نشرت أستاذة الإعلام والثقافة والاتصالات بجامعة نيويورك هلجا طويل – الصوري ورقة بحثية تقول فيها إنه على الرغم من فك الارتباط عن قطاع غزة سنة 2005 إلا أن إسرائيل لم تنه احتلالها للقطاع، لكنها جعلته احتلالا تقنيًا يزعم أنه “من دون احتكاك” من خلال آليات تكنولوجية متطورة.
وقامت السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو، وتمشيًا مع سياسات نيوليبرالية، بتحويل قطاع الاتصالات، لشركة قطاع خاص تدعى شركة الاتصالات الفلسطينية. وعنى ذلك أن السيطرة على الفضاء الرقمي بقيت في أيدي القطاع الخاص وتعتمد على التنسيق مع دولة إسرائيل بدون الخضوع للقيود التي عادة ما توضع على السلطة الفلسطينية أو القطاع العام. تضاف هذه السيطرة إلى القيود الإسرائيلية على الاتصالات الهاتفية الأرضية، والهواتف الخلوية، والبنية التحتية للإنترنت، لتنتج “الاحتلال الرقمي” لغزة الذي يتميّز بزيادة الخصخصة وزيادة المراقبة والتحكم. وبينما يقوم الاحتلال الرقمي بتعميق الاعتماد الاقتصادي الفلسطيني على إسرائيل، وتحويل شركات التكنولوجيا المتطورة الفلسطينية إلى وكلاء معتمدين، يعزز أيضًا الاحتواء الإسرائيلي لأراضي قطاع غزة.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه بعض الوزراء الإسرائيليين عن الرغبة في إعادة احتلال القطاع من جديد، يبرز سؤال السيطرة وعما إذا كانت إسرائيل قد تخلت بالفعل عن القطاع.
لطالما قارب المسؤولون الإسرائيليّون غزة وتعاملوا معها على أنها طفيليّ: نوع من الخطر، والمجازفة، وشيءدينبغي إغلاقه ومن ثم اجتثاثه. وغزّة، كما قال رئيس الأركان الإسرائيلي موشيه يعالون سنة 2002 ، هي “سرطان .. يشكّل تهديدًا وجوديًّا”. ويعالون ليس أول ولا آخر من يشير إلى غزة على هذا النحو؛ فالمسؤولون العسكريون والسياسيون، والمواطنون الإسرائيليون يتحدثون عن غزة بوصفها تهديدًا وجوديًّا، وتهديداً إرهابياً، وتهديدًا مسلماً، وتهديداً إسلاميًّا، وتهديدًا صاروخيًّا، وفتيل انفجار، وما إلى ذلك. غزة تعني التهديد، نقطة على السطر.
ولذلك، فإن غزة هي مكان ينبغي تطويقه وعزله، سرطان يجب أن يبقى مُهمَّشًا، وعلى جنب، وخارج حدود إسرائيل، ما دام موجودًا. وبالنتيجة، فإن عزل هذا الطفيلي والسيطرة عليه يتطلّبان من الجهاز العسكري الإسرائيلي الدخول إلى أمكنة ليست له والتحرك ضمنها، وتهديد البنى الموجودة، وإقامة بنى جديدة، واستغلال الموارد الغزاويّة، وأحيانًا، قتل الغزاويّين. والحقيقة، إن “تهديد غزة” مركزيٌّ في الخطاب والممارسة اللذين يبرّران توسيع نظام المراقبة الإسرائيلي الذي يعتمد، بحدّ ذاته، على اعتبار غزة حقل تجارب عسكريًا في الباحة الخلفيّة لإسرائيل.
ولذلك فقد تمّت محاصرة القطاع بوسائل عديدة ومتزايدة منذ الخمسينيّات. على سبيل المثال، أُنشئ السّياج حول القطاع، والإغلاق، ونظام العبور خلال الانتفاضة الأولى أول مرّة. وبعد أوسلو، عمدت إسرائيل إلى تكثيف السيطرة المكانية من خلال الحواجز وسياساتٍ أكثر صرامة على الحركة داخل غزة وخارجها. وعلى المرء أن يضع بعين الاعتبار، كذلك، أدوار الآخرين، مثل إغلاق نظام مبارك معبر رفح وبنائه جدارًا غائرًا مسافة تحت الأرض، وانقياد الحكومات الغربية للسماح بشكلٍ أكبر لإسرائيل بفعل ما تريد في غزة، عدا عن التّهميش السياسي الذي تفرضه السلطة الفلسطينية على حماس وغزة.
تُستخدَم تقنيات عديدة للمراقبة والسيطرة على طول المحيط أو “المنطقة العازلة” وفي داخلها. ومن ضمن قائمة تبدو غير نهائية، تُستخدَم بشكل متزايد للسيطرة والمراقبة حول غزة وفوقها، من الأرض والبحر والجو، ثمة طائرات من دون طيّار، وكاميرات بدارة تلفزيونية مغلقة، وتصوير صوتيّ، وآلات رصد تعمل بأشعة غاما، وبلدوزرات وقوارب يتم التحكّم فيها عن بُعد، وأضواء سوداء أو إشعاعات غير منظورة، وروبوتات صغيرة آلية، وأسوار مكَهْرَبة، وأنظمة رؤية إلكترونية للرؤية الليلية، ومناطيد مراقبة بقدرة تغطية تبلغ 360 درجة، وحسّاسات ارتجاج. إنّ نظام شاهِدْ – صَوِّر الذي أنشأه في سنة 2009 فرع من أكبر شركة عسكرية وتجارية في المجال الجوي في إسرائيل، هي شركة رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدّمة، يمكّن المشغّلين في مراكز القيادة في ضاحية بتل أبيب من استخدام كاميرات وأسلحة تعمل بتقنيّة التحكم عن بُعد لمراقبة الغزاويّين الذين يخاطرون في الدخول إلى المنطقة العازلة الدائمة الاتساع داخل محيط القطاع وإطلاق النار عليهم.
