لئن لم تتمكن الجزائر بعد من إنتاج فلسفة جزائرية خاصة بها تستجيب لبيئتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية بعيدًا عن صدى المذاهب الفلسفية الأوروبية، فقد أنجبت العديد من الفلاسفة الذين أسهموا بدرجات متفاوتة في وضع أسس لفلسفة تحاكي المجتمع.
مالك بن نبي.. أحد أعمدة الفكر النقدي التحليلي
أبرز هؤلاء الفلاسفة، مالك بن نبي الذي ولد عام 1905 في مدينة قسنطينة شرق الجزائر، تشكل فكره في البداية من قراءاته متسعة الأفق باللغة العربية واللغة الفرنسية، وتأثرت فلسفته بالفيلسوف الفرنسي ديكارت، إلا أنه كان له طابعًا روحانيًا فلسفيًا خاصًا به وحده في كتاباته.
يعدّ أحد أعمدة الفكر النقدي التحليلي المهمة في العالم العربي والإسلامي، بحيث يعتبر سابقة في مجال صياغة النظريات الفكرية الفلسفية، وفي مجالات كثيرة منها الثقافة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلوم أخرى، يعتبر الرجل من أهم المنظرين للنهضة العربية الإسلامية، وله في ذلك مؤلفات كثيرة، أشهرها: الظاهرة القرآنية.
كان كتاب “شروط النهضة” من أهم ما ألف مالك بن نبي، عن مفهوم الحضارة التي عرّفها بن نبي بـ”الإنسان + التراب + الوقت”
جمع في كتاباته بين دقة الحسابات وصرامة المناهج وحركة الأحداث السياسية والاجتماعية، وعليه جاءت لغته بسيطة تقترب من الذهن البسيط، وعميقة تقترب من العقل العلمي، ومترابطة بحيث تشكّل نسقًا متكاملاً الأركان يمد جسرًا متينًا إلى روح الفرد ويتوغل في النفسية انطلاقًا من المرجعية الدينية والأساس العلمي، ووصولاً إلى الأرضية الثقافية المعيشية للواقع بتجلياتها كافة.
يظهر أسلوبه العلمي بشكل جليّ في عنصر “العمل”، وهو يستعمل مصطلحًا خاصًا في هذا الصدد ألا وهو “المنطق العملي”، أي أنه يضع الإنسان “الكائن الروحي” بين الروح والمادة، وهي قضية فكرية فلسفية قائمة باستمرار، ففي هذا الخصوص يرى مالك أن العمل أرقى صور الحضور البشري في هذا العالم، والفرد العامل هو الفرد الفاعل بشكل إيجابي في محيطه، لذا فإن طول عمره ودوام نشاطه عوامل تساعد المجتمع على الارتقاء إلى النهضة “المسؤولة” أمام حركة التاريخ وآثار الزمن.
مالك بن بني
ارتكزت فلسفة مالك بن نبي على أسلمة الحداثة وليس تحديث الإسلام، ذلك لوصفه المدنية الحديثة بتعبير اتفق فيه مع سيد قطب وهو “الخواء الروحي للمدنية الغربية”، حيث اتفق معه أيضًا على أن الدين جزء لا يتجزأ من مشروع الإنسان، حيث كان دومًا يستعمل عبارة “التجديد بالإسلام، لا تجديد الإسلام”.
كان كتاب “شروط النهضة” من أهم ما ألف مالك بن نبي، عن مفهوم الحضارة التي عرّفها بن نبي بـ”الإنسان + التراب + الوقت”، بالإضافة إلى الفطرة الدينية التي تُشكل الشبكة التي تربط كل تلك العناصر، كان ذلك بالإضافة لكتابه “الفكرة الآفروآسيوية” الذي انتقد فيه مسار تعطيل الثقافة الإسلامية بكل عناصرها، فأوضح أن الأفكار الجيدة إذا عُطلت تموت، بل تصير قاتلة، وآمن بالجدوى الاقتصادية لحياة المسلم فكتب “المسلم في عالم الاقتصاد”، وآمن كذلك بفكرة مسؤولية المجتمع في التغيير، فطور مفهوم “سوسيوليجية الثورة”.
