أقرأ من جديد كتاب مؤرخ الإسلام الأمريكي البارز ريتشار بوليت: ‘نبلاء نيسابور’. كان صاحب ‘الجمل والعجلة’ قد نشر كتابه هذا في 1972، وبالرغم من اطلاعي على فصول سابقة منه من قبل، إلا أنني وجدت من الضرورة العودة إليه بصورة أوفى، بعد أن استطعت أخيراً الحصول على نسختي الخاصة. في أصله، تطور ‘نبلاء نيسابور’ من رسالة للدكتوراه، وضعها بوليت تحت إشراف مؤرخ الإسلام الكبير الآخر جورج مقدسي، الذي ساهم مساهمة بارزة في تغيير رؤيتنا لتاريخ المدارس والعقائد والفقهاء والمذاهب، سيما المذهب الحنبلي. ويعتبر ‘نبلاء نيسابور’ واحداً من الأعمال المبكرة للتاريخ الاجتماعي لمدن الإسلام الكبرى، وأكثرها تأثيراً حتى الآن، بالرغم من مرور كل هذا الوقت على نشره. يدرس بوليت مجتمع نيسابور في حقبة النضج الاجتماعي الإسلامي المبكرة، القرن الرابع إلى السادس الهجري، موفراً صورة بالغة التفاصيل للأسر المؤثرة، لمجتمع العلماء، المدرسين والمدارس والقضاة وانتشار المذاهب الفقهية، التجارة والعمل، إضافة إلى جغرافية المكان وتحولاته السياسية.
ليس هذا، بالطبع، موقع استعراض هذا العمل الكلاسيكي الهام. المهم، أن نيسابور، التي كانت تقع على الطريق الواصل من بغداد إلى خراسان وبلاد ما بين النهرين، اتسمت ببعدها النسبي عن المركز العباسي آنذاك، فوق أن السيطرة العباسية المركزية أخذت في التراجع منذ النصف الثاني للقرن الثالث الهجري. وبالرغم من تعاقب الأسر الحاكمة، ذات الاستقلال الملموس عن المركز في بغداد، من الطاهريين، السامانيين، الغزنويين، وصولاً إلى السلاجقة، فقد حافظت المدينة على نظام داخلي مستقر وفعال. لا يمكن استبعاد دور الاستقرار السياسي في أية منظومة اجتماعية – سياسية، ولكن أهمية وتأثير السياسي في الاجتماع الإسلامي السياسي التقليدي أقل بصورة كبيرة من أهميته في الدولة الحديثة. استند النظام التقليدي إلى مؤسسات اجتماعية، مستقلة ومتداخلة في آن، نظمت نفسها بمعزل عن التدخل المباشر للدولة. لم يكن للدولة أن تقرر نظام الحرف المختلفة ولا نظام روابط التجار، ولا العلاقة بين الطرفين. وما إن نضجت مؤسسة العلماء في نهاية القرن الثالث وبداية الرابع الهجري، حتى تولى العلماء مهمة تحديد القيم الناظمة للحرف والتجار، والمصادر الضرورية لأحكام القضاة، الذين انحدروا هم أيضاً من طبقة العلماء؛ وباعتبارهم مفتين ووعاظاً ومدرسين، حدد العلماء القيم الناظمة لمجتمع المدينة ككل، وعملوا على المواءمة المستمرة بين الشرعي والمحلي الموروث. في معظم الحقبات، لم يكن لمتغيرات الأنظمة السياسية من تأثير كبير ومباشر على حياة الناس، ولا على قدرة الاجتماع السياسي التقليدي على الاستمرار، طالما أن دور الدولة في حياة الناس ظل محدوداً وقدرتها على تشكيل هذه الحياة ظلت هامشية.
