فعل ترمب فعلته الأخيرة التي عجز عنها أسلافه من الرؤساء الأمريكيين منذ أواخر القرن الماضي، وتلك الفعلة المشؤومة طبعا، هي إعلان القدس عاصمة للصهاينة ونقل السفارة الأمريكية إليها، تفاعل الشارع العربي -رغم الوهن والتعب الذي انهكه والذي لولاه ما وقع ترامب قراره- في تحرّكات يومية هي التي ستثبت أن قدس الاقداس هو خط أحمر دونه الدم..لا الخطب والقمم.
قمم قمم عرب وعجم
تحدى ترمب الشارع العربي والإسلامي، لكن الأخير لم يستسلم بعد أسبوع من الحراك في مشارق الأرض وفي مغاربها، حيثما وجد عرب ومسلمون وأحرار العالم، تحركوا وصدحوا وصرخوا بأعلى صوت لا للقرار الأمريكي المنحاز، وقد رأينا متظاهرين في عقر دار ترامب من اليهود يرفعون لافتات ضد الصهيونية العالمية ومع دولة فلسطين.
لا جديد بالنسبة إلى العرب في مواجهة القدس والاحتلال، فقد ظل النظام الرسمي العربي كما كان، ليس أكثر من أن يراقبوا الوضع من فوق الربوة، وما إجتماعهم على مستوى وزراء الخارجية الأحد الماضي بالقاهرة، إلا خير دليل، كعادتهم أدانوا القرار الأمريكي وشجبوا وإستنكروا وناموا.
قمة أخرى، جمعت العرب والعجم في تركيا، لم أكن لأعلق عليها آمالا كثيرة حقيقة، إلا بعدما كثر الحديث عن إمكانية تحقيقها خرقا ولو بالنزر اليسير، لاعتبارات عدة.
فأولا، قمة منظمة المؤتمر الاسلامي هذه المنعقدة في تركيا، هي قمة ليست بالعادية بل هي استثنائية وفي ظرف جد استثنائي ظلت فيه كرة اللهب متدحرجة وقابلة للاشتعال في أي مكان، وفي أي لحظة، نظرا للتحالفات المعقّدة، والمتغيرة حسب لعبة المصالح.
اللافت أن يحضر رئيس فنزويلا مادورو الذي لم يفوت فرصة حضوره بصفته يرفض ممارسات الكيان الصهيوني..لكن في المقابل تغيبت دول عربية كبرى !
ثانية، القمة إسلامية وليست عربية كما عهدنا، أي أن الوازع الديني هنا مهم، ويكفي التذكير بسبب نشأة منظمة التعاون الاسلامي كرد على حرق المسجد الأقصى، ثم باعتبار أن القدس قد يستفز مليار ونصف المليار مسلم للتحرك وقد تحركت شعوبهم فعلا، وبالتالي فإن الرد على قرار يهودية الكيان الصهيوني يجب أن تكون على أساس اسلامية القدس، وقدسيته كعاصمة لدولة عربية مسلمة تاريخية هي فلسطين.
ثالثا، وأعتقد أنه العامل الأهم في أهمية القمة، وهو غياب دول المحور العربي المعتدل، كما يحلو للغرب تسميته، فمن لا يعترف باسرائيل بالنسبة إليهم هو متطرف ومتشدد وهو في قوائم الارهاب السوداء، هذه النقطة بالذات لم يفوتها الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقد كررها مرارا حتى في غير هذه القمة.
رابعا، تأتي القمة في توقيت مهم، تأتي تواصلا للزخم الشعبي الضاغط والمنبه للرأي العام السياسي والغربي، وباعثة لرسالة علنية مباشرة، مفادها أن الأمة حية ورأيتموها على الأرض، وها أنتم ترونها في الجانب الرسمي.
لكن على الجانب المستقبلي والقريب، فإما أن تكون هذه القمة المحرار لنبض المتحركين، أي أنها ستحفز الشارع العربي والاسلامي والداخلي الفلسطيني على مزيد من التصعيد والمضي إلى الأمام، أو أنها ستكون شماعة لتعليق يأس جمهور الثائرين، وهذا الأخطر على المستقبل العربي والاسلامي وحتى الفلسطيني، أي مزيد من تكريس الانقسام !
غياب دول الحصار (الأربع) ودول المحور العربي المعتدل (السعودية ومصر) يبدو غير مستغرب، فإذا عُرف السبب بطل العجب
وبالرغم من أن منظّمة العالم الإسلامي تضم 57 دولة، فإن منهم 48 ممثلا، ومن ضمنهم 16 على مستوى الرؤساء، يتقدمهم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي تتلى بلاده الرئاسة الدورية لمنظمة التعاون الاسلامي والذي هو دعا للقمة الاستثنائية هذه.
كذلك حضر القمة قادة الكويت وقطر والأردن والسودان وإيران، والصومال، واليمن، وطاجيكيستان وأذربيجان، واللافت أن يحضر رئيس فنزويلا مادورو الذي لم يفوت فرصة حضوره بصفته يرفض ممارسات الكيان الصهيوني..لكن في المقابل تغيبت دول عربية كبرى !
