قد لا يخطر على بالك فور سماعك لمصطلح التنويم المغناطيسي سوى صورة أولئك الأشخاص الذين يحملون ساعاتٍ في أيديهم، يلوّحون بها أمام أشخاصٍ يتمّ تنويمهم عاجلًا أو آجلًا ثمّ يبدأ ذلك الرجل بإملاء الأوامر على النائم، طالبًا منه الحركة والتحدث وفقًا لما يطلبه، فيبدأ الآخر بإفشاء أسراره وذكرياته وسردها واحدًا تلو الآخر، ثمّ يفيق بطرقعة أصبع من المنوّم.
لا عجب من ذلك أبدًا، فهاي هي الصورة التقليدية التي أنشأتها الروايات والأفلام وخشبات المسرح في أذهاننا، لكن لنتفق أولًا أنّ التنويم المغناطيسي اسمٌ خاطئ تمامًا لا أصل له من الصحة، وتلك العملية التي تعتقد أنها جزء من العلاج النفسي تُسمّى ” التنويم الإيحائي” أو “hypnosis” كما تُسمّى في الإنجليزية، المصطلح الذي يرجع أصله إلى الكلمة اليونانية “hypnos” والتي تعني ببساطة “النوم”.
يعرّف التنويم الإيحائي بأنه الوصول بالمريض لحالة ذهنية هادئة ومسترخية، يستقبل فيها لاوعيه الإيحاءات ويستجيب لها بشكلٍ أوسع من وضعه الطبيعي، وفي هذه الحالة يكون العقل الباطن مستجيبًا بشكل كبير لأي اقتراحٍ أو إيحاءٍ يصدر من المعالِج، حيث ينصب التركيز الذهني للمريض في نقطةٍ معينة، ويضع كلّ ما حوله من أشخاص وأشياء خارج نقطة التركيز تلك، بهدف الغوص أكثر فيما وراء اللاوعي والذكريات الغائرة.
يرجع تاريخ التنويم الإيحائي الحديث للقرن التاسع عشر على يد طبيب الأسكتلندي جيمس برايد الذي وضع أساسات العلاج وألّف فيها كتابًا
وفقًا لكتب التاريخ فيرجع تاريخ هذا الأسلوب لآلاف السنين الماضية، فقد استخدمه المصريون القدماء والإغريق واليونانيون، حتى أنه كان عند بعض الجماعات جزءًا من الدين والثقافة. إلا أنّ المفهوم العلمي للتنويم الإيحائي يرجع إلى أواخر القرن الثامن عشر على يد الطبيب النمساوي فرنز ميسمر، أحد أهم رواد التنويم الذي بالأساس أُطلق عليه في تلك الفترة مصطلح “المسمرية” أو ” mesmerism” نسبةً لميسمر، الذي اعتقد أنّ سائلًا حيوانيًّا غامضًا يخترق الأجسام ويسمح للشخص بامتلاك تأثير مغناطيسيّ قويّ على الآخرين، الأمر الذي بدوره قوبل بالرفض من الأطباء والعلماء آنذاك نظرًا لارتباطه بالغموض والسحر أكثر منه بالعلم.
كانت نظرية ميسمر تفترض أن للمجالات المغناطيسية الكائنة في النجوم والكواكب تأثير على المجال المغناطيسي لجسم الإنسان وأن المرض سببه اضطرابات في توزيع هذا المجال في الجسم، وبالتالي فإنّ الشفاء يحدث نتيجة لإعادة موازنة المغناطيسية اللازمة. كما كان في البداية يستخدم مغناطيسًا في جلسات العلاج ثم قرر بعد ذلك أن هذه المغناطيسية يمكن تحريكها بواسطة تلك الموجودة في جسمه هو أو في جسم إنسان آخر . وبالفعل بدأ في العلاج باستخدام اللمس والمسح باليد وبعد ذلك تطور إلى الاعتقاد في أن هذه المغناطيسية يمكن نقلها إلى أجسام جامدة أخرى مثل شجرة أو حوض به ماء وبالتالي تنقل إلى جسم المريض بملامسته لهذه الأشياء.
ولو فكرنا بالأمر لوجدنا أنّ مقدرة ميسمر العلاجية كانت تكمن في إيمان مرضاه بالشفاء عن طريق هذه الطريقة، أي أنه كان علاجًا إيحائيًا بحتًا.
لاحقًا، سطع اسم الطبيب والجراح الاسكتلندي جيمز برايد في التنويم الإيحائيّ الحديث، وهو من أطلق مصطلح “هيبنوتزم” على العملية، أما أهم إنجازاته فيما يتعلق بذلك فكانت كتابه “Neurohypnology” أي “النوم العصبي”، والذي شرح فيه آراءه واكتشافاته في التنويم الإيحائي، وأكّد على أنّ العلاج يتم عن طريق الإيحاءات والاقتراحات لأفكار وأفعال يحتاجها المريض للولوج إلى ذاكرته، وليس عن طريق قوة مغناطيسية كما ادّعى ميسمر.
التنويم الإيحائي الحديث: حالة تركيز بهدف الولوج للذاكرة
تكمن الأهمية الحقيقية للتنويم الإيحائيّ في كون الذهن قد وصل لحالةٍ من الاسترخاء والتركيز الشديدين ما يجعل من عقله الباطن متقبّلًا أكثر لأي اقتراح أو إيحاء قد يُملى عليه التي بدورها تستطيع التغلغل بسهولة وفعالية. وحاليًا ينقسم العلاج إلى نوعين اثنين؛ العلاج الاقتراحي والعلاج التحليلي.
