عادة مرحلة الثانوية العامة في فلسطين لها قيمتها، ليس لتخرج الطالب من المرحلة المدرسية والانتقال للجامعية فقط، بل كونها شكلًا من أشكال المقاومة التي يصر فيها الطلبة على مواكبة دراستهم رغم الظروف والمعيقات السياسية التي تبقى طيلة العام سواء في الضفة المحتلة أم القدس أم قطاع غزة بفعل مضايقات الاحتلال الإسرائيلي، وكل مرة يحصدون درجات عليا تميزهم وتمهد لهم الطريق للالتحاق بكليات ذات شأن.
هذا العام ولأول مرة منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 سيحرم الآلاف من طلبة الثانوية العامة الذين يقدر عددهم بنحو 40 ألف طالب وطالبة من الاختبارات النهائية، ما شكل صدمة كبيرة لهم بسبب ضياع عام دراسي بأكمله كان سيحدد مصيرهم المستقبلي.
لا شيء يمهد في قطاع غزة من شماله حتى جنوبه لإعادة الطلبة الثانوية العامة إلى مقاعدهم الدراسية، فمدارسهم تحولت إلى مراكز إيواء، حتى معلميهم تفرقوا ما بين الشمال والجنوب، عدا عن استشهاد عدد كبير سواء من الطلبة أم المدرسين.
خلال مؤتمر صحافي، أعلن أمجد برهم وزير التربية والتعليم أن ألف طالب فقط من قطاع غزة سيلتحقون بامتحانات الثانوية العامة لكن في جمهورية مصر العربية، وهم ممن خرجوا رفقة ذويهم بداية الحرب، وذلك وفق ما أعلنته وزارة التربية والتعليم في رام الله.
طلبة الثانوية العامة: نجاحنا مقاومة
استنادًا إلى أرقام وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، فقد قُتل 6 آلاف و237 طالبًا وطالبةً منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأصيب 10 آلاف و300 بجروح.
وأشارت الوزارة إلى أن 286 مدرسة حكومية و65 مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، تعرضت للقصف والتخريب في قطاع غزة، ما أدى إلى تدمير 40 منها بالكامل، وتعرّض 111 لأضرار بالغة.
قرب مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، ينادي سعد الهبيل بأعلى صوته على الزبائن لشراء المعلبات التي حصل عليها عبر كابونة إغاثية، هو بالأساس ليس بائعًا بل طالب ثانوية عامة كان يحصل حتى الصف الحادي عشر الأول على فصله، لكن اليوم كما يعلق “لا فصل ولا مدرسة ولا حتى مدرسين وزملاء”.
يقول لـ”نون بوست” إنه نزح وعائلته من حي الشجاعية إلى دير البلح بداية العام الجاري، وحرص على حمل كتبه المدرسية لمراجعة دروسه، لكن بعد أسابيع من اشتداد الحرب وسوء وضع عائلته المادي قرر مساعدة والده لإعالة أسرته التي تنزح في فصل داخل إحدى مدارس الدير.
يحكي طالب الثانوية العامة أنه يعيش في حالة صدمة ولم يصدق حتى اللحظة أنه لن يلتحق بالامتحانات النهائية، وشعر بغصة كبيرة حين أعلن عن جدول الامتحانات، معلقًا: “بكيت كثيرًا وقت إعلان الجدول وتمنيت لو كنت في بيتي وعلقته على مكتبي (..) تمنيت لو كانت الحياة عادية دون حرب، لكنت في مثل هذه الأيام أتردد كبقية زملائي على الدروس الخصوصية، لكن ما يهون عليّ هو أن عددًا كبيرًا من زملاء المدرسة نزحوا معي وغالبيتنا نبيع في الأسواق كل شيء”.
وبإصرار يقول: “لن أحزن كثيرًا، لأننا سنعود لدراستنا ونكمل تعليمنا ونتخرج في الجامعات لنعمر البلاد”.
أما حلا البردويل طالبة الثانوية العامة، قلبت مخططاتها رأسًا على عقب بعد أسبوع من حرب غزة، فقد كانت تقطن في شارع العيون بحي النصر، لكنها اليوم تنزح رفقة عائلتها في مخيم النصيرات.
تقول البردويل إنها وقت النزوح حملت حقيبتها المدرسية، وبقيت تراجع دروسها وتقلب دروسًا جديدة، فهي لم تتوقع أن تطول المدة ويأتي نهاية العام دون امتحانات، وتضيف: “بعدما اشتد الحصار على المخيم وزاد القصف لم يستطع والدي الخروج لجلب الحطب من أجل طهي الطعام، فاضطررت للاستغناء عن كتبي المدرسية واستخدامها لإشعال النار”.
وتحكي أنها لا تزال تحتفظ بدفاترها وتحفظ ما وصلت إليه في المنهج، وبتنهيدة علقت “لم أبك على كتبي التي حرقت فمدرستي (رامز فاخرة) مُسحت ولا آثار لها كما أخبرتني صديقتي التي بقيت في شمال غزة، حتى إن بعضًا من زميلاتي والمعلمات استشهدن”.
وتشير البردويل إلى أنها كانت تخطط منذ بداية العام للحصول على معدل عال في الثانوية العامة لعمل حفلة كبيرة كما كانت تشاهد فرحة الطلبة وقت نجاحهم، متمنية أن تنتهي الحرب وتعود لمقاعد الدراسة لاستكمال دراستها حتى لو كان في خيمة.
أما زين فارس كان الأكثر حظًا بين زملائه، فقد خرج من قطاع غزة قبل 4 أشهر رفقة والده وبقيت عائلته في رفح جنوب القطاع، وتمكن من التسجيل في السفارة الفلسطينية بمصر.
