“يحفل التاريخ بالصراعات، وأي فهم صحيح لحقيقتها دون تحيز للماضي يحمل بين طياته إمكانية إقامة السلام العادل، أما الطريقة الخاطئة للفهم، أو تحريف التاريخ وتفصيل الحدث على المقاس من خلال التشويه، فإن ذلك سيؤدي إلى إدامة الصراع طويلاً، كما يظهر في الصراع العربي -الإسرائيلي”.
الكاتب الإسرائيلي الراديكالي الذي ينتمي إلى تيار المؤرخين الجدد، إيلان بابي، يناقش هذه الفكرة في كتابه المنشور مؤخرا في الذكرى السنوية الخمسين للاحتلال الإسرائيلي، تحت عنوان “عشر خرافات عن إسرائيل” (دار فيرسو للنشر، 2017)، مستعرضاً الأكاذيب روّجتها “إسرائيل” عن نفسها، وجعلتها تبدو عامة ومعروفة لكل متابع، بطريقة أو أخرى.
وعبر ثلاثة أقسام تحوي عشرة فصول وخاتمة عن “إسرائيل” الاستيطانية الاستعمارية في القرن الواحد والعشرين؛ يقدم بابي، صاحب كتاب “التطهير العرقي للفلسطينيين”، الجدالات المضادة للخرافات الإسرائيلية، وتتبع الترتيب التالي بحسب الفصول المتوزعة على الأقسام المذكورة.
ست خرافات من الماضي
1- فلسطين كانت أرضاً بلا شعب
تدعي أولى الخرافات أن فلسطين كانت أرضاً قاحلة، وخالية، وشبه صحراوية تمت زراعتها وتأهليها من قبل الصهاينة، لكن “بابي” يوضح في نقاشاته المضادة كيف أن المجتمع الفلسطيني كان يتمتع بازدهار قبل قدوم الصهاينة، وكان يشهد الكثير من التحديث كمناطق حضرية، وسكان حضريين.
ويؤكد المؤلف أن الفضاء الجيوسياسي الذي يطلق عليه اليوم فلسطين (أو إسرائيل التي تحتلها) هو بلد معترف به منذ العصر الروماني، مضيفا أنه منذ القرن السابع فصاعدًا كان تاريخ فلسطين مرتبطُا ارتباطُا وثيقًا بالعالم العربي والإسلامي.
وبالعودة إلى السجلات العثمانية للتعداد السكاني لفلسطين عام 1878، فإن اليهود لم يشكلوا سوى نسبة 3% فقط من سكان بلغوا نحو نصف مليون شخص، منهم 87% مسلمون و10% مسيحيون.
وكانت فلسطين بلدًا ريفيًا على وشك الدخول إلى القرن العشرين كمجتمع حديث، وقد أدى استعمار الحركة الصهيونية لأرضها إلى تحوّل هذه العملية إلى كارثة بالنسبة لغالبية السكان الأصليين الذين يعيشون هناك.
بحسب الكاتب فأن القيادة الصهيونية والأيديولوجيين، لم يتمكنوا من تصور التنفيذ الناجح لمشروعهم، إلا بالتخلص القسري من السكان الفلسطينيين، إما عن طريق الاتفاق أو بالقوة
2- اليهود كانوا شعباً بلا أرض
تكمّل الخرافة الثانية سابقتها الأولى؛ فـ”أرض فلسطين التي كات بلا شعب” تحتاج إلى “اليهود الذي كانوا بلا أرض”. وهنا يطرح المؤلف سؤالاً يُبني عليه الكثير: هل كان اليهود بالفعل هم السكان الأصليين لفلسطين، وبالتالي يستحقوا كل الدعم للعودة إلى وطنهم؟!
هذه الخرافة تصر على أن اليهود الذين وصلوا فلسطين عام 1882 هم أحفاد أولئك الذين طردهم الرومان منها عام 70م، لكن المؤلف يدحض ذلك من خلال ما طرحه العديد من المؤرخين الذين أثبتوا أن يهود فلسطين الرومانية لم يغادروا أرضهم، وكانوا أول من تحولوا إلى المسيحية، ثم إلى الإسلام.
ويؤكد أن “ما قبل عهد الصهيونية كانت الرابطة بين المجتمعات اليهودية في العالم -بما فيه فلسطين- علاقة روحية ودينية وليست سياسية وأن ترتيب عودة اليهود مع إلى فلسطين قبل ظهور الصهيونية كان مشروعاً مسيحياً حتى القرن السادس عشر، وبعد ذلك كان مشروعاً بروتستانتياً ثم أكملته الصهيونية”.
3- الصهيونية هي اليهودية
يتناول المؤلف الإسرائيلي في الفصل الثالث المواقف التاريخية التي تبرز اليهود تجاه الصهيونية، ويحلل التلاعب الصهيوني بالديانة اليهودية لأسباب استعمارية أولا وإستراتيجية لاحقا، وكذاك خداعها لليهود أنفسهم بالأساطير التضليلية التي اخترعتها.
