منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، برز الصحفي والشخصية التلفزيونية بيرس مورغان كأحد أشهر مقدمي البرامج الشعبية التي تناولت الحرب على غزة في وسائل الإعلام الغربية، ومن خلال برنامجه “بدون رقابة (Uncensored)” قدم مورغان بثًّا يوميًّا على قناة Talk TV المملوكة لقطب الإعلام الشهير روبرت مردوخ.
في الكثير من حلقاته، يدّعي بيرس مورغان أنه رجل عقلاني ينتمي إلى “الصحافة الموضوعية”، وللتدليل على مهنيته وحسن نواياه يتباهى باستضافته عددًا كبيرًا من الأصوات المؤيدة للفلسطينيين أكثر من أي شخصية إعلامية غربية أخرى، كما يزعم أنه أعطى الصوت الفلسطيني وقتًا ومساحة عادلة مساوية للصوت الإسرائيلي، وأنه من خلال هذه التوليفة قدم تحليلًا متوازنًا عمّا يجري في غزة، فما هي حقيقة هذا الادعاء؟
حرب الاستجواب: انتزاع الكلمات من الأفواه
في معظم مقابلاته ومنذ بدء الحرب على غزة، يسأل بيرس مورغان الضيوف المؤيدين للفلسطينيين السؤال الروتيني عمّا إذا كانوا يدينون حماس وما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وهذا السؤال يطرحه مورغان مرارًا وتكرارًا في الحلقة الواحدة، لدرجة أنه في حلقة مدتها 18 دقيقة سأل أحد الضيوف هذا السؤال 15 مرة.
إن هذا السؤال المتكرر في أغلب الحلقات والطريقة التي يقدمه بها بيرس مورغان منذ بداية المقابلة يحملان أهمية كبيرة، فالسؤال يقدَّم كتحديد للخير والشر، فإذا وافق الضيف على إدانة حماس هذا يعني أن بيرس مورغان سيثني على موقفه، وسيبدأ النقاش معه من منظور إنساني.
إما إذ حاول الضيف شرح السياق الذي أدى إلى 7 أكتوبر/ تشرين الأول أو رفض ببساطة إدانة حماس، ففي هذه الحالة يتم شيطنته وحشره في زاوية ضيقة، بل اتهامه في كثير من الأحيان بأنه يؤيد قتل المدنيين.
نأخذ على سبيل المثال زعيم حزب العمال جيريمي كوربين، والذي رفض وصف حماس بالإرهاب بعد أن سأله مورغان 15 مرة خلال مقابلة مشحونة للغاية، ولم يترك له فرصة لشرح وجهة نظره، فقط أراد أن ينتزع منه إجابة محددة، إلى حدّ أن كوربين قال له: “أنت تصرخ طوال الوقت ولا تريد أن تسمعني لمدة 30 ثانية”.
وفي مقابلة واسعة النطاق مع سفير فلسطين في المملكة المتحدة حسام زملط، وصف الأخير استشهاد أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية بعد أن تمّ تفجير منزلهم، ولم ينجُ سوى توأمين يبلغان من العمر عامين، وبعد أن انتهى زملط من شرح الوضع المروع بغزة، أصرّ مورغان بشكل مفجع على أن ينتزع منه إدانة حماس.
حدث الشيء نفسه مع العديد من الضيوف الفلسطينيين الذين ذكروا قصصًا مشابهة لزملط، مثل الطبيب الفلسطيني عز الدين أبو العيش، والذي طلب منه بيرس مورغان بإصرار إدانة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، رغم أن الأول أخبره في بداية الحلقة أن الاحتلال قتل بناته الثلاث قبل السابع من أكتوبر.
لقد أرسى مورغان في برنامج قاعدة أن “التعاطف مشروط بإدانة 7 أكتوبر/ تشرين الأول”، ومن لا يدين 7 أكتوبر/ تشرين الأول فهو مؤيد للإرهاب، وفي الواقع استفزَّ هذا الأمر العديد من الضيوف، بعضهم سأل مورغان لماذا لا يسأل الجانب الإسرائيلي عن الهجمات التي ترتكب يوميًّا ضد المدنيين بغزة، أو هل يدين الاعتداءات الإسرائيلية.
وبعض الضيوف وقع بالفعل تحت دوامة الضغط التي مارسها بيرس مورغان، مثل لين مكلوسكي الذي اُنتزعت من فمه إدانة حماس، وقال: “أعتقد أن حماس جماعة إرهابية ولا ينبغي أن تبقى في السلطة”، كذلك محمد حجاب الذي مورس عليه ضغط متواصل جعله يدين 7 أكتوبر/ تشرين الأول ويصفه بـ”الاشمئزاز”.
