شهد العام الماضي 2016 صدور الفيلم “ستيفان زفايج، وداعا لأوروبا” للمخرجة الألمانية ماريا شريدر، وهو العمل الذي يتناول سينمائيًا السنوات الستة الأخيرة في حياة الكاتب النمساوي الكبير الذي قضاهم في المنفى بعيدًا عن وطنه الأصلي النمسا، وذلك بعد وصول أدولف هتلر والحزب النازي إلى حكم ألمانيا عام 1933.
كان زفايج من ضمن العديد من الكتاب والمثقفين والفنانين الألمان مثل أينشتاين وتوماس مان وفريتز لانج الذين اضطروا إلى مغادرة بلدهم تحت ضغط الإرهاب الفاشي الذي كبت حرية الفكر وأقام المحارق علانية للكتب في شوارع وساحات ألمانيا.
ليجد زفايج نفسه شريدًا بلا وطن يتنقل بين العديد من البلدان (بريطانيا ثم أمريكا)، حتى استقر المقام به أخيرًا في البرازيل التي كتب فيها روايته القصيرة “لاعب الشطرنج” ثم سيرته الذاتية “عالم الأمس” التي كانت أشبه بمرثية لقارته العجوز أوروبا التي نفي عنها وكانت تبدو وكأنها تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة في ظل أهوال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).
كان ستيفان زفايج واحدًا من الكتّاب الأكثر شهرة في جيله، ومن أكثر الكتاب المقروءين باللغة الألمانية إلى جانب توماس مان وترجمت رواياته ودراساته إلى العديد من اللغات الأخرى، من أشهر رواياته “رسالة من امرأة مجهولة” و”حذار من الشفقة” و”فوضى المشاعر” و”أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة”، إلى جانب كتبه ودراساته عن أيرازموس وماري أنطوانيت ودوستويفسكي وتولستوي والعديد من الشخصيات التاريخية والأدبية الأخرى.
وتحت قناعته أن الحضارة الأوروبية التي ولد فيها على وشك الموت تحت ضربات هتلر وموسوليني، حكم بأن هذه الحضارة قد أفلست وحياته هو أيضا قد أفلست، كل شيء إذًا زائف، فلم يبق إلا أن يقتل نفسه، فانتحر في فبراير من العام 1942 مع زوجته الشابة لوته في منزله الريفي بالبرازيل، بتناولهما معًا جرعات كبيرة من الحبوب المنومة، فكان انتحاره هو آخر مأساة يؤلفها.
كتب زفايج في سيرته : “ما أرويه في واقع الأمر ليس مجرد قدري الخاص بل قدر جيل كامل، جيل قد هزت أعماق وجوده وثوابته انفجارات بركانية متواصلة في أرضنا الأوروبية، إنني كنمساوي ويهودي وكاتب ومؤمن بالحركة الإنسانية ونصير للسلام، قد وقفت على الدوام في المواضع التي ضربتها أعنف تلك الزلازل، لقد دمروا منزلي ووجودي ثلاث مرات، وفصلوني عن الماضي وكل ما كان، ثم قذفوا بي بغتة إلى الفراغ.
فصلت حقًا عن كل جذوري وعن التربة التي تغذيها، كما لم يفصل أحد في الماضي إلا نادرًا، أرغمت على مغادرة بلدي مثل مجرم، وأما عملي الأدبي باللغة التي كتبته بها، فقد أحرق في البلاد ذاتها التي جعلت كتبي ملايين القراء أصدقاءً لي، وهكذا فأنا لا أنتمي إلى أي بلاد، فحيثما حللت فأنا غريب أو ضيف في أحسن الأحوال، فأوروبا التي اختارها قلبي موطنًا قد أقدمت على الانتحار حين انقسمت مرة أخرى إلى جبهتين يحارب فيهما الأخ أخاه، وشهدت رغمًا عني أفظع هزيمة للعقل وأشرس انتصار للوحشية في كل العصور”.
يصور الفيلم حياة زفايج بعد خروجه من أوروبا، في أحد مشاهد الفيلم المبكرة وفي أثناء انعقاد مؤتمر للكتاب في الأرجنتين ولقاء زفايج بالصحفيين يصر زفايج على عدم إصدار أي تعليق أو حكم عمما يجري في ألمانيا قائلًا: “أن تكون مثقفًا معناها أن تقف في صف العدالة، لكني لا أستطيع أن أكتب بدافع من الكراهية فقط، وبغرض الهجوم على جماعة ما”، وهو يؤمن بأن أوروبا ستكون في المستقبل بلا حواجز أو جوازات سفر، لكنه لن يعيش ليشهد هذه الأيام سواء هو أو جيله لسوء الحظ.
ثم نشهد زفايج وهو يتجول في حقول قصب السكر بالبرازيل، ويتحدث مع المزارعين ويجمع الملاحظات ويدونها في دفتره لإعداد كتاب عن البرازيل، وتدمع عيناه عندما تؤدي فرقة عزف برازيلية أمامه لحنًا موسيقيًا نمساويًا يذكره ببلده، ويستمع إلى مزارع يخبره بمثل شعبي برازيلي “إنسان بلا وطن هو إنسان بلا مستقبل”.
يرصد الفيلم حالة التشرد وعدم الاستقرار من منفى إلى منفى التي تقض مضاجع زفايج وأسرته ومعارفه، لكن زفايج بتجسيد الممثل النمساوي “جوزيف هادر” نراه متماسكًا لا يبدي حزنه، يواصل عمله ككاتب ويرصد مظاهر الحياة والجمال في أرض البرازيل البكر ليسجلها في كتاب.
يقترب الفيلم من التناول التسجيلي ولا يحاول أبدًا أن ينقل مأساة زفايج بأسلوب ميلودرامي فاجع، خاصة في المشهد الأخير الذي ينقل للمشاهدين خبر انتحار زفايج مع زوجته شارلوت، عمليًا نحن لا نرى مشهد الانتحار، وحيث تبتعد الكاميرا أيضا عن أى عرض مباشر لجثة زفايج وزوجته، نحن لا نسمع سوى صوت زفايج الهادئ، وهو يلقي على مسامعنا برسالته الأخيرة التي يشكر فيها بكل دماثة البرازيل البلد التي أوته.
ويرى أن هذا التزامًا أخيرًا عليه أن يفي به قبل أن يغادر الحياة وفي نهاية رسالته يقول: “الذي ناهز الستين من العمر مثلي يحتاج إلى طاقات غير اعتيادية كي يبدأ بداية جديدة بحق، وما لدي من طاقات استنزفتها أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختتم حياتي في الوقت المناسب، وأنا منتصب القامة، حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الصافي، والحرية الشخصية النقية، والخير الأسمى على الأرض، تحياتي إلى كل أصدقائي، عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل، وها أنا ذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تمامًا”.
فيلم “ستيفان زفايج، وداعًا لأوروبا” يستحق المشاهدة، لأن ما عاناه زفايج في زمنه يذكرنا بما نعانيه نحن في زمننا العربي الحاليّ وقد أصبحت كلمات الحرب والمنفى والنزوح هي الكلمات التي تتصدر المشهد.
رشح الممثل النمساوي جوزيف هادر عن تجسيده لشخصية الأديب ستيفان زفايج إلى جائزة أحسن ممثل في مهرجان الفيلم الأوروبي الذي وزعت جوائزه قبل أيام.
بوستر الفيلم
تريلر الفيلم