أثر سقوط حيفا ويافا على مصير فلسطين لعقود متتالية، فخلال شهور عدة اختفت المدينتان الساحليتين المتطورتين وطرد سكانهما ونخبتهما السياسية والثقافية والاقتصادية، وكان لهذه لخسارة تداعيات اقتصادية واجتماعية ومعنوية، فبحسب العديد من المؤرخين، كان سقوط المدينتين بمثابة انهيار كامل على جميع الأصعدة، إذ خسر الفلسطينيون تجارتهم ومصانعهم وأهم ممتلكاتهم وكل ما كان سابقًا من حياة ثقافية وسياسية مزدهرة، ونتيجة لذلك تغيرت قواعد القتال في الميدان وانهارت منظومة الدفاع الفلسطينية.
كان نجاح الاحتلال مرهونًا بشكل أساسي بالقضاء أولًا على المدن المزدهرة بفلسطين، مع ملاحظة أن احتلال مدن الساحل أو ما أسماه قادة الاحتلال “التنظيف الساحلي” كان أول أهداف الحركة الصهيونية في بداية الحرب لتدمير ثروة ومراكز المجتمع الفلسطيني المتطورة.
وبالفعل عندما احتلت العصابات الصهيونية حيفا ويافا، استولوا عليهما بكل مقوماتهما، واختفى المركز الذي كان يشع نحو الأطراف، كذلك اختفت النخب والطبقة الوسطى التي كانت بمثابة العمود الفقري للمدينتين، ولم يتبقَ في حيفا ويافا سوى بضعة آلاف من الفلسطينيين الذين زجهم الاحتلال في حارات “غيتو” فيما يشبه السجن العسكري.
في طريق السقوط
يقول المؤرخ والمقاتل الإسرائيلي في حرب 1948، مردخاي بار أون: “كنا نتجسس على القرى العربية لإعداد أنفسنا لليوم الذي كنا نعلم أنه سيأتي، لقد جمعنا المعلومات والصور حول القرى بحيث نهاجمها حين تأتي الفرصة، وكنت جزءًا من هذه العملية”.
وخلال الأيام من الأولى من الحرب، ركز الصهاينة بشكل أساسي على القضاء على كل المشروعات والصناعات المتطورة التي شيدها الفلسطينيون، ولذا كان احتلال حيفا ويافا على رأس أولويات الاحتلال.
ورغم أن المقاومة في المدينتين قاتلت حتى النهاية، إلا أنها دخلت المعركة دون إعداد وعتاد وقيادة موحدة، وهي الفجوة العسكرية التي أدركتها العصابات الصهيونية، إذ كان يدافع عن القرى في معظم الحالات 30-40 شخصًا، ولم يكونوا مدربين أو منظمين، أو محصنين بخنادق أو أشياء من هذا القبيل، وبالتالي كان احتلال جميع هذه القرى سهل المنال بالنسبة للصهاينة.
لكن الضربة المؤلمة للفلسطينيين جاءت من خبر استشهاد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل بالقدس في 9 أبريل/نيسان، وفي نفس يوم مذبحة دير ياسين المرعبة، إذ ترك غيابه أثرًا بالغًا في معنويات الفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، ويعتبر العديد من المؤرخين أن هذين الحدثين في منطقة القدس كانا بداية الهزيمة الفلسطينية.
ورغم أن الهاغاناه والبالماخ ارتكبا عددًا من المجازر في قرية الخصاص وبلد الشيخ وسعسع وأماكن أخرى في شمال فلسطين منذ أواخر عام 1947 وأوائل عام 1948، أي قبل وقت طويل من مذبحة دير ياسين، إلا أن الأخيرة كانت نقطة محورية في عام 1948، إذ يقول مصطفى أبو زيد، أحد الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم في أثناء النكبة: “كانت مذبحة دير ياسين هي الحافز الأكبر للقرى للهروب بأولادها وأطفالها وبناتها ونسائها، كل القرى سمعت بمذبحة دير ياسين”.