والواقع أن بيرس مورغان نجح في انتزاع إدانة حماس من أفواه العديد من الضيوف المحسوبين على الجانب الفلسطيني، ولعلّ أشهرهم باسم يوسف، لكن اللافت أن الضيف حين يدين حماس يجعله مورغان وكأنه إنسان متحضر، إلى حدّ الثناء على موقفه مقابل توبيخ الضيف الآخر الذي يُظهره مجردًا من أية مشاعر إنسانية.
وفي حين حاول الضيوف المؤيدين للفلسطينيين شرح السياق الذي أدّى إلى 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأن عملية “طوفان الأقصى” لم تأتِ من فراغ، تجاهل مورغان الخلفية والسياق الأساسي للصراع، وقلّل منه بشكل كبير، فعادة لا يسمح للضيف بعرض جزء من السياق، قائلًا: “أنا أعرف التاريخ جيدًا”.
لكن الأسوأ من ذلك أن بيرس مورغان قدّم يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول كنقطة انطلاق لكل النقاشات ورفض العودة بالزمن إلى سنوات قليلة، وبالتالي هذا الأمر لم يجعل الضيوف المدافعين عن حقوق الفلسطينيين في موقف دفاعي فحسب، بل جعل هناك مبررًا قويًّا للإرهاب الذي تمارسه “إسرائيل”، وأصبح أولئك الذين يقتلون لأكثر من 7 عقود هم المعتدين.
“أنا هنا لقول الحقيقة، القنابل الأمريكية هي ما يتم إلقاؤها على المدنيين في غزة، والعالم يشاهد إبادة جماعية ولا يتدخل”.. من مقابلة تلفزيونية للناشطة الأمريكية من أصول فلسطينية، نردين الكسواني، مع الإعلامي البريطاني بيرس مورغان.#طوفان_القدس #افتحوا_المعبر pic.twitter.com/iTYJOJs7KE
— نون بوست (@NoonPost) October 27, 2023
ولا شك أن لهجة بيرس مورغان وصوته العالي وطريقة فرض العضلات التي اتبعها مع ضيوفه المؤيدين لحقوق الفلسطينيين، وضعتهم في موقف دفاعي وتحت ضغط مستمر، حيث حشرهم واستنزفهم بشكل متعمد في زاوية معيّنة وبشكل خبيث، وفرض عليهم إجابة أسئلة تحتاج إلى تفسير بنعم أو لا فقط.
وهذا تمامًا عكس الضيف المنحاز للرواية الإسرائيلية، فالضيف المؤيد لحقوق الفلسطينيين واجه وابلًا من الأسئلة الهجومية والسريعة والمشحونة عاطفيًّا ولم يسمَح له بالتنفس، إذ يقاطع باستمرار وبأسلوب قتالي، ويتم تشتيت انتباهه بشكل كبير، وكأن الأمر أشبه بحلبة ملاكمة، وفي العديد من الحلقات كان بيرس مورغان يتحدث أكثر من ضيوفه، وهذا أمر في غاية الغرابة.
“أنت تقاطع ضيوفك المسلمين في المتوسط كل 21 ثانية”.. الصحفي البريطاني، ديلي حسين، يحرج بيرس مورغان بسؤاله عن سبب تحيّزه ضد المسلمين أثناء مقابلاته، وتعزيزه للإسـ،لاموفوبيا#غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/qFH7fjAth1
— نون بوست (@NoonPost) December 16, 2023
ومن الجدير بالذكر أن بيرس مورغان لم يطلب إلى اليوم من ضيوفه المؤيدين لـ”إسرائيل” إدانة جرائم الحرب الإسرائيلية، أو يردّ على الادّعاءات الإسرائيلية الكاذبة التي كررها بنفسه دون التحقق منها، خاصة تلك التي يقدمها ضيوف مؤيدون لـ”إسرائيل”.
على سبيل المثال، لم يعترض على العديد من الادّعاءات التي قدمها بين شابيرو فيما يتعلق بمزاعم استخدام حماس الفلسطينيين كدروع بشرية، بجانب أن بيرس مورغان في المقابلات مع الجانب المؤيد لـ”إسرائيل” يتجنّب إحراج الضيف الإسرائيلي وطرح الأسئلة المحرجة.
