ضغوط أمريكية قاسية.. هل تنجح الجنائية الدولية في اختبار “الاستقلالية”؟

حالة من الترقب الممزوج بالقلق تخيّم على حكومة الاحتلال الإسرائيلية، جراء ما يثار حول عزم المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، ورئيس أركان جيشه هرتسي هاليفي، على خلفية ارتكاب جيش الاحتلال جرائم حرب في قطاع غزة.

كشفت وسائل إعلام عبرية وأمريكية عن اتصالات مكثفة أجراها نتنياهو بحلفائه الغربيين، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال الساعات الماضية، للتدخل العاجل لإثناء المحكمة عن صدور تلك المذكرة، الذي يتخوف البعض من أن تكون قد صدرت بالفعل لكن في نطاق من السرية، فيما يستبعد آخرون ذلك، إذ إن الأمر ما زال قيد الدراسة والتحقيقات.

يمثل هذا التحرك الدولي خطوة إيجابية في مسار عزلة الكيان المحتل وملاحقته دوليًّا، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في الحياة فوق أرضه وتراب وطنه، هذا المسار الذي بدأ بالدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية قبل شهرين، ويواصل طريقه في ظل إصرار القوات المحتلة -المدعومة من أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا- على المضيّ قدمًا في جرائمها الوحشية وسط صمت دولي فاضح.

تواجه المحكمة الدولية اختبارًا قاسيًا في مادة “الاستقلالية”، في ظل ما تتعرض له من تحذيرات وتهديدات من قبل أعضاء في الكونغرس الأمريكي، ومطالبات بممارسة أقصى أنواع الضغط عليها لتنحّيها عن نظر تلك القضية، بحسب ما ذكره موقع “أكسيوس” في 29 أبريل/نيسان 2024.. فهل تنجح في الاختبار؟

اعتراض أمريكي ومطالب بالتدخل

عارضت الولايات المتحدة قيام المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق بشأن ممارسات “إسرائيل” في غزة، حيث جاء على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان-بيير خلال، الإحاطة الإعلامية لها الاثنين 29 أبريل/ نيسان 2024، أنه ليس من اختصاص المحكمة إصدار الأحكام بحقّ المسؤولين الإسرائيليين.

كما ذكرت تقارير إعلامية أن نتنياهو طلب من بايدن، بشكل شخصي خلال محادثة هاتفية يوم الأحد 28 من الشهر الجاري، مساعدته في منع إصدار المحكمة الدولية مذكرات توقيف بحقه وعدد من قادة جيشه، وأن تمارس أمريكا نفوذها لوقف هذا التحرك في أسرع وقت.

كما وصف رئيس مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، مذكرات الاعتقال التي تنتوي المحكمة إصدارها بحقّ مسؤولين إسرائيليين بأنها “مشينة وغير قانونية”، محذرًا في بيان له أنه “لو لم يتم مواجهة ذلك من جانب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تخلق وتدّعي امتلاكها سلطة غير مسبوقة متعلقة بإصدار مذكرات اعتقال بحقّ القادة السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين”، مطالبًا إدارة بايدن بالضغط لتنحّي المحكمة عن تلك القضية.

يخشى المسؤولون الإسرائيليون من أن تكون المحكمة قد أصدرت بالفعل مذكرات اعتقال “سرًّا” ضد عدد من قادتها، وأنهم قد يفاجَأون بذلك أثناء سفرهم لأي من الدول الـ 123 أعضاء المحكمة، وهو ما قد يوقعهم في فخّ التوقيف والاعتقال، الأمر الذي يستوجب التحرك الفوري لمنع هذا العمل “البغيض” بحسب وصف رئيس مجلس النواب الأمريكي.

يذكر أن أمريكا رفضت الانضمام إلى عضوية الجنائية الدولية، خشية أن تتعرض قواتها الخارجية في البلدان التي تعاني أزمات سياسية أو أمنية لمحاكمات من هذا النوع، وقد دخلت واشنطن في جدل مثير خلال ولاية بيل كلينتون من أجل الانضمام إلى هذا الكيان.