بعد أيام من وصوله القاهرة حصل على كتبه المدرسية وتابع تعليمه عبر الأونلاين، كما التحق ببعض الدروس الخصوصية كاللغة الإنجليزية والرياضيات.
تحدث لـ”نون بوست” بأن والده اضطر إلى دفع مبلغ 10 آلاف دولار للتنسيق من أجل السفر، بدلًا من أن يضيع عليه العام الدراسي، موضحًا أنه وجد كثير من الطلبة في القاهرة كحالته “اضطر ذويهم إلى دفع المال للالتحاق بامتحان الثانوية العامة”.
وذكر فارس أنه كان ينتظر الثانوية العامة بلهفة ليحصد علامات عليا كأشقائه الأربعة الذين يدرسون الطب والهندسة في مصر وتركيا، موضحًا أنه يجد في كثير من الأوقات صعوبة في التواصل عبر الأونلاين، لكن بإرادته سيتخطى كل الصعاب.
ولفت إلى أنه محظوظ مقارنة بأقارنه في قطاع غزة، مؤكدًا أن التعليم كالمقاومة مهم في مواجهة الاحتلال.
وفي الفترة الأخيرة انتشرت مبادرات تعليمية سواء فردية أم بدعم من مؤسسات أجنبية خاصة في جنوب القطاع، والمستهدف منها هم الأطفال لتأسيسهم في اللغتين العربية والإنجليزية والرياضيات.
معلمة اللغة الإنجليزية داليا السقا، تقول لـ”نون بوست” إنها في مثل هذه الأيام تكون مشغولة على مدار الساعة في متابعة الدروس مع طلبتها سواء عبر الأونلاين أم في مركز تعليمي، لكن هذا العام لا طلبة ولا مدارس أو حتى مراكز تعليمية.
وتشير السقا إلى أنها حاولت وبعض زميلاتها عمل مبادرة في شمال غزة لتعليم الصغار اللغة الإنجليزية وبعض المواد التأسيسية، لكن الوضع لم يكن يسمح لدخول الاحتلال بريًا أكثر من مرة واضطرارها والطلبة للنزوح إلى مناطق أكثر أمنًا.
وتؤكد أنها وبقية المدرسين لا يعلمون شيئًا عن خطة العودة للمدارس وقت انتهاء الحرب، فكل شيء مرتبط بانتهاء الحرب.
لا خطط واضحة لطلبة الثانوية العامة
وقي السياق ذاته يقول إسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إنه في إطار الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يقوم به الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين يأتي حرمان طلبة الثانوية العامة من تقديم الامتحانات النهائية، ما يعني تهديدًا لمستقبلهم الدراسي، مشيرًا إلى أن عشرات آلاف الطلبة من مختلف الفروع كان من المفترض أن يتقدموا للامتحانات في أجواء مستقرة، لكن الاحتلال حرمهم من ذلك ودمر المرافق التعليمية.
ويوضح الثوابتة لـ”نون بوست” أن الاحتلال استهدف بشكل مباشر عشرات الجامعات والمدارس، وذلك ضمن سياسة التجهيل التي يحاول فرضها على الطلبة في مراحلهم الدراسية.
وأكد أن استهداف المرافق التعليمية وحرمان الطلبة من تقديم امتحانات الثانوية العامة يعد جريمة واضحة وفق القانون الدولي، كونها تنتقص من حق الطلاب في التعليم، ومن المفترض ملاحقة الاحتلال في المحاكم الدولية لفرضه سياسة التجهيل ضد الطلبة وتغييب قطاع التعليم عن الوجود.
وأشار الثوابتة إلى أن الاحتلال اغتال نحو ألف مدرس وأكاديمي، محملًا المسؤولية للمجتمع الدولي الذي وقف يشاهد سلسلة الاغتيالات دون إيقاف “إسرائيل”، ما أعطاها ضوءًا أخضر لمواصلة استهدافها لقطاع التعليم.
ولفت الثوابتة إلى أن مرحلة الثانوية العامة في قطاع غزة لها قيمتها، فالأهالي عادة منذ الإجازة الصيفية التي تسبق العام الدراسي يهتمون بأبنائهم عبر الدروس الخصوصية، ونهاية العام يتميز طلبة القطاع بحصدهم معدلات عليا على مستوى الوطن تمكنهم من الالتحاق بالكليات الطبية والهندسية والأدبية الرفيعة سواء داخل غزة أم خارجها.
وذكر أن وقت إعلان نتائج الثانوية العامة تكون هناك حالة من الاستنفار كونه يومًا مميزًا يشبه العيد تمامًا حيث الحلويات التي تنتشر في الشوارع وأصوات الزغاريد التي تصدح من داخل البيوت، لكن اليوم الطلبة يصطفون في طوابير للحصول على الماء والطحين والمعونات الإغاثية وبيوتهم تحولت إلى خيام، حتى إن كتبهم الدراسية أكلتها نيران الاحتلال.
وفي سؤال: هل هناك خطة واضحة لاستيعاب طلبة الثانوية العامة كي لا يضيع عليهم هذا العام؟ أجاب: “بكل صراحة حتى اللحظة لا يوجد شيء واضح أو مخطط له، كل ما يجري الحديث عنه أنه بعد الحرب ستكون الأمور واضحة وستوضع الخطط لاستيعاب الطلبة”.
الشهر المقبل سيمتحن طلبة الثانوية العامة في الضفة المحتلة والقدس، وبعد شهر آخر ستعلن النتيجة فالأول والثاني والثالث وحتى العاشر على مستوى الوطن ليس من غزة كما جرت العادة، أما في غزة النتيجة واحدة وهو الأول مكرر لنحو 40 ألف طالب وطالبة تنافسوا على تعبئة المياه وتوفير الحطب والخبز على فرن الطينة.