بل في حالات كثيرة يرفض الضيف الإسرائيلي الإجابة عن أسئلة بيرس مورغان، مثلما حدث مع بين شابيرو الضيف الدائم على شاشة مورغان، فحين سأله الأخير بعض الأسئلة كان يردّ: “لن أتحدث عن هذا الموضوع”، فما كان من بيرس مورغان إلا أن أجاب: “حسنًا” وانتقل على الفور إلى موضوع آخر بمنتهى البساطة.
ومن المثير للاهتمام أن بيرس مورغان كان يعبّر عن غضبه من الضيف الذي يحاول شرح السياق قبل إدانة حماس، إلى حدّ يصل إلى الصراخ في وجهه والاستهزاء به مرارًا وتكرارًا، ولا شك أن بيرس مورغان يعدّ أسوأ الأمثلة الإعلامية الغربية في التنمر على الشاشة، حيث تعبيرات وجهه الجامدة لم تساعده على إخفاء ذلك أو السيطرة على نفسه.
أما إذا قام الضيف بتوجيه سؤال غير مريح إلى بيرس مورغان عن سبب ازدواجيته، فسوف ينحرف بالقول إنه هو من يجري المقابلة، وليس هم، وفي أحيان كثيرة يغيّر الموضوع تمامًا، مثلما حدث في مقابلة الدكتور وحيد آصف شيدا، إذ تحول النقاش فجأة من حماس وما يجري في غزة إلى الشريعة الإسلامية والمثلية الجنسية، وهو أمر لم يحدث مطلقًا مع أي شخصية إسرائيلية، وقد تكرر هذا الأمر في عدة حلقات مع الضيوف المسلمين والمؤيدين للفلسطينيين، وأجبرهم مورغان على الحديث تحديدًا عن حركة طالبان والمثلية الجنسية.
في حقيقة الأمر، لم يتعامل بيرس مورغان مع ضيوفه من الجانبَين بالطريقة نفسها، فحتى طريقة تقديم الضيف كانت مختلفة تمامًا، لقد قدم الضيوف المؤيدين لـ”إسرائيل” باحترام كبير ومن خلال ألقابهم المختلفة.
على سبيل المثال، في مقابلته مع بين شابيرو قدم مورغان مقدمة متعاطفة بشدة وفي غاية الاحترام، وقد أثنى بين شابيرو على كلام بيرس مورغان، كذلك في لقائه مع السفيرة الإسرائيلية ببريطانيا تسيبي هوتوفيلي، أجرى معها مقابلة متعاطفة للغاية، وأعرب بكل وضوح عن دعمه لـ”إسرائيل” ولم يستجوبها ولو مرة واحدة، لدرجة أن السفيرة أثنت هي الأخرى عليه، واصفة مقدمة برنامجه بالعظيمة.
بينما قدم العديد من ضيوفه المسلمين والمؤيدين للفلسطينيين بازدراء وعدم احترام وبطريقة باردة للغاية، ودائمًا ما وصفهم بأنهم “مثيرون للجدل”، وفي عدة أحيان قدمهم بمقدمات هجومية، فعلى سبيل المثال عندما قدّم الدكتور وحيد آصف شيدا قدّمه كشخصية إسلامية متطرفة ومؤيد لهجمات حماس، وعامله بطريقة غير مهنية وفي غاية الانحطاط.
كذلك حين قدم الناشط الإسلامي محمد حجاب أشار إليه على أنه “مثير للجدل”، ما جعل الأخير يشعر بالضيق في بداية اللقاء، وسأل المذيع: “لماذا قدمتني بهذه الطريقة، ولماذا لم تقدمني على الأقل كخريج جامعة أوكسفورد؟”.
في حقيقة الأمر، كانت غالبية المقابلات مع الضيوف المؤيدين للفلسطينيين في خط نيران مورغان، واتسمت بالعداء بلا هوادة، كما انتهت في بعض الأحيان بشكل قاسٍ، فالضيف المؤيد لـ”إسرائيل” حظي باحترام وسُئل أسئلة ليّنة وبنغمة خافتة من الشدة.
كما عبّر عن آرائه دون عوائق إلى حد كبير، وتحدث دون انقطاع وبإجابات مطولة ومستوى عالٍ من العاطفة التي تُسكت مورغان دائمًا، ويمكننا أن نلاحظ ذلك بكل سهولة من خلال مقابلاته المتعاطفة وطريقة الاحترام الفائقة التي أبداها مع مارك ريجيف وبين شابيرو وبنيامين نتنياهو.