ورغم توقيع الرئيس الأمريكي وقتها على معاهدة الضمّ لكن الكونغرس لم يصادق عليها، ثم عارضت إدارة جورج بوش الابن الفكرة من الأساس خشية إضعاف ما أسمته “سيادة” الولايات المتحدة، التي لوحت بسحب قواتها من قوة الأمم المتحدة في البوسنة ما لم يتم منح جنودها حصانة من المحاكمة من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

وحاول مجلس الأمن الدولي مغازلة واشنطن وتخفيف مستوى القلق من ملاحقة قواتها في الخارج آنذاك، حين صوّت في 12 يوليو/ تموز 2002 على حل وسط يمنح القوات الأمريكية إعفاءً من الملاحقة القضائية لمدة 12 شهرًا، ويجدَّد سنويًّا، لكن المجلس -بضغط من الأمين العام للأمم المتحدة وقتها كوفي عنان- رفض تجديد هذا الإعفاء في يونيو/ حزيران 2004، بعد فضيحة اعتداء القوات الأمريكية على المعتقلين في السجون العراقية.

هل تستطيع المحكمة اتخاذ هذه الخطوة؟

ينقسم المتابعون حول قدرة المحكمة على إصدار مذكرة اعتقال بحقّ نتنياهو وقادة جيشه إلى قسمَين:

الأول: يرى صعوبة ذلك، وأن المحكمة سترضخ في النهاية لضغوط أمريكا وحلفاء الاحتلال، لا سيما أن هناك انحيازًا واضحًا من قبل رئيس الجنائية الدولية كريم خان لـ”إسرائيل”، وهو الذي جاء “مهرولًا للقاء أقارب الإسرائيليين الذين قُتلوا في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، مقابل لقاء خاطف مع الفلسطينيين”، كما ذهب الأكاديمي والخبير بالشؤون الإسرائيلية محمد هلسة.

ورغم أن المحكمة هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة من حيث التمويل والإدارة، وتتكون من 18 قاضيًا يُنتخبون لمدة 9 سنوات، هذا بجانب أنها تضمّ الكثير من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا ينفي حجم الضغوط الممارسة عليها، وسرطان الاستقطاب الذي يهيمن على جدرانها، مع العلم أن قوى كبرى مثل أمريكا والصين وروسيا ليست أعضاء بالمحكمة، لكن لها نفوذ واضح عبر وكلائها وحلفائها في الداخل.

الثاني: يميل إلى احتمالية صدور مذكرة الاعتقال، رغم الضغوط السياسية التي تتعرض لها المحكمة، ويرى أنصار هذا الرأي ومن بينهم الباحث والمحاضر بالقانون الدولي ضرغام سيف، أن أوامر الاعتقال السابقة التي أصدرتها المحكمة بحقّ رؤساء دول قد يقوّي موقفها، كذلك ستحاول الاستفادة من قرار محكمة العدل الدولية، خاصة أنها كيان حديث النشأة ويبحث عن تعزيز شرعيته الدولية من خلال ملاحقة الأفراد المتورطين في جرائم حرب.

ويتوقع المحاضر بالقانون الدولي أن تحاول محكمة الجنايات الدولية الهروب من فخ الانحياز والاستقطاب، وذلك عبر اللجوء إلى إصدار أوامر اعتقال بحقّ قيادات من حركة حماس، بجانب قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية.

وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن دبلوماسيين من الدول الصناعية السبع الكبرى حثّوا المسؤولين في المحكمة على عدم الإعلان عن اتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد “إسرائيل” أو مسؤولي حماس، وسط مخاوف من أن مثل هذه الخطوة قد تعرقل فرص تحقيق انفراجة في محادثات وقف إطلاق النار.

مراوغات الاحتلال المتوقعة

قد يحتاج التحقيق التفصيلي للمحكمة بشأن الاتهامات الموجّهة للاحتلال المزيد من الوقت، حسبما أشارت صحيفة “الغارديان”، فرغم أن الحقائق المتعلقة بعرقلة إدخال المساعدات الإنسانية لغزة من السهل التثبُّت منها، لكن هناك مسائل أخرى بحاجة إلى بعض الوقت مثل القصف العشوائي للمناطق المدنية، وإطلاق النار على أهداف عسكرية مع ما يترتب عن ذلك من عواقب مدنية غير متناسبة، خاصة أن الحكومة الإسرائيلية رفضت السماح لموظفي المحكمة بدخول غزة ومعاينة تلك الجرائم على أرض الواقع.