وبالرغم من أن منظومة الاجتماع السياسي الإسلامي حافظت على ملامحها الرئيسة حتى منتصف القرن التاسع عشر، فقد تمتعت بقدر ملموس من الدينامية والاستجابة لمتغيرات الموقع وبنية التجارة الإقليمية والعالمية، بل ومتغيرات السياسة أيضاً. وهذان إلى جانب الحروب والغزوات، ما حدد مصائر المدن عبر التاريخ الإسلامي الطويل. ولكن هذه الاستمرارية واجهت تحديات هائلة في العصر الحديث، عندما بدأ نظام الدولة الحديثة يحل محل منظومة الاجتماع السياسي التقليدي، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، بإرادة واختيار رجال الدولة المسلمين التحديثيين، أو بقوة الإدارة الاستعمارية؛ وعندما بدأت الفئات الحديثة والمتخصصة في الحلول محل طبقة العلماء. كما في مختلف أنحاء العالم، أخذ العرب في التعرف على نظام الدولة الحديثة، الدولة المركزية، ذات السيطرة المباشرة على الأرض والسكان، التي تحتكر حق التشريع والتقنين، وصاحبة الدور الرئيسي في قرار الاقتصاد والتعليم والأمن والنقل والثقافة. تعرف العرب على الدولة الحديثة في المشرق العربي باعتبارهم جزءاً من النظام العثماني التحديثي، أو لأن السلطة الحاكمة في بلادهم، التي تمتعت بقدر كبير من الحكم الذاتي، اختارت استعارة النموذج المركزي، كما في مصر وتونس، أو لأنهم تعرضوا مبكراً للسيطرة الأجنبية، كما هو حال الجزائر. ولكن رؤية المجتمع العربي للدولة الجديدة ظلت ملتبسة إلى حد كبير، إلى أن أخذت الدول العربية في الاستقلال. عندها، بدأت الدولة تكتسب قدراً ملحوظاً من القبول والشرعية.
ليس من الممكن القول بأن أياً من الدول العربية، سواء تلك التي ولدت مستقلة اصلاً، مثل اليمن والسعودية، أو التي استقلت مبكراً مثل العراق ومصر، أو استقلت بعد ذلك، مثل معظم الدول العربية الأخرى، كانت ديمقراطية أو تمثل شعبها بقدر مرض، ولا حتى في ظل ما يعرف أحياناً بالليبرالية العربية خلال حقبة ما بين الحربين من القرن العشرين. القبول والشرعية تحققا بفعل عوامل وقوى أخرى، وليس بالضرورة من التمثيل الحقيقي للشعب وإرادة أغلبيته. تحققا، أحياناً، بفعل ديمومة الأمر الواقع، الذي كان قدر رفض في البداية بفعل ثقل وطأة الدولة الجديدة وغرابتها؛ وتحققا، في أحيان أخرى، بفعل اعتقاد أغلبية الشعب أن دولته تجسد الاستقلال الوطني وانتصار النضال ضد السيطرة الأجنبية؛ وتحققا في حالات ثالثة وقليلة لأن الدولة ادعت شرعية حراسة الدين والحفاظ على قيمه. وحتى نهاية الستينات من القرن العشرين، لم تشهد الدول العربية ثورات شعبية أو انتفاضات استهدفت وجود الدولة ذاتها. عرفت دول المجال العربي انتقالات من نظام حكم إلى آخر، بفعل الانقلابات العسكرية في بعض الدول، أو انتفاضات شعبية قصيرة ومحدودة في دول أخرى. ولكن كيان الدولة نفسه لم يكن محل جدل أو في موقع الاستهداف، ولا حتى من دعاة الوحدة العربية الشاملة، الذين حاولوا المواءمة بين وجود الدولة وحلم الوحدة. وفي المقابل، لم تمارس الدولة قدراً شمولياً من القمع، كذلك الذي مارسته دول مثل الاتحاد السوفييتي وألبانيا والصين وكوريا، أو بعد ذلك إندونيسيا وكمبوديا وتشيلي والأرجنيتن. مارست الدولة درجات متفاوتة من القمع، بلا شك، ولكنها لم تتعهد مجازر جماعية، ولا اختطاف وقتل وإخفاء الآلاف، كما دول القمع والسيطرة الشمولية. لأن وجود الدولة لم يكن مهدداً، لم تكن الدولة العربية مضطرة لانتهاج سياسات القمع والسيطرة واسعة النطاق.
بيد أن نهاية الستينات لابد أن تعتبر منعطفاً هاماً في تاريخ الدولة العربية القصير والمضطرب. كانت المسألة الفلسطينية قد أصبحت واحدة من أبرز معايير الشرعية للدولة والنظام العربي الإقليمي؛ وفي 1967، تعرضت الدولة العربية والنظام العربي الإقليمي لهزيمة مؤلمة في الحرب مع الدولة العبرية.