في حين يحدث العكس تمامًا على الجانب الآخر، إذ لم تكن هناك أي أسئلة بأسلوب ليّن للضيوف المؤيدين للفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة وضع مورغان الكلمات في أفواه الضيوف، ولم يتح لهم الفرصة للردّ بشكل كامل، بجانب أسلوب التهكم والسخرية منهم ومقاطعتهم المستمرة.
وفي عدة أحيان قام بتخويف وتوريط الضيوف، ومهاجمة معتقداتهم الشخصية بشكل غاية في الفجاجة، إلى حدّ أن بيرس مورغان كان يبدي رأيه المتحيز ضد الضيوف مثلما فعل مع الدكتور وحيد آصف شيدا، وحين أراد أن يُمعن في إهانته قال له: “من يدفع راتبك؟”، وهي عبارة ليس لها أي علاقة بموضع المقابلة، إنما أراد أن يقول للضيف بما أنك تعيش في لندن وتعمل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، فلا يحق لك أن تنتقد الاحتلال وتعبّر عن معتقداتك.
وحين استضاف بيرس مورغان كلًّا من إميلي أوستن المدافعة عن “إسرائيل”، والإعلامي المؤيد لفلسطين حسن بايكر والمعروف أيضًا باسم حسن آبي، ورغم سؤال الأخير عمّا إذا كان يدين هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أدانه لكن حاول شرح الأحداث التي أدت إليه.
قاطعه بيرس مورغان وقال له: “حسنًا، يبدو أنك انتقائي للغاية”، في حين أن أوستن دافعت عن “إسرائيل” وسلطت الضوء على الرهائن وعرضت وجهة نظرها بشكل مريح، وأخذت وقتًا أكثر من حسن، بسبب أن مورغان لم يستجوبها مثلما فعل مع حسن.
وحين أشار بايكر إلى الإبادة الجماعية في غزة، واستشهد بوصف وزير الدفاع يوآف غالانت: “نحن نحارب حيوانات بشرية”، قال مورغان: “سأقطع النقاش، ولن أصل إلى أي نتيجة على الإطلاق”، وسيناريو إسكات الأصوات والمقاطعة والتشويش ما زال يتكرر بشكل فجّ حتى اليوم.
معركة القفص: اختلال التوازن
لم تكن إشكالية بيرس مورغان في محاصرة الأصوات المؤيدة للفلسطينيين والمعاملة المختلفة للضيوف فحسب، هناك أيضًا عدم توازن في عدد الضيوف والوقت المخصص لكل منهم.
لقد استضاف بيرس مورغان عددًا من الشخصيات المؤيدة للفلسطينيين، مثل حسام زملط وباسم يوسف ومحمد حجاب ومغني الراب لوكي وحسن بايكر ورحمة زين ونردين الكسواني ومصطفى البرغوثي، معظمهم شخصيات شبابية وبعضهم لم تكن لديه أي تجربة إعلامية سابقة.
وفي المقابل، أجرى بيرس مورغان مقابلات مع ضيوف مؤيدين لـ”إسرائيل” أكثر بكثير من الفلسطينيين، ومعظمهم شخصيات كبيرة محسوبة على حكومة الاحتلال ومدربين ومحترفين في التعامل مع وسائل الإعلام، أبرزهم بين شابيرو وإيهود باراك وكريس كريستي وجوان كولينز وجيريمي بورينغ ومارك ريغيف ونفتالي بينيت وإسحاق هرتزوغ وإيلون ليفي ودوغلاس موراي والحاخام شمولي بوتيك، بجانب استضافة العائلات الإسرائيلية وتقديم صورة مثالية عنهم.
إن اختيارات بيرس مورغان للضيوف تكشف أن هذه الحلقات كانت مرسومة مسبقًا، ليس فقط بسبب عدم تكافؤ الشخصيات بين الجانبَين، حيث أعطى البرامج منبرًا لبروباغاندا المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين، بينما تجاهل نشطاء المنظمات الحقوقية، وفي حين تمّت استضافة عائلات الرهائن الإسرائيليين لم تتم استضافة عائلة فلسطينية واحدة.
لكن الأمر الأكثر دلالة بكثير من تشكيلة الضيوف، هي الطريقة التي أجرى بها مورغان هذه اللقاءات، فالعديد من الحلقات كانت غير متوازنة في الوقت وعدد الضيوف، فيُستضاف شخصان أو ثلاثة مؤيدين للاحتلال مقابل صوت فلسطيني واحد.