ويدحض “بابي” زعم الصهيونية أنها تمثل الديانة اليهودية، وأن من يعاديها عدو للسامية، وفي هذا السياق يتطرق للكتب المدرسية في إسرائيل التي تنقل نفس الرسالة حول الحق الديني في الأرض، وتوفر لذلك “الأدلة” من التوراة”.
ويضيف أن ديفد بن غوريون، الزعيم الصهيوني وأول رئيس وزراء إسرائيلي، لوّح بالتوراة في وجوه أعضاء لجنة بيل الملكية البريطانية التي كانت تحاول تقسيم فلسطين بين الانتداب واليهود والعرب، صائحا: إن “هذه التوراة تؤسس لحق اليهود في فلسطين وليس الانتداب البريطاني، والتوراة هي ميثاق دولتنا”.
4 – لا صلة بين الصهيونية والاستعمار
في الفصل الرابع، يناقش الكاتب الإدعاء بأن “الصهيونية حركة تَحرر وطنية وليست استعمارية”، في حين أن الجدالات المناهضة لها تؤطرها كحركة استعمارية، ويشبهها بالمشروع الاستعماري الذي جرى في جنوب أفريقيا وأستراليا والولايات المتحدة ضد السكان الأصليين.
وتكمن أهمية هذا التفنيد في الموقف من المقاومة الفلسطينية وأيضا من إسرائيل، فإذا كانت إسرائيل دولة ديمقراطية أو الصهيونية حركة تحرر وطنية تدافع ع نفسها؛ فإن الهيئات الفلسطينية مثل منظمة التحرير ستكون “كيانات إرهابية” بالنسبة لهم.
وبحلول عام 1945، اجتذبت الصهيونية أكثر من نصف مليون استيطاني إلى بلد يبلغ عدد سكانه مليونيْ نسمة، ورغم كل محاولاتهم فإنهم لم يستطيعوا شراء سوى 7% فقط من أرض فلسطين، وكان الحل في الإبادة وإزالة المواطنين من وطنهم”.
5- الفلسطينيون تركوا أرضهم طوعاً
الخرافة الخامسة يدحضها المؤلف في كتابه بالنظر في الميثولوجيات المعروفة عما حدث في عام 1948، مبيناً أن القيادة الصهيونية والأيديولوجيين، لم يتمكنوا من تصور التنفيذ الناجح لمشروعهم، إلا بالتخلص القسري من السكان الفلسطينيين، إما عن طريق الاتفاق أو بالقوة”.
ويرى أنه لم يكن مطروحاً في فكر هؤلاء القادة سوى الطرد إلى خارج فلسطين، وإقامة وطن بديل لهم في سوريا أو العراق مثلا. وحتى عندما ألمحت بريطانيا لإمكانية نقل الفلسطينيين إلى نابلس وتوطينهم هناك، لم يوافق القادة الصهاينة وأصروا على أن يكون ذلك إلى الخارج وبالقوة، وعلى دعم بريطانيا لخطة التهجير القسري، وربطوا بين حتمية ذلك وبناء الدولة اليهودية واستقلالها وتماسكها.
حاول الإعلام الإسرائيلي الترويج لديمقراطية “إسرائيل” التي اضطرتها حرب يونيو/حزيران 1967 إلى اتخاذ إجراءات استثنائية
6- حرب يونيو 1967 كانت مفروضة
يطرح الفصل التاريخي الأخير تساؤلاً حول ما إذا كانت حرب 1967 مفروضة على “إسرائيل”، كما يروج الإعلام الإسرائيلي، وبالتالي فقد “أجبِرت” إسرائيل بعد الحرب على الاحتفاظ بغزة والضفة تحت سيطرتها رهنا، حتى يكون العرب على استعداد للسلام معها.
لكن إيلان يؤكد أن الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة يمثل إنجازا للعمل الذي بدأ في عام 1948، ثم أتمه “قرار مصري متهور” في يونيو/حزيران 1967. ويشير إلى أن السياسات الإسرائيلية بعد الحرب على الفور أثبتت أن “إسرائيل” كانت تتوقع الحرب أكثر مما أشيع أنها خاضتها بشكل فجائي”.
مغالطات الحاضر
7- “إسرائيل” ديمقراطية
يدور الفصل السابع حول خرافة أن “إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، ويطرح المؤلف فكرة الرد على هذه الأكذوبة عبر معاينة حالة الفلسطينيين داخل “إسرائيل” والأراضي المحتلة، وهم يشكلون نصف السكان تقريبا المحكومين من قبل “إسرائيل”. ويحاول الإعلام الإسرائيلي الترويج لديمقراطية “إسرائيل” التي اضطرتها حرب يونيو/حزيران 1967 إلى اتخاذ إجراءات استثنائية”.
والحقيقة –بحسب الكاتب- أن “إسرائيلط منذ البداية تُخضع الفلسطينيين للحكم العسكري على أساس طرق غير شرعية وغير ديمقراطية ولوائح الطوارئ الصارخة التي تحرمهم من أي حقوق إنسانية أو مدنية أساسية.