خلال العقود القليلة التالية، لم يستمر إخفاق الدولة في الحفاظ على الحقوق العربية، ولكنها ذهبت إلى توقيع اتفاقيات سلام مع الدولة العبرية وتبادل السفراء معها. في الوقت نفسه، كانت قدرة الدولة العربية على تلبية حاجات التنمية، وأحياناً الحاجات الضرورية للإنسان العربي، تنحدر بصورة مضطردة؛ بينما أخذت الطبقة القابضة على القرار السياسي والمقدرات الاقتصادية في البلاد تضيق وتصغر، في الوقت الذي كانت دول شبيهة من العالم الثالث تحقق معجزات اقتصادية فعلية، كما كوريا وماليزيا. شهد العالم منذ نهاية الثمانينات موجة ديمقراطية واسعة النطاق، وتوجهاً حثيثاً لبناء أنظمة إقليمية متعاونة ومتضامنة، على الأقل على المستوى الاقتصادي، وتطوراً فلكياً وغير مسبوق في وسائل الاتصال وانتقال المعرفة والمعلومات. وفي المقابل، كان فشل الدولة العربية في تطوير منظومة تضامنية متعاونة، بالرغم من وجود الجامعة العربية منذ 1945؛ والفشل في تحقيق تقدم ولو صغير على صعيد التمثيل الشعبي والتعبير عن إرادته، بالرغم من أن المشرق العربي الإسلامي عرف الانتخابات منذ 1876، يصبحان أكثر تفاقماً من منظار رؤية الشعب لنفسه وللعالم، الرؤية التي تعززت بفعل التقدم في وسائل الاتصال.
كل الدول الحديثة تمارس قدراً من القهر لشعوبها؛ ولكن، عندما تتمتع دولة ما بقدر كاف من الشرعية، تصبح أقل ميلاً لاستخدام وسائل القهر، التي تمثلها في نظام الدولة مؤسسات الأمن والاستخبارات والبوليس والقضاء والجيش. ولأن الخطاب، خطاب الدولة، هو أحد أهم وسائل تعزيز الشرعية، تلجأ الدولة عادة للخطاب من أجل حراسة هذه الشرعية وإعادة توليدها. في المقابل، ما أن تستشعر الدولة تآكل شرعيتها، وتصاعد التحدي الشعبي لوجودها، تتراجع أهمية الخطاب والتسويغ الناعم وتبادر الدولة إلى نشر وسائل القمع والسيطرة القهرية. منذ ما بعد هزيمة 1967، سيما منذ ثمانينات القرن الماضي، أخذ المجال العربي يشهد درجات متصاعدة من المقع الدموي وواسع النطاق، القمع الذي لم تتردد الدولة العربية في استخدامه للحفاظ على وجود لم يعد له من شرعية كافية، ومواجهة معارضات سياسية أو غضب شعبي ظاهر وملموس. ولعل سوريا والعراق والجزائر كانت أبرز محطات القمع القهري المتوحش خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
ما يشهده المجال العربي منذ ثلاث سنوات، ليس استمراراً لهذا النهج وحسب، بل وتفاقماً غير مسبوق في مستواه واتساع نطاقه. بلاد بأكملها تدمر، آلاف من المواطنين يقتلون في شوارع المدن وميادينها، قضاء فاسد أو ضق الأفق يستخدم بصورة روتينية لقمع وإخراس المعارضين من النساء والرجال، أجهزة أمنية بدائية الثقافة والسلوك، تقتل بلا حساب في السجون والمعتقلات، وجيوش تقصف مدن بلادها وقراها وكأنها تقصف عدواً جهنمياً من كوكب آخر.
هذه دولة تعرف معرفة يقينية أنها لا تتمتع بأدنى قدر من الشرعية؛ وتدرك أن وجودها واستمرارها غير ممكنين، بدون قهر وإخضاع شعبها. ولكن الشعب لم يعد قابلاً للقهر. ولذا، فإن المرجح تصاعد مستويات عنف الدولة، وليس تراجعه. كان بروز الدولة الحديثة في المشرق العربي الإسلامي لحظة نقمة على الشعوب وحياتها؛ أما وصول هذه الدولة إلى نهاية سيرتها فهي لحظة تاريخية بالغة العنف والوحشية. ولكن الدولة ستدفع إلى هذه النهاية، على أية حال.