ومن ثم قد تتذرع حكومة الاحتلال ببعض المسائل لعرقلة إصدار مذكرة اعتقال بحق مسؤوليها، بحسب الصحيفة البريطانية، مثل الادّعاء بأن لديها نظامًا قانونيًّا متطورًا يمكّنها من محاكمة مجرمي الحرب التابعين لها، وهي الذريعة التي من الصعب أن تتقبّلها المحكمة، إذ إنه ليس هناك من سوابق للكيان المحتل بشأن هذا الأمر، فلم يُقدم قبل ذلك أي من كبار المسؤولين للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ولم يتم رفع أي قضية تتعلق باستراتيجية التجويع التي ينتهجها نتنياهو في غزة.

كذلك قد تتحجج تل أبيب بأنها لم تنضم إلى الجنائية الدولية، ومن ثم لا يجوز محاسبة الأخيرة لمسؤولين إسرائيليين، وهو المبرر الذي يفنّده نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة، إذ يمنحها الولاية القضائية ليس على مواطني الحكومات المنضمّة إليها فحسب، لكن على الجرائم التي ترتكب على أراضي أعضائها، وبحكم أن الدولة الفلسطينية عضوًا بالمحكمة منذ عام 2015، يحقّ للجنائية توجيه تهم وإصدار مذكرات بحقّ المعتدي الإسرائيلي.

وترى “الغارديان” أن أي محاولة من جانب الولايات المتحدة للتدخل في عمل المحكمة والضغط عليها لإثنائها عن قراراتها، قد يؤدي إلى وقوع العديد من الاحتجاجات في الداخل الأمريكي، ويعرّض فرص إعادة انتخاب جو بايدن للخطر.

ورغم الإيمان بأنه حتى لو صدر أمر اعتقال بحقّ نتنياهو ورفاقه، فإن الحكومة الإسرائيلية لن تسلّم أيًّا منهم، وسيقتصر الأمر على محدودية التنقل والسفر للخارج، خاصة للدول التي لا تربطها بـ”إسرائيل” علاقات وطيدة، وإن سيكون لتلك الخطوة تأثيرها حول عملية رفح المزعومة، إذ ستدفع نتنياهو للتفكير أكثر من مرة في ارتكاب المزيد من الجرائم وسقوط ضحايا مدنيين جدد، ما يزيد من وضعيته الحرجة داخل المحكمة وأمام كافة الأعضاء، بحسب الصحيفة.

ما علاقة واشنطن بهذا التحرك؟

بمنطق براغماتي بحت، لا يستبعد محللون أن تقف أمريكا وراء ملاحقة نتنياهو دوليًّا، والعمل لأجل إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقّ كبار القادة في جيش الاحتلال، وذلك في محاولة للضغط عليه والكفّ عن عناده والقبول بصفقة تبادل إلى جانب التفاهم حول اجتياح رفح جنوبي قطاع غزة، وفق ما ذهب الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، لقاء مكي.

ويرى الباحث العراقي، خلال حديثه لبرنامج “غزة.. ماذا بعد؟”، أن إدارة بايدن لم تنسَ لنتنياهو معارضته لها وتحديه للضغوط التي تمارسها لأجل تهدئة الأجواء، والتوصل إلى هدنة في غزة يمكن توظيفها لتعزيز حظوظ بايدن والديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، في ظل تصاعد الانتقادات الحادة لها بسبب دعمها اللامحدود لجيش الاحتلال في حرب الإبادة التي يشنّها ضد القطاع.

وأمام هذا الصلف لم تجد واشنطن -بحسب مكي- من سبيل سوى الضغط على نتنياهو عبر ورقة الجنائية الدولية للتوصل إلى حل سياسي في غزة، وهي الورقة التي قد تجبر رئيس الحكومة على المفاضلة بين الاستمرار في عناده وصلفه مع احتمالية صدور أمر باعتقاله وتعريض حريته للخطر، أو طلب حماية واشنطن له نظير الرضوخ للضغوط والإملاءات المفروضة عليه.

الأمر ينطوي كذلك على الضغط على حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف، وزيرَي الأمن القومي والمالية، بصفتهما المعرقلَين الأبرزَين لأي خطوة تهدئة تقود إلى اتفاق تبادل، ليجد رئيس الوزراء نفسه أمام معضلة سياسية جدلية: إما يحاكَم بالخارج أو تنهار حكومته ويحاكَم داخليًّا.