مع العلم أن العديد من الأشخاص الذين تمّت استضافتهم وحُسبوا على الجانب الفلسطيني، لم يتخذوا مواقف قاطعة كالجانب الإسرائيلي، مثل المعلق السياسي وجحات علي الذي دافع عن الفلسطينيين لكنه أيضًا انتقد حماس، وكذلك مهدي حسن الذي اعتبر 7 أكتوبر/ تشرين الأول جريمة حرب.
وكذلك مصعب حسن يوسف الذي قدمه مورغان باحترام كبير، وتمّت استضافته بشكل متكرر على أساس أنه يمثل الجانب الفلسطيني، وقد قدم رؤية منحازة بالكامل للجانب الإسرائيلي ملقيًا باللوم على حماس، وبالطبع استغل مورغان ببراعة شخصًا مثل مصعب للنيل أكثر من حماس ولتبرير الحرب على غزة، وأفرد معه عدة حلقات حول “كيف يمكن للفلسطينيين التخلص من حماس”، وهذه الحلقات هدفها بالأساس تبرير ذبح الفلسطينيين، وأن إبادتهم تحدث بسبب تصرفات حماس.
ويمكن القول إن مورغان استضاف بعض الشخصيات المؤيدة للفلسطينيين كـ”تحف” وليزعم أنه كان متوازنًا، والواقع أن مورغان قام بوصف المواقف المؤيدة للفلسطينيين بشكل خاطئ وماكر في كثير من الأحيان، فلم يستضف الضيوف المؤيدين للفلسطينيين ويحشرهم في جدال لفظي فحسب، بل استضاف بعض الضيوف المحسوبين على الفلسطينيين ليستهزأ بهم بشكل أساسي.
وأسوأ مثال على ذلك هو استضافة امرأة شبه عارية على أنها تمثل الجانب المؤيد للفلسطينيين، والتي ظهرت على الشاشة وهي ترتدي حفاضة وعكازَين مع دعّامة للرقبة، ونظارات شمسية وطلاء أبيض للوجه، وتكلمت بطريقة غريبة وبدأت بالصراخ، ما مكّن مورغان من الاستهزاء بها.
وبالتالي قدم مورغان الجانب الفلسطيني في صور أناس مجانين لديهم مشاكل عقلية مقابل المحترفين الإسرائيليين، وفي عدة لقاءات لم يفوّت مورغان الفرصة لتشويه المتظاهرين المؤيدين لفلسطين وانتفاضات الطلاب في الجامعات الأمريكية، من خلال استحضار صورة هذه المرأة.
وصحيح أن العديد من الأشخاص المؤيدين للفلسطينيين فضحوا تحيّز مورغان، واستطاعوا التغلُّب على تكتيكاته غير المهنية، لكنهم قلة لا تتعدى الـ 10 أشخاص أمام سيل جارف من الجانب الآخر، وحتى هؤلاء القلة تمّت استضافتهم لمرة ومرتين فقط، بينما الضيوف الإسرائيليون المحترفون دائمو الحضور على شاشة مورغان لمواجهة الشباب المناصرين لحقوق الفلسطينيين.
وجديد بالذكر أن مورغان تجنّب تمامًا إجراء مقابلات مع حركة حماس، ولم يستضف شخصية فلسطينية رسمية غير سفير فلسطين في المملكة المتحدة حسام زملط، مع العلم أنه تمّت استضافته مرة واحدة فقط، مقابل السفيرة الإسرائيلية التي تمّت استضافها أكثر من مرة.
ومن المهم الإشارة إلى أن غالبية الضيوف الفلسطينيين لم يكونوا حقيقة مدرَّبين مثل الإسرائيليين، وهذا واضح بشكل كبير، إذ إن معظم هؤلاء الشباب ظهروا في برنامج مورغان بدافع الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ولا شك أن هذه النقطة استغلها مورغان بذكاء من أجل أن يُظهر تفوق الجانب الإسرائيلي.
الإطار المرسوم: تشويه الموضوعية
في الواقع، كرر بيرس مورغان مزاعم الدعاية الإسرائيلية الكاذبة دون تحقق، لقد كان من أوائل الصحفيين الذين بثّوا الأكاذيب حول قتل حماس الأطفال، وادعاءات لا أساس لها حول الاغتصاب، وأن الأطفال يُقتلون عن طريق الذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك، كما أجرى عدة مقابلات بغرض الدفاع عن الجيش الإسرائيلي، ودحض اتهامات قصف الاحتلال المستشفى المعمداني.
