًا ضخمًا وكبيرًا في طريقة تفكير المراهق وسلوكياته
ماذا يحدث في دماغ المراهق؟
يخضع الدماغ لتغيرات كثيرة إذن، وإحدى أهم مناطقه أو أجزائه التي تتغير بشكلٍ كبيرٍ جدًا خلال تلك المرحلة تسمّى قشرة الفصّ الجبهي “thalamus“، والمسؤولة عن العمليات المعرفية عالية المستوى والتي يتميّز بها الإنسان عن غيره من الحيوانات؛ كاتخاذ القرار والتخطيط، وحل المشكلات وقياس الأفعال والتمييز بين الصحيح والخاطئ منها والتفكير في عواقبها، بالإضافة للتفاعل الاجتماعي و فهم الآخرين، وتشكيل الوعي الذاتي. كما يرتبط هذا الجزء بالعواطف والدوافع.
وبالتالي ليس من الصعب إذن استنتاج أنّ الوتيرة الكبيرة من التغيرات التي تحدث في ذلك الجزء من الدماغ تلعب دورًا ضخمًا في طريقة تفكيره وسلوكياته، إذ يبدو في بعض الأحيان ناضجًا أو يحاول أن يبدو كذلك، وفي لحظات أخرى لا يستطيع إلا أن يكون عاطفيًا متسرعًا أو غير منطقي ومتهوّر. بالنهاية، فالدماغ يخضع لمرحلة من التغيير وإعادة الهيكلة ولا عجب من كلّ تلك التقلبات التي يمرّ بها المراهق.
ولفهم التغير الدماغي وكيفية تأثيرها على سلوك وتفكير المراهقين بشكلٍ أكبر، يحتوي الفص الجبهي على مادة رمادية “Grey matter“، التي يزداد حجمها بازدياد عمر الطفل وتصل ذروتها مع بدء مرحلة المراهقة، وجدير بالذكر أنها تحدث –غالبًا- عند الذكور بعد عامين من الإناث، وبالتالي قد يكون هذا السبب أحد الاحتمالات في بلوغ الفتيات بشكلٍ أسرع من الذكور، أو قبلهم لنقل.
مع بدء مرحلة المراهقة وتقدمها، يحدث تراجع مهم في حجم المادة الرمادية ونموّ في حجم المادة البيضاء المسؤولة عن إرسال الإشارات للخلايا العصبية الأخرى. كيف نفهم التقلبات في سلوك المراهقين إذن؟
يُعتبر التغير في حجوم المادتين الرمادية والبيضاء عملية تطويرية مهمة جدًا، إذ تحوي المادة الرمادية على العديد من الخلايا والوصلات العصبية، وحين يتراجع حجمها تُرسَل إشارات للدماغ لاستبعاد أي خلايا أو وصلات عصبية غير مرغوب فيها وتقوية تلك التي تُستخدم بشكلٍ أكثر من غيرها، العملية التي تعتمد أساسًا على المحيط والبيئة التي يتواجد فيها المراهق.
عقل المراهق غير الناضج لا يستطيع الموازنة بين العمل والجهد من جهة والمكافأة والعقاب من جهة أخرى
ولا حاجة لك لتكون عالم أعصاب أو نفس لتعرف أن المراهقة تشهد زيادة كبيرة بالاندفاع والمخاطرة وعدم التفكير في عواقب الأفعال، نظرًا للتغيرات الهائلة في الدماغ، لذلك دعنا نربط ذلك الاندفاع وعدم القدرة على موازنة الأمور الناتجة أساسًا عن التغيرات البيولوجية والسيكولوجية، بعدم جدوى –إلى حدٍ ما- أساليب التربية والتهذيب التي يتبعها الآباء والمعلّمون في تعاملهم مع المراهقين، خاصة أساليب المكافآت والعقاب.
العديد من الدراسات أشارت إلى أنّ الدماغ الناضج يستطيع الموازنة اللازمة بين العمل أو الجهد من جهة والمكافأة والعقاب من جهة أخرى، ويقوم ذلك من خلال استخدام الروابط بين أنظمة التحكم الإدراكي والمعرفي الموجودة أساسًا في قشرة الفص الجبهي التي تحدثنا عنها. ويشير علماء النفس لهذه العملية على أنها القدرة على ضبط الأداء المعرفي والإدراكي بناءً على البيئة المحيطة وما تتطلبه أو تلزمه.
فهم الوالدين والمعلمين للتغيرات البيولوجية في الدماغ وأساسها ونتائجها قد يكون حجر الأساس لطريقة تعاملهم مع أبنائهم المراهقين
وبما أنّنا أشرنا إلى أنّ ذلك الجزء من الدماغ يخضع لإعادة الهيكلة والعديد من التغيرات في مرحلة المراهقة، فمن السهل التكهن بأنّ التوازن غير الدقيق بين الأفعال وعواقبها أو بين الجهد والمكافأة أو العقاب المتعلق به يرجع لعجز ذلك الجزء عن القيام بذلك، وليس لرغبة المراهقين “الإرادية” بذلك.
فهم الوالدين والمعلمين لكلّ تلك التغيرات وأساسها ونتائجها قد يكون حجر الأساس لطريقة تعاملهم مع أبنائهم المراهقين وتحديد أساليب التربية والتهذيب وأنواع العقابات والمكافآت التي تتطلبها المواقف المختلفة في سني تلك المرحلة الحرجة من عمر الفرد.
يتعلم الأطفال في مرحلة الطفولة والمراهقة من التجربة، لذلك فوجود عواقب منطقية لسوء تصرفاتهم يساعدهم على تعلم أنهم مسؤولون عن أعمالهم، دون الإضرار باحترام الذات وتقدير النفس لديهم. وبالتالي فمن المهم للوالدين أن ينظرا للتربية على أنها تعليم للانضباط وليست فقط أساليب عقاب أو تحذير أو سيطرة، كما من المهم أن يتفق كل من الأب والأم على كيفية التعامل مع أبنائهم المراهقين ووضع قواعد الانضباط والتهذيب، الأمر ذاته بالنسبة للتعامل مع الأطفال أيضًا.
ما يجب الاتفاق عليه أنه وبالرغم من صعوبة المرحلة وحرجها، إلا أنّ الوالدين يستطيعان التحكم بها إيجابيًا من خلال توجيه أبنائهم المراهقين ومراقبتهم ومحاولة رسم قدوة حسنة لهم في حياتهم، لذلك فعلاقتك مع طفلك المراهق هي التي تحدد كلّ شيء، فأن تنشئ معه علاقة دافئة قائمة على الود والتحاور والنقاش واحترام ذاته وتحميله مسؤولية أعماله يعني أنْ تحاول الخروج من تلك المرحلة بأقل السلبيات الممكنة.