لا حديث يعلو هذه الأيام في الجزائر على ما فعلته لعبة “الحوت الأزرق” بالأطفال والمراهقين، التي تُسقِط يومًا بعد يوم ضحايا جدد، في وقت لا تزال إجراءات الحكومة للوقاية من هذا الهجوم الإلكتروني غير فعالة أو غير موجودة أصلاً.
لم يكن أحد من الجزائريين الذين ما زالوا يضعون أيديهم على قلوبهم بسبب عمليات اختطاف الأطفال والتنكيل بجثثهم التي هزت البلاد في السنتين الأخيرتين يتوقع أن يفعل هذا الغول الجديد ما يفعله اليوم بفلذات أكبادهم.
ما لعبة “الحوت الأزرق”؟
يقف وراء اختراع هذه اللعبة التي دفعت بعدة مراهقين وأطفال وشباب في العام منها الجزائر إلى الانتحار، الروسي فليب بودكين ذو الـ31 سنة الذي اعتقلته السلطات بتهمة تحريض 16 تلميذة على الأقل لقتل أنفسهن، من خلال المشاركة في اللعبة التي تتكون من تحديات تمر عبر 50 مرحلة تتطلب 50 يومًا، يطلب في آخرها ممن يقوم باللعبة بتحدي الانتحار في قصة تحاكي الحوت الأزرق الذي يسبح نحو الشاطئ ليموت حتى ولو اختلفت طرق هذا الانتحار.
لكن هؤلاء الضحايا بالنسبة لفليب هم “مجرد نفايات بيولوجية، كما أنهم كانوا سعداءً بالموت”، مضيفًا أن الهدف هو “تطهير المجتمع”.
وبدأ تدشين اللعبة، بحسب ما تذكر تقارير إعلامية من خلال موقع “vk.com” وتبدأ مراحلها بعبارة “مرحبًا، هل أنت مستعد للعب؟ ليس هناك ضغط، وإذا أردت الانسحاب قبل أن نصل إلى التحدي الأول فعليك أن تخبرني فقط”.
يذكر مختصون في علم النفس أن اللعبة مبنية على محاولة السيطرة النفسية على الشخص المستهدف الذي يصبح انطوائيًا بشكل لافت لم يكن عليه سابقًا
وتذكر عدة تقارير أنه لا يُسمح للمشتركين بالانسحاب من اللعبة، وإلا ستتعرض أسرهم لتهديدات بالقتل بسبب كمية المعلومات التي قدموها عن حياتهم الشخصية، وتتمثل المهمة الأولى في رسم الحوت الأزرق على الذراع بأداة حادة وإرسال صورة للمسؤول للتأكد من أن الشخص قد دخل في اللعبة، ثم تأتي مراحل أخرى كمشاهدة أفلام الرعب والصعود إلى سطح المنزل لكسر الخوف.
ويطلب ممن يقوم باللعبة محادثة أحد المسؤولين عنها لكسب الثقة والتحول إلى “حوت أزرق”، كما يطلب منه عدم التواصل مع أحد والانعزال، ويستمر في جرح نفسه مع مشاهدة أفلام الرعب والموسيقى الكئيبة، إلى أن يصل إلى المرحلة الخمسين، فيُطلب منه الانتحار إما بالقفز من النافذة أو الطعن بسكين.
ويذكر مختصون في علم النفس أن اللعبة مبنية على محاولة السيطرة النفسية على الشخص المستهدف الذي يصبح انطوائيًا بشكل لافت لم يكن عليه سابقًا، كما قد يتعرض من يلعبها إلى نوبات هستيرية مثلما حدث لشاب في الـ19 سنة من عمره بولاية ميلة شرق الجزائر.
5 وفيات حتى الآن
حسب ما نقلته الصحافة الجزائرية، فقد تم تسجيل 5 وفيات في البلاد سببها الانتحار تطبيقًا لطلب المرحلة الأخيرة من لعبة الحوت الأزرق، وكلها تتعلق بأطفال ومراهقين، 3 منهم يقطنون بولاية سطيف شرق البلاد والاثنين الآخرين من ولاية بجاية المجاورة.
الجهات المختصة تقول إنه لم يثبت بالدليل الدامغ إن كانت حوادث أو محاولات الانتحار المسجلة ترجع جميعها إلى سبب وحيد هو تطبيق لعبة “الحوت الأزرق”
كما سجلت ولاية سطيف أيضًا حالة انتحار فاشلة لفتاة في الـ17 سنة من عمرها، مما جعل مختصين يتساءلون عن سبب تسجيل أكثر الحالات بولاية سطيف وأغلب الحالات بولايات شرق البلاد رغم تسجيل حالة لطفل في وهران تم التفطن لها من طرف عائلته التي أنقذته قبل بلوغ المراحل المتقدمة من اللعبة.
تقول الاختصاصية النفسانية مليكة لعروسي إن تسجيل أغلب الحالات في شرق البلاد يتطلب القيام ببحث ميداني لإعطاء أجوبة مقنعة بشأن هذه اللعبة التي تعمل على جر الطفل المستهدف إلى عالم يجعله أكثر انطوائية، وفق ما تذكره الاختصاصية ذاتها.
تحقيق
غير أن الجهات المختصة تقول إنه لم يثبت بالدليل الدامغ إن كانت حوادث أو محاولات الانتحار المسجلة ترجع جميعها إلى سبب وحيد هو تطبيق لعبة “الحوت الأزرق”.