وعندما طلب محمد حجاب من مورغان أن يدين قتل الأطفال في غزة والغارات الجوية للجيش الإسرائيلي على مساكن وأحياء المدنيين بغزة، قال: “بالنظر إلى حجم ما فعلته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فإنه يحقّ للإسرائيليين الدفاع عن أنفسهم بالقوة”.
كذلك عن سبب عدم إدانة بيرس مورغان لجرائم الحرب الإسرائيلية مقابل إصراره على إدانة حماس، انتقد المذيع مهدي حسن معايير مورغان المزدوجة، وقال له: “يجب عليك أيضًا أن تستجوب الضيوف المؤيدين لـ”إسرائيل” في برنامجك، وتطلب منهم إدانة الفظائع التي ترتكبها “إسرائيل””، لكن بالنسبة إلى مورغان فـ”إسرائيل” معفاة بطريقة أو بأخرى من “الأخلاقيات” التي يلزم بها الجانب المؤيد للفلسطينيين.
وفي حين شنَّ حملة شعواء على ضيوفه بسبب عدم إدانة حماس التي جرّدها من كل صورة إنسانية، تعامل مورغان مع كل حدث إبادة تقوم به “إسرائيل” من خلال الإنكار والتبرير، وفي كثير من الأحيان استخدم العاطفة والإنسانية في سياقات مؤيدة لـ”إسرائيل”، لدرجة أنه كان يلعب دور المتحدث باسم حكومة الاحتلال، فحين ذكّره كورنيل ويست بأن الاحتلال قتل آلاف الأطفال، ردّ عليه: “هناك أيضًا أطفال قتلتهم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول”.
لقد عرض ضحايا الاحتلال بشكل مختلف تمامًا عن الضحايا الفلسطينيين، وسمح للضيوف المؤيدين للجانب الإسرائيلي بوصف المجتمع الفلسطيني بأشنع الصفات، مثلما قال صحفي بريطاني يميني على شاشة مورغان: “شعب غزة ليسوا من محبي السلام”.
وكذلك في لقائه مع نفتالي بينيت أعرب الأخير عن تأييده قتل المدنيين وتدمير منازلهم، وجدير بالذكر أن مورغان في كل الحالات قبلَ الحجج الواهية التي عرضها هؤلاء دون اعتراض، عكس ما فعله مع ضيوفه المسلمين والمؤيدين لحقوق الفلسطينيين.
والواقع أن سوء الممارسة الإعلامية يمكن قراءته بكل سهولة من خلال مقدمة البرنامج التي كررها مورغان في الكثير من حلقاته، وهي: “مساء الخير من لندن ومرحبًا بكم، هاجم إرهابيون من حماس إسرائيل، وقتلوا واغتصبوا المدنيين وأعدموا كبار السن، وأخذوا الناجين من الهولوكوست رهائن، كما قاموا بذبح الشباب، حتى أنهم قطعوا رؤوس أطفال في قرية واحدة، أكثر من 1200 إسرائيلي لقوا حتفهم، وقد أدى هذا الهجوم الوحشي إلى جرّ إسرائيل إلى الحرب”.
ودائمًا ما يُطالب مورغان المؤيدين للفلسطينيين بالحقائق والأدلة، بينما الجانب الآخر لا يُطلب منه تقديم أي شيء لإثبات ادعاءاته الجامحة، أحد الأمثلة الفجة والمتكررة بشكل طاغٍ مطالبة مورغان الضيف الإسرائيلي التعليق على أدلة الضيف المؤيد للفلسطينيين، بينما العكس لا يحدث.
وفي أحيان أخرى يشتم الضيف الإسرائيلي الضيف الفلسطيني وبيرس مورغان لا يلقي بالًا، أما إذا اعترض أحد الضيوف المؤيدين للفلسطينيين على الضيف الإسرائيلي، فيتدخّل مورغان ويعطيه درسًا في الأخلاق.
على سبيل المثال، حين اعترض الدكتور مصطفى البرغوثي على الضيفة الإسرائيلية بسبب أنها قاطعته باستمرار، وقال لها بالحرف: “اسكتي (Shut up)”، اعترض بيرس مورغان معتبرًا أنه غير لائق أنه يقول “اسكتي” لامرأة، رغم أن مورغان نفسه استخدم الكلمة نفسها مع ضيوفه المسلمين والمؤيدين للفلسطينيين، واستخدمها كذلك في وجه امرأة.