8- اتفاق أوسلو
يتعامل الفصل الثامن مع ما أسماه “بابي” بـ”أساطير أوسلو” من منظور يقيّم نحو ربع قرن من توقيع الاتفاقية، ويمكننا التساؤل عما إذا كا اتفاق سلام فشل أم مجرد حيلة إسرائيلية جديدة لتعميق الاحتلال؟
توقعت الأمم المتحدة أن يُصبح قطاع غزة غير قابل للسكن بحلول 2020 وفقا للمعدل الحالي للتدمير اللاحق به
وبعد آمال عريضة وحصول ياسر عرفات وإسحق رابين وشمعون بيريز على جائزة نوبل للسلام، اكتشف الفلسطينيون في عام 2000 أن التفسير الإسرائيلي لأوسلو يعني نهاية أي أمل في الحياة الفلسطينية الطبيعية، ويحمل في طياته المزيد من المعاناة في المستقبل. ويرى المؤلف أن هذا السيناريو كان خطيئة أخلاقية، وعزز موقف من يرون أن الكفاح المسلح ضد إسرائيل هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأن السلام حلم فاشل.
9- أكاذيب حول غزة
في الفصل التاسع والأطول في الكتاب، يختار المؤلف اتجاهاً جديداً في طرحه ونقاشه، ليقدم تفسيراً مختلفاً عما حدث في غزة منذ القرن الماضي، ويتعرض للدعاية الإسرائيلية التي تُروّج حتى اللحظة لثلاث أساطير تضلل الرأي العام بشأن أسباب “العنف” المستمر في غزة.
هذه الأساطير الثلاث -التي تفسر العجز الذي يشعر به أي شخص يرغب في إنهاء بؤس البشر المحاصرين في إحدى أكثر قطع الأراضي المكتظة بالسكان في العالم- تقول إن “حماس منظمة إرهابية”، و”فك الارتباط الإسرائيلي مع غزة كان عملاً للسلام”، و”الحرب على غزة هي دفاع عن النفس”.
ويبدو أن إسرائيل على وشك شن سلسلة أخرى من الهجمات على القطاع، الذي توقعت الأمم المتحدة أن يُصبح غير قابل للسكنى بحلول 2020 وفقا للمعدل الحالي للتدمير اللاحق به”. وهذا الأمر الذي يسميه المؤلف “حكم الإعدام” أصبح أكثر احتمالا منذ أن أغلقت مصر معبر رفح المنفذ الوحيد للقطاع إلى الخارج.
10- مستقبل الصراع والحل الخرافي
يحتوي القسم الثالث على فصل واحد يتناول ما يراه المؤلف حلّا خرافيًا يجري الترويج له من آلة الدعاية الإسرائيلية ومؤيديها في الغرب، وهو أن “حل الدولتين” هو الطريق الوحيد للمضي إلى الأمام.
ويشبّه المؤلف هذا الحل بأنه مثل جثة تؤخذ إلى المشرحة بين الحين والآخر، ويتم إلباسها ملابس أنيقة، لتظهر كأنها شخص حي، ثم عندما يكتشف الجميع زيف ذلك يعاد إدخالها إلى المشرحة لتعاد الكرة.
هذه الجثة يجب أن تدفن مع باقي قاموس الوهم والخداع بمدخلاته الشهيرة، مثل “عملية السلام” و”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، و”الدولة المحبة للسلام”، و”التكافؤ والمعاملة بالمثل”، و”حل إنساني لمشكلة اللاجئين”.
ورغم أن “إسرائيل” تروج لنفسها على مستوى العالم إلا أنها تبقى في موضع شك مستمر، لأنها قامت على جثث أشخاص آخرين، هم سكان الأرض الأصليون، تم سلبهم ونهبهم بأبشع الأساليب.
يبقى التحرر من الأساطير الكاذبة العشر حول إسرائيل هو الذي سيساعد على إحلال السلام، وإغلاق ملف عصر الاستعمار المظلم
ويجد “بابي” أنه على “إسرائيل أن تتوجه بشجاعة إلى الاعتراف بجرائمها بحق الفلسطينيين، وألا تحاول طمس الحقائق”، ولا يجد أن هذا الأمر في وارد الممكن، إذا ما استمرت في الترويج لهذه الخرافات العشر.
وفي نظر العديد من الإسرائيليين وأنصارهم في جميع أنحاء العالم وحتى بعض العرب والفلسطينيين، وحتى في نظر أولئك الذين ربما ينتقدون بعضا من سياساتها، يشكل الكيان الصهيوني في النهاية دولة ديمقراطية، تسعى إلى تحقيق السلام مع جيرانها، وتضمن المساواة لكل مواطنيها.
لكن كيف تستقيم الديمقراطية مع الفكر الصهيوني والأساطير المختلقة لإقامة إسرائيل؟ كيف تتواءم الديمقراطية مع احتلال شعب آخر؟ ومع اقتراف المذابح بحقه؟ ومع المصادرة اليومية لأرضه؟
يبقى التحرر من الأساطير الكاذبة العشر حول “إسرائيل” هو الذي سيساعد على إحلال السلام، وإغلاق ملف عصر الاستعمار المظلم، وإنهاء الأهوال المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية.