ربما يظنّ الكثير من السياح القادمين لإسطنبول أنّ الجزء الأوروبي من المدينة هو الأكثر حيوية واستحقاقًا للزيارة أو الاستكشاف، ولهذا السبب يميلون للبقاء هناك، دون أنْ يفكروا في الذهاب للجانب الآسيوي واستكشاف خباياه والتعرّف على ما فيه.
لكنّ منطقة كاديكوي الآسيوية، أو كما تُعرف بالمركز الثقافي للجانب الأناضوليّ، حتمًا تستحق الزيارة، وستجد فيها تجربةً جميلة وطاقةً هائلة تنتشر في هوائها من سكان المنطقة أو المتجولين في أرجائها، إذ ينتمي معظمهم للجيل الشابّ المليء بالطاقة والحيوية، دون أن تعرف كيف ولماذا.
كاديكوي منطقة كبيرة مكتظة بالسكان تقع في الجزء الآسيوي لمدينة إسطنبول على الساحل الشمالي لبحر مرمرة، يرجع تاريخها إلى العصر النحاسي، أي إلى 5500-3500 قبل الميلاد، وفقًا للآثار والحجارة والعظام والمجوهرات التي تمّ العثور عليها في منطقة فكرتبه “Fikirtepe” تحديدًا، وبذلك كما يعتقد المؤرّخون تكون كاديكوي قد شكّلت المستعمرة الأقدم في منقطة آسيا الوسطى.
أما في البداية/ فكانت خلقدون “باليونانية Χαλκηδών” أول مستوطنة أنشاها الإغريق عام 685 قبل الميلاد، أي قبل بضع سنوات من تأسيس بيزنطة وقيام القسطنطينية على الجانب الآخر من المضيق، أي عام 667 قبل الميلاد.
مرّت خلقدون بتغييرات كبيرة وجذرية مرارًا وتكرارًا، حيث تعاقب عليها لاحقًا الفرس والبيثينيون والرومان والبيزنطيون والعرب والصليبيون وأخيرًا العثمانيّون. ويُقال أنّ التغير الأكبر حدث خلال الحملة الصليبية الرابعة على المنطقة، والتي ألحقت بها ضررًا كبيرًا غيّر من معالمها بشكلٍ واضح إلى أن وقعت في أيدي العثمانيين عام 1353، أي قبل قرن كامل من فتح القسطنطينية. ووفقًا لذلك، يُقال بأنّ كاديكوي تحوي أقدم جامعٍ أنشأه العثمانيون في إسطنبول.
المنطقة التي كانت مستوطنة ريفية خارج حدود المدينة، سارع العثمانيون بضمّها فوُضعت تحت ولاية محاكم إسطنبول، وحملت اسم قاضي كوي، أي قرية القاضي، وشيئًا فشيئًا تحولت سوقًا مركزيًّا للسلع الزراعية الأمر الذي ساعد في تحويلها لمنطقة سكنية يقصدها الأفراد للعيش والعمل، خاصةً أولئلك الذين يأتون للمدينة عن طريق البحر.
وقد كان سكّان المنطقة آنذاك مثالًا للمزيج العثماني القسطنطيني المُتعارف عليه في ذلك الوقت؛ فسكنها في ذات الآن كلٌّ من الأكراد والأرمن واليونانيين والألبان واليهود والأتراك، لذلك ليس غريبًا أن تجد أثناء تجوالك فيها الآن العديد من الكنائس اليونانية والأرمنية والصربية والكاثوليكية والبروتستانتية، والمعابد اليهودية، التي تقف جنبًا إلى جنب مع الجوامع العثمانية القديمة والتركية الحديثة.
ومع مرور السنوات، أصبحت كاديكوي تتبع لبلدية أسكدار، أحد أجزاء إسطنبول الآسيوية أيضًا، إلى أنْ تمّ فصلها عنها عام 1928 فباتت تشكّل بلدية منفصلة، بأحيائها ومجلسها البلديّ وثقافتها الخاصة، ففي حين تشكّل أسكدار الجزء الملتزم اجتماعيًّا وتعكس الطابع التقليدي الشعبي لإسطنبول، تميل كاديكوي لتكون أكثر حيويةً وأقرب اتصالًا بالثقافة الأوروبية، الأمر الذي يمكنكَ استشفافه من شوارعها ومقاهيها ومكتباتها ومسارحها، ولهذا السبب ربّما يميل الأجانب للمعيشة هناك، فليس من النادر أبدًا أن تسمع اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية أثناء تجوالك في المنطقة، على عكس أسكدار تمامًا.
