من رحم المعاناة يولد العظماء، فالطريق نحو النجاح ليس مفروشًا بالورود، بل تتخلله مطبات وعراقيل، سقوط ونهوض، كرب ثم فرج، والكثير من الآلام.
هذه خلاصة حياة الرجل الأعظم في تاريخ الملاكمة، الشخص الذي منح هذه اللعبة بُعدًا آخر غير الرياضي، مسيرة كانت حافلة بالجدل السياسي، والمواقف الإنسانية التي لا تُحصى، في عهده عشق الكل رياضة الملاكمة، وتابعها الصغير قبل الكبير، نزالاته أحيطت دائمًا بسيل من الجدل والضوضاء، وتصريحات صحفية لم تكن أقل إثارة من معركته داخل الحلبة.
لقد كان قدر الطفل الصغير كاسيوس أن يعيش طفولة صعبة في بدايات الأربعينيات من القرن الماضي، لا لشيء إلا لبشرته الداكنة، فكم كان تأثره بالغًا يوم كان رفقة والدته في أحد المتاجر بمسقط رأسه بـ”لويسفيل” بولاية كنتاكي جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية، عطِش كاسيوس فسألت والدته صاحبَ المتجر كأس ماء تروي به ظمأ ولدها الصغير، طلب قوبل بالرفض فقط لأن الأم والولد من أصحاب البشرة سوداء.
لم تكُن الولايات المتحدة الأمريكية المكان الأفضل لعيش أصحاب البشرة السمراء، فالبلد لا يزال مترنحًا من دمار حرب أهلية اندلعت لأسباب عرقية، خطابات مارتن لوثر كينغ لنبذ العنصرية لم تجِد بعد آذانًا صاغية تسمعها، ومطاعم البلد وحاناته ما زالت تعلق لافتتها الشهيرة على الأبواب: “يُمنع دخول الحيوانات والسود”.
لم تكن معاناة كاسيوس نابعة من عرقه فقط، فالبيت الذي ترعرع فيه كان في حي لم يُعرف عن قاطنيه غير تفشي الفقر والجريمة، حتى كانت تلك اللحظة التي شكلَّت منعرجًا في حياة الطفل ذي الـ12 عامًا، يوم اشتكى لرجل شرطة بحيه سرقة دراجته الهوائية متوعدًا سارقها باللكم.
يضحك الشرطي وينصح كاسيوس بتعلم الملاكمة أولًا، نصيحة عابرة فقط، كانت السبب في ميلاد أعظم ملاكم في التاريخ، أما رجل الشرطة هذا، فلم يكن سوى “جو إلسبي مارتن”، المدرب الذي قاد كاسيوس كلاي نحو المجد.
من كاسيوس إلى محمد علي
محمد علي كلاي بأحد تجمعات منظمة “أمة الإسلام” مع حضور رئيسها “إليجاه محمد”
عكس ما يعتقد الكثيرون من كونه قد وُلد مسلمًا، لم يعتنق محمد علي كلاي الإسلام إلا وهو ابن 22 عامًا، لم يكن قرارًا سهلًا له، فلم ينقصه معاناة بشرته السوداء ليزيد معها معاناة الأقلية المسلمة بالولايات المتحدة، كان هذا طبع “كاسيوس” المشاكس الذي لعب دورًا في بناء شخصيته القوية والعنيفة.
الرائج أن محمد علي كلاي اعتنق الإسلام بعد تردده على منظمة “أمة الإسلام”، ولقائه بالزعيم الأمريكي المسلم الشهير مالكوم إكس، لكن لا أحد تساءل عن السبب الأصلي الذي جعله يتردد على لقاءات هذه المنظمة في الأصل واهتمامه بها.
الجواب يأتينا من رسالة كتبها محمد علي بنفسه لزوجته السابقة “خليلة علي” يحدثها فيها عن قصاصة كرتونية تحكي عن عبد أسود مُسلم يتعرض للمضايقات من سيده الأبيض المسيحي بسبب بشرته السوداء ومعتقده الديني، لامست هذه القصاصة كيان “كاسيوس”، فاعتنق الإسلام وغير اسمه من “كاسيوس كلاي” إلى “محمد علي كلاي”.
شخصية محمد علي “الملاكم” تجسدت في مواقفه خارج الحلبة، شراسته في الدفاع عما يؤمن به، ومهاراته في التمييز بين لحظات الدفاع ولحظات الهجوم
وكما كان متوقعًا، عانى محمد علي كلاي الأمرين جراء هذا الاختيار، حيث واجه انتقادات عدة من الإعلام الأمريكي الذي تعمد نشر كل الأخبار المتعلقة به باستعمال اسمه القديم “كاسيوس”، لم يبالِ محمد علي بهذا الهجوم الشرس، وأطلق تصريحه الشهير عن إسلامه قائلًا: “كاسيوس كلاي هو اسمي في زمن الاستعباد ولا أحبه، أنا أمريكي، أنا جزء من إحدى طوائف هذا المجتمع التي تنكرونها، لكن عليكم أن تعتادوا عليّ، أنا أسود، واثق من نفسي، وربما مغرور، لكن هذا هو اسمي، وليس اسمكم، اسمي محمد علي، ويعني المحبوب من الله، هذا ديني، وليس دينكم، هذه طموحاتي، وهذه طباعي، عليكم أن تعتادوا على ذلك”.