بعد اتهامها له بالكذب بشأن عدد النساء اللواتي استـ،ـشهدن خلال الحرب الأخيرة في #غزة.. الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، يُسكت سياسية إسرائيلية حاولت تزوير الحقائق#فلسطين #غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/tpzfVrDrBp
— نون بوست (@NoonPost) April 20, 2024
وفي الفترة الأخيرة، أفرد مورغان مساحة كبيرة لموضوع أن حماس تريد قتل جميع اليهود، وتستخدم آيات من القرآن في الصراع الحالي، لقد نوقش هذا الموضوع بتوسع كبير، لكن في المقابل لم يفرد مورغان حلقة واحدة للتعليق على اقتباسات نتنياهو من التوراة حول الصراع العماليقي الإسرائيلي لتدمير غزة، أو الحديث المستمر في الكنيست عن القضاء على الفلسطينيين وإنكار حقهم في الوجود، فضلًا عن الممارسات الإسرائيلية على أرض الواقع.
كذلك صوّر مورغان الفلسطينيين كشعب لا إنساني، على سبيل المثال أفرد مساحة مخصصة للحديث عن احتفالات الفلسطينيين في غزة بيوم السابع من أكتوبر، وأجرى لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت للحديث عن مدى سعي الإسرائيليين إلى السلام، وأنهم دائمًا في موقف دفاع لا يلجأون للحرب إلا مضطرين، بينما الفلسطينيون يلجأون للقتل بكل سرور، وبالتالي هنا يصبح القتل والإبادة لأهل غزة أمرَين طبيعيَّين لأن مورغان قدمهم كمتواطئين.
صحيح أن بيرس مورغان مؤخرًا عبّر عن معارضته الحرب، وفي بعض الأحيان عرض أرقام الشهداء الفلسطينيين على استحياء، لكنه دائمًا وحتى الآن يساوي بين غزة و”إسرائيل” في حجم الضرر، ثم ينهي الحلقة بالعبارات التي يكررها باستمرار: “يجب أن يكون لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”، و”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
ورغم تراكم الأدلة حول ارتكاب الاحتلال إبادة جماعية بغزة، فإن مورغان يجدُ صعوبة في وصف جرائم الحرب الإسرائيلية بالإبادة، وهذا أمر غريب، لأن الانتهاكات ما زالت تحدث أمام أعيننا، لكنه لا يعتبر القتل الممنهج للفلسطينيين في غزة ونزوح 90% من السكان إبادة جماعية.
فخلال مقابلة أجراها مع ديلي حسين، أنكر مورغان تعرض الفلسطينيين للذبح، وادّعى بشكل قاطع أن “إسرائيل” لا ترتكب إبادة جماعية في غزة، وتجاهل مصادر علمية جادة ناقشت الإبادة الجماعية.
وبشكل عشوائي وغير عقلاني أخذ يشرح مصطلح الإبادة بشكل غامض، رغم أنه وصف الحرب على أوكرانيا بأنها إبادة جماعية، بينما امتنع عن تطبيق المعايير نفسها في الحرب على غزة، رغم أن الوفيات والدمار في غزة أكبر بكثير من أوكرانيا، بل ذهب مورغان بعيدًا عندما ادّعى أن حماس هي من تمارس الإبادة الجماعية ضد “إسرائيل”.
ورغم افتخاره بمهنيته، قدم مورغان مرارًا وتكرارًا ادّعاءات ترجع بالأساس إلى مصادر إسرائيلية وتبنّاها دون تفنيد، حتى أنه خصّص حلقة للردّ على تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، والذي شككّ في الأخبار الإسرائيلية.
وفي الحقيقة نادرًا ما تناول مورغان في المقابلات التي أجراها مع الضيوف المعلومات المقدمة من مصادر فلسطينية، لقد اعتمد بشكل كبير على مصادر وروايات الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك الأرقام التي قدمها الاحتلال.
وحين ذكر الضيوف تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية وغيرهما، تجاهلها مورغان بطريقة فجّة، وشكّك علنًا في تأكيدات الحكومة الفلسطينية في ما يتعلق بالضحايا وقصف مستشفى المعمداني، وبالتالي عدم التحقق من المعلومات والتعامل مع نوع محدد من المصادر سمح للخرافات والادّعاءات التي لا أساس لها بالمضيّ قدمًا دون رادع.
كذلك في حلقات كثيرة ادّعى مورغان أنه سيكون من الصعب القضاء على حماس دون “أضرار جانبية”، وذلك في إشارة إلى تبرير الإبادة الجماعية بحقّ المدنيين، كما قدم تحليلات لما اعتبره فروقًا أخلاقية بين هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول والهجوم الإسرائيلي على غزة.