عندما نقلت تفاصيل تلك المجزرة وما جرى فيها من حرق جثث الرجال والنساء والأطفال وإذلال وتعذيب مئات الأسرى، انتشر الذعر في صفوف الفلسطينيين. وبالفعل، هددت إذاعة الهاغاناه الفلسطينيين مرارًا وتكرارًا بإعلانها: “تذكروا دير ياسين”، بجانب إرسال رسائل باللغة العربية عبر مكبرات الصوت والملصقات والمكالمات الهاتفية مثل: “ما لم تغادروا منازلكم، فإن مصيركم سيكون كمصير دير ياسين”.
بعد أقل من أسبوع من هذه الأحداث المؤلمة في القدس، انتقل الهجوم الإسرائيلي إلى شمال البلاد، وفي الشهر نفسه، شهد الجليل أحداثًا عسكرية كان لها تأثير حاسم على سير المعارك، إذ احتل الصهاينة عدة قرى في مرج بن عامر وطردوا جميع سكانه.
وبعدها بدأ الصهاينة في احتلال طبريا والقرى التابعة لها، وقتلوا العشرات من أهلها والمدافعين عنها، وكان لأخبار تلك المذابح التي حملها الناجون أثر كبير في معنويات الفلسطينيين، ويشير الكثيرون إلى أن سرعة سقوط المناطق الفلسطينية أذهلت القيادة الإسرائيلية.
وبعد أسبوع واحد من سقوط طبريا وطرد سكانها انهارت المقاومة، وبدأ الاحتلال في القضاء على بوابتي فلسطين فيما يتعلق بالتجارة والتصدير والاستيراد والتصنيع، فجاء أولًا دور حيفا إحدى أهم المدن الفلسطينية، وكانت هذه الضربة أسوأ من كل الذي سبقها، ففي أسبوع واحد وعلى مرأى ومسمع من القوات البريطانية المتمركزة هناك، اضطر معظم سكان المدينة البالغ عددهم 70 ألف نسمة، بالإضافة إلى سكان القرى المجاورة إلى الرحيل.
إن احتلال مدينة بهذا الحجم وطرد سكانها خلال أسبوع واحد جعل الفلسطينيين يدركون فداحة الكارثة التي حلت بهم. وبحلول نهاية أبريل/نيسان، كانت عزيمة الفلسطينيين ومعنوياتهم قد انهارت تمامًا، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر وصول جيوش الدول العربية بحلول منتصف مايو/أيار لإنقاذهم من مأساتهم المتفاقمة.
لكن بعد أيام من سقوط حيفا وتهجير معظم سكانها، بدأ الصهاينة هجومهم على يافا ثاني أهم مدينة ساحلية وأغنى المدن الفلسطينية، التي كانت أيضًا في طريقها للسقوط قبل وصول الجيوش العربية، ولاقت يافا مصيرًا مشابهًا لحيفا واقتلع معظم سكانها تمامًا كما حدث في حيفا، وسقطت المدينتان بوقت مبكر من الحرب، وشكل سقوطهما نحو 25% من النكبة الفلسطينية.
حيفا: القضاء على القلب النابض
يروي المؤرخ وابن مدينة حيفا جوني منصور أن معركة موتسكين في 17 مارس/آذار 1948 التي استشهد فيها قائد حامية حيفا محمد الحنيطي ورفاقه، تركت أثرًا بالغًا في نفوس وقلوب أهالي حيفا، وكانوا في أشد الحاجة إلى السلاح لمتابعة الدفاع عن المدينة وحماية أنفسهم من المليشيات الصهيونية المزودة بكميات كبيرة من الذخيرة.
لكن المليشيات الصهيونية أغلقت جميع مداخل حيفا لمنع وصول الإمدادات، وتعرضت الأحياء والمنازل إلى القصف، وعانى السكان في المدينة والقرى المجاورة من رعب تلك الهجمات.
وكانت الأسابيع الأخيرة قبل سقوط حيفا متوترة للغاية، والأسوأ أن الجيوش العربية لم تكن على استعداد لإنقاذ المدينة رغم مقاومة الأهالي، إذ ساهم التلكؤ في إرسال التعزيزات في سقوط المدينة، ففي حالة حيفا، كما في حالات أخرى عام 1948، كانت الفجوة العسكرية بين الفلسطينيين والصهاينة واضحة، سواء على صعيد المعدات الثقيلة والأسلحة، أو على صعيد الخبرة القتالية.