يعتمد العلاج الاقتراحي على قدرة المريض على الاستجابة لاقتراحات وإيحاءات المنوّم الإيحائي بينما هو في حالة أقرب ما تكون للغفوة، ويُستخدم هذا الأسلوب عادةً للسيطرة على أو التخلص من السلوكيات غير المرغوب فيها مثل التدخين والقمار وقضم الأظافر أو الإفراط في تناول الطعام. كما أثبتت هذه الآلية فعاليتها في علاج بعض الآلام أو تحفيز بعض السلوكيات الإيجابية مثل الثقة والإيمان بالنفس والدافع الذاتيّ.
يركّز التنويم الإيحائي على علاج بعض الاضطرابات النفسية أو السيطرة على بعض السلوكيات غير المرغوبة
ولعلّ أهمية العلاج بالاقتراحات تكمن في أنها تسمح للمعالِج في اكتشاف الجذور النفسية لبعض الأعراض أو المشاكل العقلية مثل القلق الاجتماعي والاكتئاب أو الصدمات الماضية التي غالبًا ما تكون غائرة في لا وعي المريض دون أنْ يدرك وجودها أو يعي لها، وبذلك يمكن استنتاج أنّ التنويم الإيحائيّ استخدم أو يستخدم للولوج إلى الذاكرة اللاوعية في محاولة لاسترداد الذكريات المقموعة أو الصدمات التي حدثت في مراحل سابقة من عمر المريض والتي أدت إلى تطوّر مجموعة من الظروف النفسية والسلوكيات الإشكالية.
أمّا الأسلوب الثاني للعلاج الإيحائي فيُعرف بالمنهج التحليلي وقد يُشار إليه أحيانًا بالعلاج بالنكوص أو بالتردّي “ regression therapy” ويركّز علىية المشاكل النفسية مثل الخوف والاكتئاب والقلق والمشاكل الجنسية. ومقارنةً بالأسلوب السابق فهو أكثر تجذّرًا في اكتشاف الأعراض والغوص فيما وراءها لمعرفة أصل الاضطرابات وأسبابها، ولا يكون الهدف منه التخلص من السلوكيات غير المرغوبة أو علاجها وإنما يهدف فقط لتحديد أسباب الاضطراب لمعرفة طرق علاجه.
يرجع أصل معظم تلك المشاكل إلى تجارب منسية تمّ تجاهلها أو قمع ذكرياتها نظرًا لأنها تشكّل مصدر إزعاج وعدم راحة للمريض، وبالتالي يكون هدف المعالِج الإيحائيّ هنا هو مساعدتهم لاستكشاف اللحظات المحددة التي أدت لخلق المشكلة أو الاضطراب. وبعكس المعالِج النفسيّ، فالمعالِج الإيحائي لا يحاول استكشاف العلاقة بين الأحداث والذكريات التي أدت للمشكلة، وإنما يسعى لاستكشاف اللحظة التي بدأ فيها تطورها.
تكمن خطورة التنويم الإيحائي في كونه قادرًا على خلق ذكريات خاطئة أو كاذبة ما يجعل العلاج غير موثوق
يساعد العلاج بالنكوص، بمساعدة أساليب علاجٍ أخرى، المريضَ للوصول إلى نتائج إيجابية مختلفة، منها العقلية مثل صفاء الذهن وفهم الذات والانفتاح العقلي، أو نفسية مثل الهدوء الداخلي والثقة بالنفس والقدرة على التعبير عن الذات واستعادة بعض المشاعر الإيجابية، أو جسدية مثل التخلص من التوتر أو الحساسية المفرطة أو الأرق والصداع أو بعض الأعراض التي لا يوجد لها أيّ تفسيرٍ طبيّ.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التنويم الإيحائي لا يناسب المرضى الذين يعانون من هلوسات وأوهام، أو أولئك الذين يدمنون الكحول أو المخدرات، كما ينبغي اللجوء إليه بعد موافقة الطبيب الفيزيائي وتأكيده بعدم وجود أي خلل أو مشكلة جسدية قد تزيد من الأمر سوءًا لاحقًا. وبالإضافة لذلك، تكمن عيوب التنويم الإيحائي في أنّ نوعية الذكريات والمعلومات التي يذكرها المريض أثناء الآلية غير مضمونة أو موثوقة تمامًا، فقد يقوم المريض بخلق ذكريات كاذبة سواء عن طريق الإيحاءات غير الصحيحة من قبل المعالِج أو من خلال طرح الأسئلة الخاطئة أثناء العلاج، ولهذه الأسباب لم يعد الإيحاء المغناطيسي يشكّل أسلوبًا موثوقًا من أساليب العلاج النفسي.
وبالتالي دعنا نتفق أنّ هذا النوع من العلاج لا يشكّل خطرًا أبدًا على المريض، وهو ليس نوعًا من السيطرة على العقل أو غسيلًا للدماغ كما يعتقد الكثيرون، ولا يستطيع أن يجعل الشخص يفعل ما لا يرغب به أو لا يريد فعله. كما قلنا سابقًا، تكمن مشكلته في قدرته على خلق ذكريات كاذبة وإعطاء معلومات خاطئة للمعالِج، الأمر الذي يجعل منه أقل فعاليةً بكثير من غيره من أساليب العلاج النفسي التقليدية.