حمودة بن ساعي.. الفيلسوف المهمّش
إلى جانب مالك بن نبي، نجد أيضًا أستاذه حمودة بن ساعي الذي همش في حياته وموته وبعد وفاته، ولد سنة 1902 بمدينة باتنة الجزائرية، من عائلة محافظة، حيث استهل دراسته في الكتاتيب قبل أن يلتحق بدروس الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة رفقة أخيه صالح الذي يعد حسب بعض الشهادات أول مهندسًا زراعيًا في الجزائر، ثم انتقل إلى العاصمة الفرنسية باريس للدراسة هناك في جامعة السوربون بعدما أبان عن فكر موسوعي يجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والاطلاع بحذر على الثقافة الغربية مع تركيزه على التوجه الإصلاحي المحافظ.
توفي حمودة بن ساعي عام 1998 عن عمر يناهز 96 سنة، دون منزل يؤويه رغم أنه كان مثقفًا مزدوج اللغة
اضطر حمودة بن ساعي للعودة إلى أرض الوطن دون أن يستكمل دراسته، ويجمع الكثير من المتتبعين والمهتمين على تميز أسلوبه في الكتابة وترجمة أفكاره ومتاعب شعبه وقال في هذا الشأن: “لم أستطع أن أكون اسمًا أدبيًا لأن الاستعمار منعني من ذلك وأراد لي حياة البؤس”.
ورغم التهميش الذي حرم باتنة والجزائر من فيلسوف كبير على خطى رفيق دربه مالك بن نبي، فإنه لم يبق مكتوف الأيدي وكان يطمح في نشر العديد من الكتب التي ألفها على غرار “في خدمة الجزائر” و”في خدمة الإسلام” إضافة إلى كتاب بعنوان “كتابات حول ذكريات الشباب” وآخر هو “مذكرات رجل عانى الكثير”.
حمودة بن ساعي
توفي حمودة بن ساعي عام 1998 عن عمر يناهز 96 سنة، دون منزل يؤويه رغم أنه كان مثقفًا مزدوج اللغة، وفضل أن يوظف اللغة الفرنسية كغنيمة حرب، كما كان يملك معرفة عميقة في الثقافتين الإسلامية والغربية، وحاضر في فرنسا ونادي الترقي بالجزائر العاصمة.
ويجمع العديد من المهتمين بفكر بن ساعي أنه كان يؤمن بالفعل الثقافي وبفضيلة الحوار، وكان يعطي أهمية قصوى لدور النخب، لكنه مات في عزلة بعيدًا عن الأضواء، حيث ترك عددًا من المقالات والمؤلفات، إضافة إلى مذكراته التي لم تنشر.
كريبع النبهاني.. فيلسوف المرأة
ولد النبهاني سنة 1917 في مدينة أولاد جلّال في محافظة بسكرة (جنوب شرق الجزائر)، وبدأ تعليمه في مدرستها القرآنية ثم المدرسة الابتدائية في بسكرة، قبل أن ينتقل للعاصمة الجزائر، حيث أكمل تعليمه الإعدادي والثانوي، وفي نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، حصل على شهادة البكالوريا من “ثانوية لويس لوغرا” في باريس، قبل أن يحصل على البكالوريوس في الفلسفة.
ترك النبهاني الذي توفي سنة 2004 رصيدًا كبيرًا في الفلسفة والفكر والشعر، ومن أعماله “قصائد طفل” (1935)
ينتقد نبهاني حبس المرأة في البيت وعدم تعليمها، وقد استعرض في كتابه “الأفارقة يتساءلون” الذي صدر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين تفاصيل حياة المرأة في ثقافات شمال إفريقيا منذ الطفولة مرورًا بالمراهقة إلى سن الزواج ثم بعد الزواج في بيت زوجها، كما ينتقد البنية الأبوية للأسرة من خلال أسرة جدّه التي كانت تتكون من نحو عشرين فردًا.
كريبع النبهاني
إضافةً إلى مساهماته في الصحف والمجلاّت، ترك النبهاني الذي توفي سنة 2004 رصيدًا كبيرًا في الفلسفة والفكر والشعر، ومن أعماله “قصائد طفل” (1935) و”أحزان العربي” (1954) و”إنسان عالمي” (1966) و”إسلام واشتراكية” (1972) و”فلاسفة الإسلام” (1984) و”الخير والشر في مفهوم القرآن” (1984)، كما حاز على عدّة جوائز وتكريمات، منها “جائزة المثقّفين الفرنسيين” (1953) و”جائزة الأكاديمية الفرنسية“(1954).