ولحث الأهالي على ترك بيوتهم وأملاكهم وقراهم، روج الصهاينة لمعلومات دعائية عن أنهم سيقومون بتنفيذ مجازر مشابهة لمجزرة دير ياسين التي كان صداها في حيفا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية رهيبًا للغاية. وتزامن ذلك مع تأكيدات القيادة البريطانية في المدينة للأهالي بضمان عودتهم إلى مدينتهم بعد أسبوعين، وأن تهجيرهم هو لحمايتهم.
قبل المعركة الأخيرة بين الهاغاناه والمقاومة الفلسطينية بحيفا، استدعى جنرال المدينة البريطاني القيادة الصهيونية وأخبرهم برغبته في تسليم المواقع الإستراتيجية والقواعد الحربية المنتشرة في المدينة وضواحيها بما في ذلك تسليم الميناء والمطار، وبالتالي ساعد التنسيق البريطاني الصهيوني على سيطرة الاحتلال على مواقع إستراتيجية بالمدينة بجانب استيلاء الصهاينة على الأسلحة والذخائر.
إلياس كوسا الذي كان عضوًا في الوفد العربي ذهب لرؤية الجنرال البريطاني هيو ستوكويل في 22 أبريل/نيسان 1948 لمحاولة تأمين وقف إطلاق النار وإنقاذ السكان في حيفا، وشهد بنفسه خروج عشرات الآلاف من الفلسطينيين المذعورين من المدينة، وسجل في رسالة أن رئيس بلدية حيفا دعا السكان إلى عدم مغادرة المدينة.
لكن هذه الدعوة لم يكن لها أي تأثير لأن مقاتلي الهاغاناه كانوا في ذلك الوقت يمطرون الأحياء العربية بالرصاص والقنابل لدفع العائلات إلى الميناء، وكانت السفن تنتظر لنقل الأهالي، ويذكر جوني منصور أن السفن استأجرتها الهاغاناه لنقل السكان بشكل جماعي إلى دول أخرى، في تطهير عرقي واضح.
أجبر الإرهاب الصهيوني الذي مورس ضد حيفا العديد من السكان إلى الفرار، ويوضح جوني منصور أنه لم يكن أمام أهل حيفا خيار سوى الرحيل أو الموت، فتم إجلاء النساء والأطفال قدر الإمكان ودون أخذ أدنى الأمتعة.
وهكذا اضطر الأهالي إلى المغادرة باتجاه الميناء وركبوا السفن هربًا من فرق الإعدام والقصف والمجازر المرتكبة ضد القرى والبلدات واستهداف المدنيين العزل في منازلهم، تمامًا مثلما فعلت الطائرات والدبابات المقاتلة الإسرائيلية في غزة خلال الأشهر الـ7 السابقة.
وبعد أن اضطر غالبية أهل حيفا إلى الفرار من أحيائهم تحت النار، استولى الاحتلال على اقتصاد المدينة وصادر الأراضي والممتلكات، ودمر هوية المدينة بالكامل، إذ لم يهدر الصهاينة أي وقت في سلب وهدم منازل الفلسطينيين حتى لا يكون لديهم ما يعودون إليه، كما هدموا الكثير من المنازل والآثار بما في ذلك أحياء تاريخية بأكملها مثل حي روشميا وحي وادي الصليب الذي عاش فيه فلسطينيون لقرون.
وفي مذكراته، يروي بولس فرح أحد أبرز قادة “عصبة التحرر الوطني” في عهد الانتداب البريطاني، الظروف الصعبة التي مرت بها حيفا بعد سقوطها، وكيف غادر بنفسه المدينة متوجهًا إلى الناصرة، وفي أثناء إقامته في الناصرة أخبره توفيق الطويل أن اليهود فتحوا المتاجر والمنازل والمكتبات عنوة ونهبوا كل ما فيها.
