توسعت الاحتجاجات الشعبية في معظم مدن وبلدات وقرى سوريا، ثم لم تلبث أن تحولت إلى السلاح في مواجهة آلة القمع والعنف التي تبناها نظام الأسد، بعد أن زجّ بجيشه وقواته الأمنية في مواجهة الشعب الأعزل، قبل أن تتزايد حركة الانشقاقات عن قوات النظام، وتشكيل الجيش السوري الحر أواخر العام 2011، الذي أصبح مظلة عسكرية للثوار المدنيين والمنشقين، ليتمكن من السيطرة على ما يقارب من ثلثي البلاد مطلع العام 2013.
في تلك الأثناء، وفي ظل مزاج دولي وإقليمي عام يؤيد إلى حدٍّ ما المطالب الشعبية، ويساند عملية التحول في المنطقة، فضلًا عن توجه القوى الدولية والعربية لفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد النظام، واستبعاده من مظلة جامعة الدول العربية باعتباره لا يحظى بالشرعية، أخذت عدة جهات سياسية سورية تتشكل كمحاولة لتأسيس مرحلة انتقالية لا يكون للأسد دور فيها، كمشروع البرنامج السياسي للمجلس الوطني السوري عام 2011، الذي أكّد فيه المجلس على إسقاط النظام بكافة رموزه، واستعداده لتسيير المرحلة الانتقالية، وضمان أمن البلاد ووحدتها، وأن شكل الحكم في سوريا الجديدة جمهوري برلماني.
من الانتقال السياسي إلى الرؤية الروسية
انخرطت القوى الإقليمية والدولية مبكرًا في مسار الحل السياسي في سوريا، ودأبت في تصريحاتها على تأكيد فكرة الحل السياسي، فبدأت أولى الخطوات الدولية على طريق الحل السياسي مع بيان جنيف 1 عام 2012، كونه الحجر الأساس الذي ارتكزت عليه القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة المتعلقة بالحل السياسي للقضية السورية على مدى 3 أعوام حتى عام 2015، حيث قضى البيان بتأليف هيئة حكم انتقالي خلال جدول زمني محدد، في ظل بيئة آمنة ومحايدة تؤسّس لحوار وطني شامل يفضي إلى كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
لم يكن خيار التفاوض مع النظام على مائدة قرارات قوى المعارضة، وهو ما ضمنه الائتلاف الوطني، المعترف به دوليًّا حينها كممثل وحيد وشرعي للشعب السوري، حيث أكد في وثائقه التأسيسية حتى عام 2015 أن من ثوابته عدم التفاوض مع نظام الأسد.
في المقابل، لم يبدِ نظام الأسد أي اهتمام بالقرارات الدولية للحل السياسي، بل عمل بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين على التحايل على المسار السياسي وتجييره بأكمله لصالح حساباته الخاصة، مستفيدًا من الدعم الروسي الإيراني لتمكين سيطرته مجددًا على مناطق واسعة من الجغرافيا السورية.
وجاءت سيطرته على حساب قوى الثورة والمعارضة السورية التي تراجعت وانحسرت ميدانيًّا، وفقدت السيطرة على مناطق استراتيجية واسعة لصالح النظام و”داعش”، لا سيما أهم معاقله في حلب أواخر عام 2016، إضافة إلى استثمار النظام سياسيًّا بتوسع تنظيمي “داعش” وجبهة النصرة لوصم الثورة بالإرهاب، فضلًا عن حالة تشرذم المعارضة السورية وقلّة خبرتها السياسية، لا سيما فيما يتعلق بملف المفاوضات.
سعى النظام أيضًا إلى كسر احتكار المعارضة السورية الممثلة بالمجلس الوطني ومن ثم الائتلاف الوطني تمثيلها المعارضة، من خلال استغلاله المكونات السياسية في مناطق سيطرته والمدعومة من قبله، كهيئة التنسيق وأحزاب الجبهة الوطنية، وتسويقها على أنها “معارضة داخلية” وطنية مقابل “معارضة خارجية” مدعومة من أطراف دولية.