الأمير عبد القادر.. فيلسوف الثورة
ولد الأمير عبد القادر في 15 من سبتمبر 1807، في قرية القيطنة بولاية وهران الجزائرية، يعود أصله للأدارسة الذين كانوا ملوكًا في المغرب والأندلس، قرأ لأفلاطون وفيثاغورث وأرسطو، ودرس كتابات مشاهير المؤلفين من عهود الخلافات العربية، كما قرأ عن التاريخ القديم والحديث، وعن الفلسفة واللغة والفلك، بل حتى الطب، وتشرب التصوف من كتب محيي الدين بن عربي وابن سينا وغيرهما.
خلال إقامته بالشام، استطاع عبد القادر أن يؤلف موسوعته الجامعة “كتاب المواقف”، تناول القضايا العويصة في الفكر الإسلامي وبث فيها آراءً إصلاحية
سنة 1832 والسنوات التي تلتها قاد معارك كبرى ضد المحتل الفرنسي إلى أن استسلم عام 1947، بعد أن حاصره الفرنسيون وسلطان المغرب، فتم نفيه إلى في مدينة طولون الفرنسية سنة 1848، ومنها نقل إلى سجن بمدينة بو في الجنوب الفرنسي ثم في آمبواز بإقليم اللوار.
لكن رئيس الجمهورية الفرنسية لويس نابليون قرر فيما بعد إطلاق سراحه، فسافر إلى تركيا في 2 من ديسمبر 1852، ومنها انتقل إلى سوريا واستقر بمدينة دمشق بداية من 1855، حيث قام بالتدريس في المسجد الأموي.
وخلال إقامته بالشام، استطاع عبد القادر أن يؤلف موسوعته الجامعة “كتاب المواقف”، تناول القضايا العويصة في الفكر الإسلامي وبث فيها آراء إصلاحية، وكان تأليف هذا الكتاب الضخم، حصيلة لثقافة الأمير الصوفية واستجابة لطلب بعض العلماء الذين التمسوا من الأمير أن يدون لهم ما يلقيه من دروس وما يتكلم به في مجالسه.
محمد أركون.. نقد العقل الإسلامي
ولد محمد أركون يوم 1 من فبراير/شباط 1928 (توفي سنة 2010) بقرية تاوريرت ميمون بولاية تيزي وزو في منطقة القبائل الكبرى، ونشأ في عائلة أمازيغية فقيرة، بدأ تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، والتحق بوالده في محافظة عين تموشنت بالغرب الجزائري وهو في التاسعة من العمر، فتعلم العربية والفرنسية.
اشتغل بنقد العقل الإسلامي من خلال دراسة النصوص الدينية وأصول الفقه التي أصلها علماء الشريعة الإسلامية على مدار القرون الثلاث الأولى
بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة لعائلته لم يتمكن من السفر إلى العاصمة الجزائر لمواصلة تعليمه الثانوي، فدرس في ثانوية يشرف عليها الآباء البيض (نخبة من المعلمين ذوي النزعة التبشيرية) بولاية وهران ما بين (1941-1945)، استكشف في تلك المرحلة الثقافة والأدب اللاتينيين، وتعرف القيم المسيحية وآباء الكنيسة الإفريقية تورتوليان وسوبريانوس وأوغسطينوس، حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة في يونيو/حزيران 1969 من جامعة السوربون.
اشتغل بنقد العقل الإسلامي من خلال دراسة النصوص الدينية وأصول الفقه التي أصلها علماء الشريعة الإسلامية على مدار القرون الثلاث الأولى، التي جسدت حينها قدرة العقل الإسلامي على التحليل والتفسير والاستقراء والاستنباط، وظلت تلك الأصول – حسب رأيه – فيما بعد قوانين مقدسة لا يمكن تغييرها بتغيير الظروف التاريخية والاجتماعية، ولذلك سعى أركون وحاول فهم النص الديني من خلال تركيبته الأدبية والقرائن التي تحفه.
محمد أركون
ألف باللغة الفرنسية العديد من الكتب أبرزها “الفكر العربي” ترجمه الدكتور عادل العوا إلى العربية و”الإسلام بين الأمس والغد” ترجمه علي مقلد و”تاريخية الفكر العربي الإسلامي” و”الفكر الإسلامي قراءة علمية” و”الإسلام والأخلاق والسياسة” و”الفكر الإسلامي نقد واجتهاد” و”استحالة التأصيل”.
كما ألف “نزعة الأنسنة في الفكر العربي” و”من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي” و”معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية” و”قضايا في نقد العقد الديني” و”العلمنة والدين” بالإضافة إلى مقالات ودراسات متعددة.