إذًا، إن إحدى الطرق لفهم معنى “فك الارتباط” هي عبر وضعه في سياق تحوّل آليات الاحتلال الإسرائيلي باتجاه السيطرة “المعتمدة على التكنولوجيا”، وهي عمليات بدأت مع الانتفاضة الأولى والشروع في “عمليّة السلام” الذين كانا، بحدّ ذاتهما، علامة على تحول باتجاه عزل غزة عزلاً كاملا، وهذا هو الاحتلال الرقمي.
الاحتلال الرقمي هو تلك العملية المتعددة الوجوه التي تجمع ديناميّات الأرض الإقليمية والاقتصادية إلى ضروب التسييج الرقمية -فضلاً عن تقييدات أخرى-. وما نشهده في غزة هو خصخصة الشبكات وتدفّق المعلومات: ثمة شركة كبرى هي “بالتِل Paltel)” تدير البنية التحتية للاتصالات وبناها هي نفسها، في حين أن شروط الوصول إلى الشبكة محكومة بالضوابط القانونية والاقتصادية التي فرضتها السلطة الفلسطينية. أمّا عرض النطاق، ومكان موجّهات “راوترات” الإنترنت أو مقاسم الهاتف، وعددها، وقوّتها، ونطاق الإشارات الخليوية والمعدات المستخدَمة، والقرارات التي تحدد التقنيات الجديدة المسموح بها وغير المسموح بها، فجميعها مقيَّدة بقيود إسرائيلية. تبني إسرائيل، فعليًّا، كلا من فضاءات التدفّقات (العالية التقنيّة) وفضاءات السيطرة بهدف حصار الغزاويّين، ووضع حدود لهم، ومراقبتهم بطرق “من دون احتكاك”.
ليس هذا فحسب، بل إن الحصار والتسييج يعتمد على المعايير التي تحددها وتلغي تحديدها مصالح “الأمن” الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، فإن هناك شبكة اتصال هاتفي، لكن جميع الاتصالات الأرضية بين مدينة غزة وخان يونس، مثلا ، تمرّ عبر إسرائيل. والدخول إلى الإنترنت مسموح به، لكن حركة البيانات جميعها تمر بمفاتيح تحكّم متوضّعة خارج قطاع غزة.
إن حرب “الرصاص المصبوب” التي شنتها دولة الاحتلال على القطاع في نهاية 2008 كانت تجليا واضحا لقدرة الاحتلال على السيطرة الكاملة على الفضاء الغزاوي، ففي 220 ثانية الأولى من اليوم الأول من الحرب، هاجمت إسرائيل ب64 طائرة حيث دمرت 50 هدفا في نفس الوقت. لقد كان أثر الدمار في البنية التحتية هائلا، إذ قُصفت طرق وجسور ومساجد ومدارس ومنازل ومصادر كهرباء واتصالات.
أما من حيث السيطرة على المجال التقني في غزة، فبعدما تم إلقاء المنشورات الأولى في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 ، فوق قطاع غزة بأكمله، طالبةً من المواطنين إبلاغ الجيش الإسرائيلي عن أماكن منصات إطلاق الصواريخ وأعضاء حماس. قام جيش الاحتلال في اليوم ذاته باعتراض بث قناة الأقصى التلفزيونية التابعة لحماس وبثّ صورة هاتف يرن دونما إجابة، متبوعةً برسالة بأن قادة حماس مختبئون. وفي 28 كانون الأول/ديسمبر، أُلقي 30 ألف منشور آخر فوق القطاع. ومع اعتراض آخر لإشارات البث التلفزيوني الفلسطينية، قام الجيش ببث مقطع أنيميشن لسبعة قادة من حماس برصاصة في رأس كل منهم متكوّمين بعضهم فوق بعضهم، مع تحذير بأن “الوقت ينفد”. وتم إرسال رسائل مماثلة إلى إذاعة الأقصى. وفي 29 كانون الأول/ديسمبر، ازداد عدد حالات اعتراض البث الإذاعي من قبل القوات الإسرائيلية إلى 80.000 كل ساعة. وقد استمرت هذه الممارسات خلال الحرب. وبدأت الاتصالات والرسائل النصيّة التي تهدد الغزاويّين بعمليات قصف في 2 كانون الثاني/ يناير 2009 .
المقاومة الفلسطينية رغم ذلك كبدت الإسرائيليين خسائر فادحة، لكن الحرب الإسرائيلية التي يبدو أنه يتم التجهيز لها لن تكون هينة على الإطلاق، يبدو أن إسرائيل لم تخرج أبدا من القطاع، لكنها قللت من خسائرها عبر إبعاد مستوطنيها وجنودها، وفي نفس الوقت استمرت عمليات الحصار والسيطرة بشكل كامل.
للاطلاع على الورقة كاملة – الورقة بالإنجليزية