طويت صفحة “بنكيران”؛ الزعيم الذي انتهت به شعبيته إلى مآلات النسيان السياسي، بعدما كان حتى وقت قريب للغاية، رقما مهمًا في تاريخ الحياة السياسية المغربية، يحتل السمع والبصر والفؤاد لرجالات حزبه العدالة والتنمية؛ المنفذ الإسلامي، والتجربة الإخوانية شديدة الخصوصية في قيادة الحكومة المغربية منذ عام 2011 وحتى الآن، والتي توجت نحو أربعة عقود من المعارضة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
كيف انتهت حقبة الزعيم التاريخي لإخوان المغرب ؟
كان يوم الأحد 10 ديسمبر، شاهدا على إقصاء من يسمون اليوم في المغرب بـ”إسلاميو القصر”؛ تبلورت عملية إزاحة الزعيم الصلب عبد الإله بنكيران، بعد أن وصلت شعبيته إلى حدود غير آمنة، وصارت مزعجة للملك والإخوان على حد سواء؛ صدق بنكيران نفسه وتصور أنه يمتلك أدوات القوة ليقول “لا” في وجه الملك، حتى وإن كانت نبرتها ضعيفة أو ليست بالقوة التي تمكنها من الصمود للنهاية.
وضع حزب “العدالة والتنمية”، التصور الذي يدير الأزمة مع الملك محمد السادس، فلم يعد للرجل طاقة في تحمل الصوت الزاعق لزعيم الحزب الإسلامي، وهو يتحدث ويشتكي على مرأى ومسمع من وكالات الأنباء، ممن أسماهم دائما التماسيح، والعفاريت، والمتحكمون في مفرادات قراراته؛ وهي الإشارات التي وجّهت ضربات في مقتل إلى الدولة العميقة، التي كانت تعرقل تجربة حزبه في الحكومة، واستطاعت إزاحته بالفعل من السلطة، رغم فوزه في انتخابات 2016، وجرى إعفاء “بنكيران” من رئاسة الحكومة.
مرارة التجربة التي تعرض لها بنكيران، كانت محل نقاش دائم طوال العام الماضي؛ طرحت نفسها بقوة على حيثيات مؤتمر الحزب الذي انتهى به الحال إلى خلافات عنيفه بين تيار الوزراء وأصحاب السلطة، الذين يؤيدون استمرار الحزب في الحكومة، والاستمرار في طريق المهادنة الذي بدأه بنكيران نفسه، إلى أخر نفس له في السلطة، وحتى بعد خروجه منها، في مواجهة أنصار رئيس الوزراء السابق، الذي يشعرون بمراره مما تعرض له زعيمهم، لذا كانوا يرفضون استمرار الحزب الإسلامي في تقديم تنازلات تنال من مبادئه دون مقابل، أو أفق واضح.
لا حديث يدور داخل حزب العدالة والتنمية إلا عن المخاوف من السياسة الأقصائية الجديدة، التي يتبعها الأمين العام الجديد
حميّت الحرب؛ انتصر تيار السلطة في النهاية ودانت له الغلبة، واستقر مؤتمر حزب العدالة والتنمية على أقصاء أمينه العام السابق من الصورة تماما، وإفساح الطريق امام رجال سعد الدين العثماني، رئيس الوزراء الحالي، ورجل المرحلة، وتكلفيه بمنصب الأمين العام للحزب خلفا للزعيم بنكيران؛ ورغم إجراء الانتخابات في أجواء تنافسية ديمقراطية، إلا أن المطلعون على الاحداث يدركون ما الذي باتت تحمله النفوس لبعضها البعض، خصوصا أن العثماني عمل سريعا على تمكين رجاله من الأمانة العامة، والمجلس الوطني، وهي التغييرات التي يراها رئيس الوزراء ضرورية لإدارة علاقة الحزب الإسلامي المأزومة وشديدة الحساسية مع القصر، على طريقته التي تختلف كليًا بالطبع عن سلفه «بنكيران».
بنكيران: عدت من الديوان الملكي بعد اعفاني وعانقت زوجتي حزنا
ما الذي ينتظر الحزب من سياسة الأمين العام الجديد ؟
لا حديث يدور داخل حزب العدالة والتنمية إلا عن المخاوف من السياسة الأقصائية الجديدة، التي يتبعها الأمين العام الجديدما، التي تقطع كل اواصر التواصل مع الضفة الأخرى للحزب، وأصحاب هذه النظرة يؤكدون صحتها بعدما جائت القائمة الجديدة لكافة المناصب القيادية، وهي خالية بشكل شبه تام من الأصوات المعارضة للعثماني.
أقصى رئيس الوزراء رجال بنكيران من الأمانة العامة في تركيبتها الجديدة، وعلى رأسهم عبد العزيز أفتاتي، القيادي الموالي للزعيم السابق للحزب، والذي تصدر قائمة انتخاب أعضاء المجلس الوطني بحصوله على 914 صوتا، بالإضافة إلى كل من بلال التليدي، وأمينة ماء العينين، وعبد الصمد السكال، وعبد العلي حامي الدين، عضو الأمانة العامة السابق، ومحمد خيي، وهؤلاء كلهم معروفون بموقفهم المؤيد للولاية الثالثة لـ«بنكيران».