وقال وزير العدل حافظ الأختام الطيب لوح في تصريح للتليفزيون الجزائري الحكومي إن الهيئة الوطنية للوقاية من جرائم تكنولوجيات الإعلام والاتصال بالتنسيق مع النيابات العامة المختصة فتحت تحقيقًا قضائيًا بخصوص هذا الموضوع.
مراقبون يرون أن الحكومة تأخرت في معالجة هذا الملف بحجب هذه اللعبة من الإنترنت في الجزائر
وأضاف “بخصوص ما أثير وتداول بشأن لعبة الحوت الأزرق، فإن القضاء يقوم بواجبه في مكافحة كل الجرائم الإلكترونية، حيث أمرت الهيئة الوطنية للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها وبالتنسيق مع النيابات العامة المختصة بالتحقيق في هذا الموضوع وهو جارٍ بدقة”.
وكشف الوزير أن “نتائج التحقيق الأولية أثبتت حالة واحدة لها علاقة بهذه اللعبة التي يروج لها وحالات أخرى لا يزال التحقيق جارٍ بشأنها ولم يثبت حتى الآن علاقاتها بهذه اللعبة”.
وذكر الطيب لوح أن الهيئة الوطنية للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها “أمرت وفق ما ينص عليه القانون مقدمي خدمات الإنترنت بسحب كل ما هو غير مشروع متعلق بهذه اللعبة”.
لكن مراقبين يرون أن الحكومة تأخرت في معالجة هذا الملف بحجب هذه اللعبة من الإنترنت في الجزائر، كما أنهم يعتقدون أن فعالية هذا القرار تبقى محدودة بالنظر إلى أن اللعبة قد تبث عبر روابط جديدة غير تلك التي عرفت بها اليوم.
مسؤولية مشتركة
تعترف وزيرة التربية نورية بن غبريت أن سحب هذه اللعبة من منصات التحميل على شبكات الإنترنت في الجزائر لن يحد من خطورتها، بالنظر إلى إمكانية ظهورها في صيغ جديدة عبر مواقع متاحة للجميع مما سيسهل انتشارها، وبرأي الوزيرة، فإن الأولياء مدعوون لمراقبة ما يوضع بين أيدي أبنائهم من وسائل تكنولوجية حديثة.
دعت المفوضة الوطنية لحماية الطفولة مريم شرفي وسائل الإعلام إلى معالجة “هادئة” لقضية اللعبة الإلكترونية “الحوت الأزرق” وعدم التهويل في انتظار نتائج التحقيقات التي أطلقتها المصالح المعنية
ودعا مختصون في علمي النفس والاجتماع العائلات للحرص على مراقبة أبنائهم خلال استعمالهم للإنترنت وحذف تطبيق اللعبة من لوحاتهم الرقمية وهواتفهم الذكية، وعرضهم على اختصاصيين نفسانيين في حالة ملاحظة سلوكات غير طبيعية في تصرفاتهم اليومية.
ودقت منظمات أولياء التلاميذ والجمعيات المهتمة بحماية الطفولة ناقوس الخطر، ودعت إلى تضافر جهود الجميع للتوعية بمخاطر لعبة الحوت الأزرق وتطويق نشاط انتشارها.
ورطة وسائل الإعلام
الصدمة التي أحدثتها لعبة الحوت الأزرق جعلت وسائل الإعلام الجزائرية المختلفة تجعل هذا الملف في صدارة اهتماماتها بهدف التوعية بخطورة هذا العدو الإلكتروني وحماية الأطفال من شباكه، غير أن البعض يعتقد أن الحديث عنها حتى ولو كان بنية حسنة قد يساهم في التعريف بهذه اللعبة أكثر وتقديم إشهار مجاني لمن يقفون وراءها، وذلك بالنظر إلى تسجيل حالات متتالية لضحاياها منذ أن صارت محل اهتمام مختلف وسائل الإعلام، كون ذلك قد بعث روح الفضول الموجود لدى الأطفال والمراهقين.
ودعت المفوضة الوطنية لحماية الطفولة مريم شرفي وسائل الإعلام إلى معالجة “هادئة” لقضية اللعبة الإلكترونية “الحوت الأزرق” وعدم التهويل في انتظار نتائج التحقيق التي أطلقتها المصالح المعنية.
وحسب شرفي، فإن لعبة “الحوت الأزرق” أخذت مجالاً كبيرًا في التناول الإعلامي، وشددت على ضرورة عدم الوقوع في فخ التضخيم والتهويل عند معالجة الملف، وترافع مريم شرفي للوقاية من مخاطر هذه اللعبة لدعوة الأولياء إلى الفطنة ومرافقة الأطفال ومتابعة ماذا يستهلكون من ألعاب إلكترونية.
وكشفت أن الهيئة التي تشرف عليها تلقت شكاوى وأسئلة من عائلات عبرت على تخوفها من الحوت الأزرق وقلقها حيال حقيقة هذه اللعبة وعدم الانتباه لتعاطي الأطفال معها أم لا، وفي غياب نتائج تحقيقات موضوعية وشفافة عن الملف، يبقى التساؤل مطروحًا: هل لعبة الحوت الأزرق تقف فعلاً وراء سقوط كل هؤلاء الضحايا أم أن هناك غولاً أكبر يتخفى وراء هذه اللعبة لتنفيذ مخططاته؟
كما أدى هذا الملف بالكثير من المختصين إلى طلب إعادة النظر في حوادث الانتحار التي سجلت في السنوات الأخيرة وسط الأطفال خاصة التلاميذ، وإن كان الحوت الأزرق من يقف وراء فقدان حياتهم.