روسيا التي وقفت خلف حليفها الأسد سياسيًّا وعسكريًّا لردّ اعتبارها الدولي المهتز، وتأكيدًا على دورها العالمي بوصفها طرفًا أساسيًّا في معالجة القضايا الدولية والإقليمية، نجحت عبر تدخلها العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد عام 2015، بعد أن وفّرت له حماية سياسية في المحافل الدولية، في تحقيق انتصارات عسكرية لصالح النظام بالتنسيق مع إيران.
جرى ذلك بتغاضٍ ضمني غربي وتعاطٍ أمريكي متساهل مع تحركات روسيا وتنسيق الجهود الدبلوماسية معها عبر الأمم المتحدة، وإيجاد قواسم ومصالح مشتركة مع روسيا من ناحية منع انهيار نظام الأسد ووصول تيارات إسلامية إلى الحكم في سوريا، بالتزامن مع تقديم الغرب ممثلًا بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعمًا سياسيًّا وماليًّا محدودًا لقوى الثورة والمعارضة، دون الذهاب بعيدًا بتقديم دعم عسكري للجيش الحر قادر على تعديل ميزان القوى مع النظام.
كل ذلك انعكس بطبيعة الحال على المسار السياسي، وشكّل عامل ضغط على قوى الثورة والمعارضة سياسيًّا من ناحية اضطرارها إلى خفض سقف مطالبها، والدخول في مفاوضات مع النظام، رغم رفضها ذلك في وقت سابق، بل تقديمها في وقت لاحق تنازلًا بعدم المطالبة برحيل الأسد والقبول بخطة الانتقال السياسي، والتركيز على ملف “الإرهاب” وفق مخرجات فيينا 1+2، اللذين عُقدا بالتوالي بعد شهر من التدخل الروسي العسكري.
حيث أكّد البيان الختامي على “وحدة سوريا واستقلالها وهويتها العلمانية، وضرورة بقاء مؤسسات الدولة، وتشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، يعقبها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم”، وتمخّض عنهما القرار 2254 الذي نصَّ على دعوة ممثلي المعارضة السورية ونظام الأسد للدخول في مفاوضات لرسم مسار الانتقال السياسي الذي حدّده بيان جنيف.
هذا المناخ المحلي الإقليمي والدولي المتقلب هيَّأ الجو العام السوري للدخول في مسار طويل من المفاوضات لم تنحصر بالطرفَين التقليديَّين، النظام والائتلاف الوطني، بل هندست تلك التطورات والمتغيرات واقعًا جديدًا استثمرت فيه روسيا وقوى إقليمية أخرى لتأسيس مسارات موازية للمعارضة، مهّدت لظهور المنصات السياسية التي عبّرت عن مقاربات سياسية ورؤى مختلفة عن تلك التي تبنّاها سابقًا الائتلاف، خاصة فيما يتعلق بملفَّي الحكم الانتقالي ورحيل الأسد، وجارت في كثير من الأحيان الرؤية الروسية للحل السياسي.
منصات سياسية
منصة القاهرة، انطلقت في يناير/ كانون الثاني 2015 بدعوة من بعض قوى المعارضة السورية في مؤتمر في العاصمة المصرية القاهرة، بهدف توحيد رؤية المعارضة ومدّ الجسور مع معارضة الداخل، في ظل مقاطعة وغياب الائتلاف الوطني وقوى سياسية أخرى، أبرزها المجلس الوطني وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الجمهورية.
ضمت المنصة عددًا من الشخصيات المعارضة السورية، على رأسها الناطق باسم الخارجية السورية والمنشق عنها جهاد المقدسي والفنان جمال سليمان، وشاركت في مسار مفاوضات جنيف، وانفتحت على منصات سياسية أخرى أُنشئت لاحقًا كمنصة أستانا وموسكو، كما شاركت في مؤتمر الرياض الذي عُقد عام 2017 وحضره 142 شخصية معارضة سورية بهدف التقريب بين أطياف المعارضة السورية، وتحديدًا منصتي موسكو والقاهرة.