ولم تخرج أغلب القراءات والتحليلات عما يحدث، إلا بالتسليم بقوة المؤسسة الملكية، التي لازالت رغم كل المياه التي جرت في نهر الحياة السياسية، منذ بداية ثورات الربيع العربي، التي رفعت أمواجها إسلامي المغرب لتصدر المشهد السياسي، قادرة على التحكم حتى في تلابيب العلاقات داخل الأحزاب، حتى وإن كان أحدهم يتولى زمام السلطة، وله توجهات إصلاحية بصبغة إسلامية، مهمتها في الأساس مناهضة قوي الفساد والاستبداد والتسلط.
مصر وإعلامها.. الترقب سيد الموقف
اتخذت الصحف العربية، والمصرية تحديدا موقفا مسالما من مؤتمر حزب العدالة والتنمية الذي أقصى بنكيران، عدوها اللدود الذي طالما هاجمته بوصفه فرعا للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين المصنفة تنظيما إرهابيًا في القاهرة وعدة عواصم خليجية حليفة لها، كل هذه الاتهامات تراجعت بل وتجمدت مع إعلان سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب خلفا لعبد الإله بنكيران.
كان واضحا إطراء الصحيفة المقربة من النظام المصري للعثماني على حساب بنكيران، مؤكدة أن رحيل الأخير، يغلق باب التوتر في العلاقات بين أمين الحزب السابق والملك محمد السادس،
وبحسب موقع هسبريس الشهير، الذي اهتم بهذه المفصلية الدقيقة، كان بنكيران، محطة قلق بالنسبة إلى الصحافة المصرية تحديدا منذ تعيينه رئيسا للوزارة، وتبنى حكومته موقفا عدائيا من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وخروج قيادات كبرى بجانب بنكيران للوقوف في صف إخوان مصر، وخصوصا بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة وما تبع ذلك من مواجهات واستقطاب حاد داخلي وإقليمي.
كان «العدالة والتنمية» وزعيمه وقياداته يحرصون على وصف أحداث «30 يونيو» التي أزاحت الرئيس محمد مرسي عن الحكم في مصر، ومن خلفه جماعة الإخوان، بـ«الانقلاب»، تضامنًا مع أنصار مرسي، وهو ما كان يثير ضجة كبرى وهجوم كاسح كلما تعرضت الصحافة المصرية لأخبار بنكيران .
تحاشت الصحافة المصرية منذ تولية العثماني أمينا للحزب، وصف العدالة والتنمية بإخوان المغرب، حيث اكتفت جل التقارير الصحافية بنقل خبر انتخاب العثماني زعيما جديدا، دون الدخول في أي تفاصيل أو تعليقات عهدها القارئ المغربي من قبيل «فرع التنظيم العالمي للجماعة الإرهابية» أو ما شابه، فقط كانت صحيفة البوابة نيوز، التي يرأس تحريها النائب عبد الرحيم على، وأحد أشد المعادين للإسلاميين في مصر، صاحبة الدور الأكبر في تغطية فعاليات المؤتمر الوطني الثامن لحزب العدالة والتنمية، ونشرت كافة تفاصيل انتخاب العثماني، مكتفية بوصف العدالة والتنمية بالحزب الإسلامي، مضيفة أن انتخاب الزعيم الجديد ينهي حقبة كان رئيس الحزب، يسمى رئيسًا، مما يعني من وجهة نظرها أنه يختتم بذلك أفضل فترة في تاريخه «ديمقراطيا»، منذ فاز في دورتين تشريعيتين متتاليتين بين اعوام 2011 و2016.
كما كان واضحا إطراء الصحيفة المقربة من النظام المصري للعثماني على حساب بنكيران، مؤكدة أن رحيل الأخير، يغلق باب التوتر في العلاقات بين أمين الحزب السابق والملك محمد السادس، لاسيما وان العثماني يتمتع بشخصية أكثر رصانة من بنكيران، ولديه قدرة أكبر على التفاوض؛ ما يؤهله لقيادة مرحلة أقل صداماً مع القصر، والمحيط العربي .
فيما اكتفت اليوم السابع، المقربة أيضا من النظام المصري، ببث عدة أخبار على موقعها الالكتروني، اعتبرت فيها حزب العدالة والتنمية معتدلا، خصوصا وأنه يقود الحكومة المغربية للولاية الثانية على التوالي، فيما لم تفرد صحيفة «الفجر» التي يتولى رئاسة تحريرها أحد ألد أعداء الإخوان في مصر، الكاتب الصحفي عادل حمودة إلا ذكر تفاصيل شحيحة عن المؤتمر، دون تخصيص تفاصيل عما جرى أو عنايته بالتحليل، الأمر الذي يؤكد أن بنكيران لم يواجه فقط تكتلات داخل حزبه وخارجه في المغرب، بل كان يواجه تكتلا إقليميا لإزاحته، وها هو قد ولى عن منصبه، فما الذي ينتظر «العدالة والتنمية» بالداخل والخارج ؟ .. الأيام كفيلة بالرد !