وكم كان غضب محمد علي شديدًا، يوم نعته خصمه إيرني تريل، باسمه القديم “كلاي” في المؤتمر الصحفي الذي سبق اللقاء، لقد رأى الجميع محمد علي يوقع منافسه أرضًا بالضربة القاضية ويصرخ فيه: “ما اسمي؟ ما اسمي؟”.
محمد علي وحرب فيتنام
من المؤتمر الصحفي الذي أعلن خلاله محمد علي كلاي رفضه لأداء الخدمة العسكرية والذهاب لفيتنام
شخصية محمد علي “الملاكم” تجسدت في مواقفه خارج الحلبة، شراسته في الدفاع عما يؤمن به، ومهاراته في التمييز بين لحظات الدفاع ولحظات الهجوم، لم يلتفت كثيرًا للانتقادات التي وُجهت له بشأن اسمه، لكن الحرج الحقيقي كان يوم استدعائه للخدمة العسكرية لحرب فيتنام سنة 1966.
وكم كانت الضجة كبيرة حينما رفض محمد علي ذلك، وامتنع عن خوض حرب فيتنام التي تُعتبر وسام فخر لكل جندي أمريكي شارك فيها: “عدوي هو الرجل الأبيض، وليس شعب فيتنام أو اليابان أو الصين، فلا أحد منهم نعتني بالزنجي، الرجل الأبيض كان عدوي يوم أردت الحرية، وعدوي يوم أردت العدالة، وعدوي يوم أردت المساواة، لا أحد ساندني يوم أعلنت توجهاتي الدينية، فكيف تريدون مني الذهاب إلى مكان ما والقتال من أجلكم وأنتم لم تدعموني هنا في وطني؟”.
هكذا واجه محمد علي كلاي واحدة من أقوى المحن في حياته، فموقفه هذا قوبل بالاستياء من الحكومة الأمريكية ولم تشفع له إنجازاته وبطولاته، فتم تجريده من كل الألقاب والجوائز التي فاز بها، وسُحبت منه رخصة ممارسة رياضة الملاكمة، لقد حرموه أعز ما يملك: قفاز وحلبة.
محمد علي.. المُلهم
الصورة التي صُنفت كأعظم صورة التقطت في القرن العشرين، بعد فوز محمد علي كلاي بالضربة القاضية على خصمه كليفلاند ويليامز سنة 1966
ومع تقدم السنين، وتخلص الولايات المتحدة الأمريكية تدريجيًا من قيود الفكر الاستعبادي المقيت، أصبح محمد علي كلاي رمزًا من رموز نضال السود للحصول على حقوقهم، صار رمز إلهام لكل طفل أسود حلم بالنجومية والبطولة، يقول أسطورة كرة السلة الأمريكية كريم عبد الجبار: “أذكر أن المعلمين كانوا يكرهون محمد علي لأنه كان ثائرًا على المؤسسات ويُقحم نفسه في كل نقاش سلطة، لقد كان فخورًا بكونه رجلًا أسودًا يملك قدرات هائلة، إنه أمر لم يُعجب البعض، لكن لذات الأسباب أيضًا، استمتعت بشخصيته وأعجبت بها”.
صار محمد علي يؤدي أدوارًا إنسانية وسياسية كبرى حتى بعد اعتزاله لعبة الملاكمة، حيث زار مجموعة من الدول الإفريقية، وكذلك مخيم الفلسطينيين جنوب لبنان وأعلن من هناك نصرته للقضية الفلسطينية، كما عُرف عنه المشاركة في مسيرات لدعم سكان أمريكا الأصليين، ونجاحه في إقناع الحكومة الكينية بمقاطعة ألعاب موسكو الأولمبية سنة 1980 احتجاجًا على الاجتياح الروسي لأفغانستان.
لم ينتصر على محمد علي كلاي غير مرض “الباركنسون” الذي شُخصت به حالة أسطورة الملاكمة جراء الكم الهائل من اللكمات التي تلقاها خلال مسيرته الرياضية، واصل رغم ذلك محمد علي كلاي رسالته الإصلاحية، ومواقفه الإنسانية النبيلة.
وحتى في وفاته قبل سنة ونصف، كان مشوار الدعوة للسلام متجليًّا في جنازته التي حضرها مجموعة من رؤساء دول العالم، لا مواضيع سياسة وحرب تطرقوا إليها، فالعالم مفجوع بفقدان الثائر المسالم والملاكم النبيل، مات محمد علي كلاي، لكن أسطورة الملاكمة التي تركها ستظل خالدة أزلية.