محطة حيدر باشا: شاهد قديم على حلمِ الوحدة الإسلامية
تُعدّ محطة “حيدر باشا” للقطارات أحد المعالم التاريخية القديمة وربّما اشهرها في كاديكوي، إذ انطلقت منها أول رحلة إلى بغداد عام 1908 بعد أن وضع السلطان عبد الحميد الثاني حجر الأساس للمحطة قبل ذلك بعامين. ثمّ شكّلت حيدر باشا بداية خط السكة الحديدية الواصل بين إسطنبول وبغداد، مرورًا بدمشق والقدس والمدينة.
أمّا “حيدر باشا” فهو أحد قادة السلطان سليم الثالث، الذي عُرف بشجاعته وإخلاصه للدولة العثمانية، التي ما كان منها إلا تقديره بإطلاق اسمه على المحطة.
دُشّنت المحطة برعاية إحدى الشركات الألمانية التي أضافت إليها ميناءً لتحميل وتنزيل المقطورات المحملة بالبضائع، لتكون المحطة تجارية إلى جانب كونها محطة نقل ركاب، الأمر الذي لم يكن السلطان عبد الحميد قد خطط له لكنه قبل الفكرة فيما بعد وأثنى عليها.
وقد تعرضت المحطة إبان الحرب العالمية الأولى لانفجار ضخم نتيجة اشتعال مخزن للأسلحة كان موجودًا بجانبها، واستمرّ ضررها سنين عديدة، حتى بدأت عملية إصلاحها وترميمها في عام 1976 على يد المهندسين الألمانيين أوتو ريتار وهالموث كونو، وانتهت عام 1983 لتصبح على حالها الذي هي عليه اليوم، قريبةً من شكلها المعماريّ الأصليّ.
كما تعرضت المحطة لحريقٍ ضخم عام 2010، أفقدها سقفها الأصلي، إلا أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، شاهدةً على أحد المشاريع الكبيرة التي حملت شعار الوحدة الإسلامية التي كان يسعى إليها السلطان عبد الحميد الثاني.
تتميز المحطة بطرازها المعماري الشرقي الغربي، فقد استُلهم شكلها المعماريّ من الطراز العثماني الممزوج بالطراز الباروكيّ الأوروبي، فمن جهة تعكس مناراتها الفنّ المعماري الغربي، أما الخطوط والكتابات والنوافذ فهي عربية، وقبابها عثمانية. وقد توقفت المحطة عن العمل عام 2012 بسبب أعمال تطوير لسكك الحديد الخاصة بها، والتي تهدف إلى تحويلها لمحطة قطار سريع بين إسطنبول والمدن التركية الأخرى.
تجربة لذيذة في السوق الشعبي الكبير وشارع مودا
أما إن واصلت المشي نحو مركز المنطقة، فستجد أمامكَ سوقًا شعبيًّا كبيرًا، يعود لبدايات القرن التاسع عشر ويعدّ واحدًا من أقدم أسواق إسطنبول وأكثرها حيوية، ويحتوي على العديد من محلات المواد الغذائية والأسماك والخضروات والكتب والأشياء القديمة والصابون والزيوت الطبيعية. بالإضافة إلى المطاعم التي تتوزع على جوانبه وبين أزقته وتقدّم أصنافًا متنوعة من الأسماك الطازجة والمأكولات البحرية والأطباق التركية الشعبية.
ونتيجةً للتنوّع الديموغرافي الذي مرت به المنطقة، فستجد انعكاس ذلك على أسواقها ومطاعمها، فتارةً ما تجد أمامك متجرًا للموسيقى الشعبية وآخر للموسيقى الغربية الحديثة، أو للوحات الفن والملصقات والأفلام، أو محلات الوشوم والأشياء البوهيمية الغريبة، كلّ ما عليك فعله هو المشي بين أزقة المكان وجنباته لتكتشف التنوّع الكبير الذي يحويه.
ولعلّ شارع مودا “Moda” القريب من السوق الشعبي، هو أكثر الشوارع حيوية والتي تستحق الزيارة، نظرًا للكم الهائل من المقاهي والمطاعم التي صُمّمت جميعها على طراز فريد يختلف عن غيره ويعكس صورة وهويّة خاصة مميزة، وبذلك تحظى بفرصة اكتشاف المكان وأناسه.
كما لا تنسَ مشاهدة القطار النوستالجي القديم، النسخة الآسيوية لذلك الموجود في شارع الاستقلال، والذي يربط مركز كاديكوي بشارع مودا والأحياء الداخلية للمنطقة.