وفي أبريل/ نيسان من العام نفسه شُكّلت منصة موسكو برعاية روسية وبحضور وفد عن نظام الأسد بقيادة بشار الجعفري، وبعض القوى السياسية من معارضة الداخل، ومن أبرز شخصياتها رئيس حزب الإدارة الشعبية قدري جميل وعلاء عرفات، حيث ركزت المنصة عمومًا على دور روسيا المركزي في سوريا، وتنادي بمكافحة الإرهاب والتغيير بالشراكة مع النظام.
تلقت المنصتان سيلًا من الاتهامات من القوى المعارضة الأخرى، لا سيما الائتلاف، مفادها محاولة شق صفوف المعارضة، والالتفاف على شرعية الائتلاف في تمثيل الشعب السوري، ومحاباة روسيا ونظام الأسد مع تناغم طروحاتها مع رؤية موسكو ومقاربتها لحل الملف السوري.
عقب سقوط حلب بيد نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أواخر عام 2016، سارعت روسيا وتركيا وإيران إلى استحداث مسار أستانا بهدف “دعم محادثات مباشرة بين النظام والمعارضة، وتدعيم حالة وقف إطلاق النار وإنشاء مناطق خفض التصعيد في عدد من المناطق، وقتال تنظيمَي “داعش” و”جبهة النصرة””، وقد شهدت المسارات عشرات الجولات من المحادثات تخلّلها كثير من اللقاءات والمحادثات وقليل جدًّا من التقدم، مع تجنّب الحديث عن قضايا رئيسية كطبيعة الحل النهائي والانتقال السياسي ومصير رأس النظام بشار الأسد.
روسيا بثقلها العسكري والسياسي نجحت إلى الآن في جعل ملف الحل السياسي السوري محكومًا بشكل كبير بقراءتها ومقاربتها الخاصة، بعد حرفها الملف السياسي عن مساره الأساسي، والهيمنة على القرارت بعد أن استطاعت إطلاق مسارَين سياسيَّين موازَين لجنيف، هما أستانا وسوتشي، ومن ثم اختصار العملية السياسية برمّتها في تحقيق تغيير دستوري تتبعها عملية انتخابية، وهو ما عبّرت عنه اللجنة الدستورية التي تشكّلت عام 2019، ومجاراة بعض الوجوه المعارضة الرؤية الروسية للحل السياسي.
تصرّ القوى الدولية على أن الحل في سوريا سياسي تشاركي بين المعارضة والنظام، بعد ما أصاب الميدان السياسي والعسكري السوري من تغييرات أسهمت في اختلاف رؤى تلك الدول وتعاطيها مع الملف السوري، أبرزها تغير ميزان القوى الميدانية لصالح نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، وتراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري، فضلًا عن التراجع في المواقف الدولية التي كانت في إحدى مراحلها داعمة ومؤيدة لقوى الثورة والمعارضة، وتغيير لهجتها تجاه النظام وجرائمه، حتى الذهاب بعيدًا إلى إعادة العلاقات معه، والتعامل معه وفق ما تتطلبه سياسة الأمر الواقع.
تختلف رؤى ومقاربات القوى المعارضة السياسية والعسكرية حول مستقبل الحل السياسي، والموقف تجاه مسار اللجنة الدستورية الملتزمة بكتابة دستور للبلاد مقابل تهميش فكرة الحكم الانتقالي، مع تصدر معارضة تماهت مع القبول بمرحلة انتقالية بقيادة الأسد، وهو ما يرفضه أساسًا النظام الذي يرى أن الحل هو حل عسكري أمني صفري، لا يمكن أن يتم دون تصفية وجود معارضيه على اختلاف توجهاتهم واختلافاتهم ومشاربهم، في مشهد ينمّ عن كثير من تناقضات أثقلت كاهل السوريين الباحثين عن طريق خلاصهم.