في أحيان كثيرة يشبّه بيرس مورغان ما يحدث بين “إسرائيل” وحماس بأنهما يخوضان “الحرب الأكثر دموية في العالم”، رغم أنها بالأساس حربًا على الناس في غزة، يُقتل ويُحاصر فيها جانب واحد، ولا تلتزم “إسرائيل” لا بقانون دولي ولا حقوق إنسان، ومع ذلك يعتقد مورغان أن “إسرائيل” لديها ما يبرر لارتكاب كل هذه الجرائم بسبب 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
ثم عندما تتعرض سمعته الصحفية للطعن، يبدأ في انتقاد الاحتلال بشكل فاتر، أحد الأمثلة على ذلك حين تحدث عن القصة المؤلمة لصحفي “الجزيرة” وائل الدحدوح الذي قتل الاحتلال زوجته وابنه وابنته وحفيده، ومرة أخرى فشل في تسمية “إسرائيل” باعتبارها المسؤول عن هذه الاغتيالات، ولم يقل إنها هي من قامت بالقتل، وبدلًا من ذلك استخدم كلمات مبهمة مثل “الصحفيون يموتون” و”الصحفيون في مرمى النيران”، دون ذكر من قتلهم وعائلاتهم البريئة.
واللافت أنه في تناول مثل هذه الأخبار يساوي دائمًا بين “إسرائيل” وغزة في القوة وحجم الأضرار والوفيات، أحد تعبيراته: “الحزن في إسرائيل وغزة” و”الجحيم في غزة وإسرائيل”، رغم أن حجم الضرر بغزة لا يمكن على الإطلاق قياسه بـ”إسرائيل”، ولا تمتلك حماس أسلحة الدمار التي يستخدمها الاحتلال.
لكن بيرس مورغان لا يصدق أن ما يحدث هو احتلال وحشي يذبح الفلسطينيين منذ عقود، وأن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية، من الصعب عليه أن يقرَّ بهذه الحقيقة لأنه بالفعل اختار منذ البداية الانحياز للاحتلال، وفي حين أن غزة دُمّرت، ما زال مورغان حتى اليوم يبدي اهتمامًا كبيرًا لاستجواب الضيوف من أجل إدانة حماس والسابع من أكتوبر.
في النهاية، عرّت الحرب على غزة أشخاصًا مثل بيرس مورغان كانوا يعدّون من رواد العمل الصحفي، ويستشهَد بهم في مواقف كالحرب على العراق، حيث اعتمدت تغطيته بشكل كبير على عدم الشفافية والتوازن، وغرق في مأزق أخلاقي، والواقع أن الحرب على غزة أظهرت أفكار مورغان النمطية عن الإسلام والتعصّب والغرور بتفوقه الأخلاقي على الآخرين.
إن المتابع لحلقات مورغان في ما يتعلق بالحرب على غزة، يلاحظ وبكل وضوح أن أغلبها ينحاز إلى رؤية وسردية الاحتلال الإسرائيلي، وتدخل في إطار البروباغاندا، لقد أصبح برنامجه “بدون رقابة” مكانًا للدعاية الإسرائيلية لترويج سياستها العدوانية، والسعي من خلال شاشة مورغان إلى كسب التعاطف على مستوى الرأي العام العالمي.
فهو لم يكن موضوعيًا على الإطلاق في التعامل مع الضيوف ونقل الحقائق دون تحيُّز مثلما زعم، ولم يستطع حتى مناقشة الأفكار القادمة من الجانب الآخر، ورغم استضافته مؤيدين للفلسطينيين في برنامجه، كان البرنامج يسير ضمن إطار محدد بعناية.
وربما يكون ادّعاء بيرس مورغان استضافة مؤيدين للفلسطينيين أكثر من أي شخص آخر في وسائل الإعلام الغربية صحيحًا، لكن الأمر كله يتعلق بأسلوب إجراء هذه المقابلات، والطريقة التي تعامل بها مع الضيوف المسلمين والأصوات المؤيدة للفلسطينيين.
نختم بالقول، إن بيرس مورغان كانت لديه مقدمات واستنتاجات معدّة مسبقًا في توجيه الاتجاه العام لكل مقابلة، لذا خرجت كل هذه الحلقات بنتيجة واحدة معدّة سلفًا، وبالتالي لم يخرج بيرس مورغان عن نمط المشهد الإعلامي الغربي الرسمي السائد، حتى وإن ادّعى غير ذلك، ولا شك أنه ساهم ولا يزال في تحريف الحقائق والأحداث بشكل منهجي.