توقفت حيفا تمامًا عن حياتها التي اشتهرت بها بعد أن سقطت وفقدت معظم سكانها الفلسطينيين، بمن فيهم النخب الاقتصادية والثقافية، ولم يتبقَ في المدينة سوى 3 آلاف من أصل 75 ألف، وكما يروي جوني ليست المسألة في تدمير حي هنا وآخر هناك، بل في تمزيق نسيج المجتمع وتفتيته وبعثرته بحيث لا يبقى له شكل ولا لون.
لكن حتى الثلاثة آلاف الذين بقوا في حيفا جمعهم الاحتلال في حي وادي النسناس فيما يشبه معسكرات الاعتقال، كما أجبر العديد من العائلات الفلسطينية على العيش مع عائلات الصهاينة في منزل واحد، وعاش هؤلاء الفلسطينيون في ظل عزل مكاني تحت حكم عسكري حتى عام 1966، وعندما غادروا المناطق المفروضة عليهم، وجدوا أن منازلهم قد سرقت وأُعطيت للمستوطنين اليهود.
يافا: اغتصاب عروس البحر
بعد أيام قليلة من سقوط حيفا واقتلاع غالبية سكانها الفلسطينيين في نهاية أبريل/نيسان 1948، أصبح من الواضح أن ميزان القوى يتجه لصالح الصهاينة.
ورغم أن يافا شهدت قتالًا طويلًا منذ 1947، وشارك بالدفاع عنها عرب وأجانب من تركيا وألمانيا وكوسوفو، ومعظمهم جاءوا بدوافع نصرة القضية الإسلامية التي كان الحاج أمين الحسيني أهم رموزها.
وبينما كانت الجيوش العربية تنتظر انسحاب بريطانيا من فلسطين، بدأ الصهاينة هجومهم على يافا مركز الصناعة والتجارة والثقافة بفلسطين وثاني أهم مدينة ساحلية، ورغم وجود قرى فلسطينية في جوار يافا، فإن المدينة وقراها أصبحت محاصرة بالمستوطنات اليهودية.
حامية يافا 1948
لذا كان غالبية الفلسطينيين على قناعة بأن مدينتهم لن تصمد طويلًا في وجه زحف القوات الصهيونية، ومع ذلك تظهر الروايات المتاحة عن تهجير الفلسطينيين من يافا، أن السكان كانوا متوقعين العودة إلى مدينتهم بمجرد أن تهدأ الأمور واستمروا في الهجرة برًا وبحرًا هربًا من تفجيرات الأسواق والمنازل التي قام بها الصهاينة.
أحد المهاجمين الصهاينة على يافا يروي أنهم نشروا شائعات بأنهم سيرتكبون مذابح رهيبة في المدينة، وأكد العديد من المؤرخين وجود مخطط مدروس من العصابات الصهيونية لتهجير أهل يافا بالكامل، وهو ما ورد أيضًا على لسان العديد من القادة الإسرائيليين.
عبر أمين الحسيني في مذكراته عن شعوره بالأسى والظلم من سقوط يافا، ويذكر أنه طالب من جامعة الدول العربية تسليح المجاهدين المدافعين عنها تسليحًا وافيًا وبشكل سريع، لكن أحد المسؤولين العرب قال له: “لا ضرورة لتسليح يافا البتة، لأن قرار التقسيم جعل يافا في المنطقة العربية، فلا خوف عليها مطلقًا من اعتداء اليهود”.
وبعد تهجير غالبية سكان يافا، شجع البريطانيون القيادة العربية المتبقية في المدينة على توقيع اتفاقية استسلام مع الهاغاناه في 13 مايو/أيار. وهكذا سقطت يافا بمساعدة البريطانيين واستسلمت للهاغاناه، وكانت الإنجاز الأكبر الذي حققه الصهاينة قبل مساء اليوم التالي من إعلان دولتهم في تل أبيب.
وبعد أن عاش في يافا 120 ألف فلسطيني قبل النكبة، قامت الميليشيات الصهيونية في يافا والرملة واللد وألويتها بتهجير 97% من السكان في عام 1948 إلى خارج حدود الوطن. لقد عانى أهل يافا معاناة شديدة من جراء عملية التهجير وترك محلاتهم التجارية ومصانعهم وهدم قراهم بشكل سافر، حيث تم تهجير 29 قرية.