مع الوضع في الاعتبار أن الأمر لا يتعدى مجرد المناورة بتلك الورقة، دون تجاوز الخطوط الحمراء، إذ تمسك واشنطن بزمام الجنائية الدولية، ويمكنها تحريك القرارات كقطع الشطرنج المختلفة، فهي لا تريد سوى تطويع نتنياهو وتخليه عن عناده من أجل توظيف المشهد انتخابيًّا، هكذا قال الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، الذي يستدل على ذلك ببعض المؤشرات من بينها معاودة الحديث عن مفاوضات لإبرام صفقة تبادل، وحالة التفاؤل النسبي بشأن المبادرة المصرية المقدمة.

ما دلالة هذا التحرك؟

رغم أنه لم يصدر بيان رسمي من محكمة الجنايات الدولية حول مذكرة الاعتقال المزعومة بحق نتنياهو وغالانت وهاليفي، ورغم أن الأمر في مجمله ربما يكون شائعة لا وجود لها عمليًّا، وربما تحتاج إلى وقت طويل لاتخاذ قرار نهائي إزائها، إلا أن تسريب أخبار كهذه من شأنها أن تُزيد من عزلة الكيان المحتل دوليًّا، وتكشف عن وجهه الإجرامي بعد سنوات طويلة من عمليات التجميل والترقيع، التي حاول بها المحتل إخفاء عنصريته وفاشيته المتطرفة.

وبعيدًا عن محاولة نتنياهو تجاهل تلك الخطوة، حفاظًا على صورته أمام الشارع الإسرائيلي كونه القائد القوي الذي لا يخشى الملاحقات القضائية الدولية، لكن التوتر يخيم على أجوائه بصورة كبيرة بحسب ما نقلت صحف عبرية، بل وصل حدّ القلق والرعب من مثل تلك الخطوة، وإن كانت غير مؤكدة بعد، حيث أرسل وزير الخارجية الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، رسائل إلى سفارات الكيان المحتل في الخارج يطالبها بالاستعداد لأي رد فعل عنيف محتمل ضد “إسرائيل”، إذا ما اتخذت المحكمة مثل هذا الإجراء.

ولعلّ من مكرمات عملية “طوفان الأقصى” وصمود المقاومة بعدها طيلة الأشهر السبعة المنقضية، واستبسال الغزيين في الدفاع عن بيوتهم ومساكنهم في مواجهة مخططات التهجير القسري الإسرائيلية، أن مثل الكيان المحتل ولأول مرة في تاريخه المشوّه في قفص الاتهام الدولي، بصفته مجرم حرب ملاحقًا قضائيًا أمام المحاكم الدولية، تارة أمام محكمة العدل الدولية وأخرى أمام الجنايات.

تزامن ذلك مع تغير المزاج الشعبي العالمي الذي كان داعمًا لـ”إسرائيل” على مدار عقود طويلة، إثر استراتيجية “غسل الأدمغة” التي كانت تمارسها الصهيونية وداعميها للشباب الأمريكي والأوروبي، لينقلب السحر على الساحر، ويتحول الكيان المحتل إلى مجرم عصابات بحقّ المدنيين من الأطفال والنساء في القطاع المحاصر، الأمر الذي أحرج الحكومات الداعمة لها أمام شعوبها بشكل كبير.

وفي المقابل يتزايد، يومًا بعد يوم، الزخم الشعبي الداعم لفلسطين وحقوق شعبها في مواجهة دولة احتلال عنصرية، تمارس حرب إبادة وتجويع على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وهو ما تترجمه كرة النار المتدحرجة لدى ساحات الجامعات الأمريكية ومنها إلى الأوروبية والشرق أوسطية، بالتوازي مع انتفاضة الشوارع والميادين الداعمة لغزة وأهلها والمنددة بالاحتلال وداعميه.

استخلاصًا لما سبق، تبقى مسألة إصدار الجنائية الدولية لمذكرة اعتقال بحقّ نتنياهو وقادة جيشه، وإن كانت مجرد شائعة أو حتى تحرك حقيقي لكنه يحتاج إلى مزيد من الوقت لاتخاذ قرار نهائي، خطوة سياسية مهمة في تطويق الخناق على الكيان المحتل وتقزيم حضوره دوليًّا، وهو النجاح الذي لم يتحقق للفلسطينيين منذ عقود طويلة، لكن يبقى السؤال: ماذا لو كان الأمر ليس مجرد شائعة.. هل تنجح المحكمة الدولية في هذا الاختبار وتكسب شرعية دولية تفرض احترامها على الجميع؟ أم سترضخ لضغوط الولايات المتحدة وحلفاء تل أبيب؟