وبعد التهجير والتطهير العرقي توقفت الحياة في يافا ولم يتبقَ فيها سوى 3900 نسمة، وهؤلاء حسبما يروي الباحث الفلسطيني سامي أبو شحادة، حُشروا في منطقة مغلقة بحي العجمي وبنيت حولهم أسلاك شائكة وكأنهم في سجن.
يافا في بطن الحوت
قضى الاحتلال على يافا من جميع النواحي، الدمار كان في كل حارة وشارع، كما كان الدمار الثقافي الذي تعرضت له المدينة لا يوصف، محيت معالم يافا الفلسطينية، وحاراتها العربية أصبحت حارات يهودية، كما حول الاحتلال أحياء بأكملها بعد هدمها إلى حدائق ومناطق ترفيهية لليهود الأثرياء، وخصصت بيوت المدينة القديمة للفنانين الصهاينة.
وحتى المقدسات الإسلامية تم الاستيلاء عليها وبناء مجمعات سكنية للمستوطنين مكانها، واستولت مجموعات يهودية على مقام النبي روبين وهودته، أما المسجد المجاور فتهدم وما زالت بعض آثاره ماثلة للعيان.
وفي مدة قصيرة جدًا حل المستوطنين اليهود مكان السكان الأصليين، وبغصة عميقة يروي الشاهد المسن إسماعيل أبو شحادة وهو من مدينة يافا، كيف قضى الصهاينة على الحقول التي نما فيها البرتقال، بجانب اقتلاع الأشجار التي زرعها والده لعدة سنوات وتسبب هذا الأمر في وفاة الأخير بسبب حسرة القلب.
لقد تم تغريب المدينة بالكامل، يافا كمدينة فلسطينية قُضي عليها فعليًا عبر قوانين ومشروعات تهويدية، بجانب قطع التواصل بين الأقلية الفلسطينية عن طريق زرع المستوطنات اليهودية بين بيوتهم. وحتى اليوم لا يزال ما تبقى من سكان يافا الفلسطينيون يشعرون بالغربة لأنه تم القضاء على مدينتهم التي تحولت إلى مدينة إسرائيلية.
يقول أحد سكان يافا الفلسطينيين الذين شهدوا النكبة: “بعرف يافا عز ومجد وازدهار ونوادي وناس وعائلات، اليوم لم يبقَ أي شيء، كل شيء ميت مش موجود، واليوم أنا في بيتي بشعر براحة، لكن عندما أذهب للخارج، أشعر بأني غريب، بلدي وغريب فيها”.
يافا.. ذكريات ملونة
في النهاية محيت المجتمعات الفلسطينية من أرضها، وتشتت النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطيني وتحول الغالبية إلى مشردين بعد أن عاشوا في وطنهم لقرون. وتؤكد الوثائق أن الجيش الإسرائيلي في أثناء النكبة ارتكب ما يزيد على 110 مجازر، ومع ذلك فقد استمرت سياسة المجازر والتهجير الجماعي للسكان صغارًا وكبارًا من أراضيهم حتى عام 1956 على الأقل، وأصبح تشتت الفلسطينيين ورفض السماح لهم بالعودة هدفًا رسميًا وسياسة فعلية للاحتلال.
ويعتبر العديد من المؤرخين أن قدرة الفلسطينيين على القيام بعمل سياسي فعال بعد النكبة كانت محدودة للغاية، إذ إن الاحتلال قطع أوصال التطور الاجتماعي ومزق وجود الشعب بالكامل، ودمر حياة 800 ألف فلسطيني وأحفادهم لأجيال عدة.
لا سيما أن “خطة دالت” أو “الخطة د” التي شنها الصهاينة في أنحاء فلسطين منذ أوائل أبريل/نيسان لم تكن فقط خطة لاحتلال المدن والقرى، كانت بالأساس إستراتيجية للاقتلاع والاحتلال أو تطهير المجتمع الفلسطيني من أجل أن تنشأ دولة “إسرائيل”. وعلى حد تعبير المؤرخ اليهودي آفي شلايم، فقد كان تفكيك المجتمع الفلسطيني في 1948 شكلًا من أشكال الكارثة وجرائم الحرب.