غياب قوى الاعتدال العربي
لقد غابت قادة قوى عربية سنية فاعلة في المنطقة، فاكتفت كل من السعودية والامارات ومصر، بارسال ممثلين عنها، فهل يبدو ذلك لخلافها مع الرئيس التركي أم لموقفها من ترمب والكيان الصهيوني؟ نفس الدول الثلاث اذا أضفنا إليها البحرين لغيابها بدورها، ستصبح بذلك دول الحصار الخليجي على قطر قد قاطعت أعمال القمة، فما علاقة هذا بتلك ؟
غياب دول الحصار (الأربع) و ودول المحور العربي المعتدل (السعودية ومصر) يبدو غير مستغرب، فإذا عُرف السبب بطل العجب، وإلا فإذ كيف لتلك الدول أن تسجل حضورها بقوة، وهي التي لطالما عوّلت عليها الادراة الأمريكية في محور تسميه بقوى “الاعتدال العربي”، لكن المستغرب أكثر هو أن تلوذ تلك القوى العربية الموسومة بالوسطية بذلك الحجم المريب من الصمت المطبق رغم حجم الخطوة الاستفزازية الأمريكية، وما تعنيه من دلالات كبيرة ومستقبلية على المنطقة برمتها.
مع حالة الترهل التي يعيشها التحالف العسكري الاسلامي، وعدواة السعودية وايران المُعلنة أحيانا والخفية أحيانا أخرى، اظهرت خطوة ترامب أزمات جديدة إلى المنطقة لتزيد من تعكير صفو الاوضاع
رغم تسريبات الاعلام الصهيوني من أن دول عربية كانت على علم بقرار ترامب وبموافقة العرب على نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس، في اطار صفقة القرن، فإني أرى كغيري، أن الفارق واضح وكبير بين قمة السعودية الاسلامية والقمة الاسلامية بتركيا.
كانت قمة الرّياض مخصصة لحضرة ترامب، بينما القمة الإسلامية جاءت كنتيجة لقرارات ترامب، وأن الصمت العربي الرسمي وادانات الأنظمة العربية الرسميّة لا تخرج عن كونها رفعا للحرج على حكام العرب الصامتين أو المتواطئين أو ربما المتآمرين على القضيّة، ولعل في كلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس في آخر كلمته بالقمة الاسلامية، ما يبرر للصمت العربي عندما شكر عباس جهود المملكة وملكها سلمان وابنه ولي العهد وعدم قبولهما بغير القدس عاصمة لدولة فلسطين.
بوصلة مشبوهة
وفي خضم الوضع المتدهور في المنطقة وتأشير بوصلتي الرياض والقاهرة الى جبهات داخلية أو مجاورة، كاليمن بالنسبة إلى السعودية وسيناء بالنسبة إلى القاهرة، فإن مسألة القدس لم تعد أولوية، ناهيك عن ترنح الرهان السعودي على تحالف عربي سني في وجه هلال شيعي كانت السعودية بنفسها أوّل المحذرين منه.
ذلك التحالف العسكري لم يعد يذكر بعد مضي عامين عليه ولم يحقق أهدافا تحسب له خاصة في اليمن التي لاتزال فيها الأمور معقدة وتبدو المملكة السعودية وحليفاتها في موضع لا يحسدون عليه، اذ يشكو التحالف العسكري من أمور أخرى عدة تبدأ بعدم التجانس بين دوله وربما اختلاف النظرة إلى إيران، ومرورا بخروج قطر ونية مغادرة السودان كذلك، وانتهاء بغياب رؤى موحدة حول ما يجري في الشرق الأوسط بشأن خارطة التحالفات ناهيك عن مفاهيم متعلقة بالارهاب، وهو أصل تكوين التحالف.
جاء وعد القدس المتهور لفضح رهانات عربية قديمة تأكد خسرانها ومن غير المنطق مواصلة السير في خطها
أزمات جديدة
مع حالة الترهل التي يعيشها التحالف العسكري الاسلامي، وعدواة السعودية وايران المُعلنة أحيانا والخفية أحيانا أخرى، أظهرت خطوة ترامب أزمات جديدة إلى المنطقة لتزيد من تعكير صفو الأوضاع، وظهور تقارب جديد بين القوى تمهيدا لتشكيل تحالفات أقوى.
رغم محاولات التقارب بين السعودية وإيران الواضحة بعد وساطة العراق وبعد زيارة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للرياض وابو ظبي، فإن ايران غير متحمسة لتلك العلاقات لعدم تسرع وتيرتها وجمودها، ثم كون طهران ليست بالمبادِرة، ثم أكثر من ذلك فإن ايران على استعداد للذهاب أكثر في التحالف مع تركيا وروسيا.
وبالتالي فإن الحلف القوي سيمر حتما عبر القدس، وسبل نصرة فلسطين التي باتت تتصارعها عدة محاور بعد أزمة القدس الترامبية، فإن العرب اليوم باتوا مكرهين لا مخيرين، على ضرورة التحرك.
يجب تقوية المحور العربي السني ليطلع بالدور المفقود أو المهادن والضعيف أو لنقل المخطئ في اتجاهه، للأسف القوى العربية الكبرى لا تشتغل على بوصلة واحدة موحدة وعلى مستويات وجبهات عدة، وغياب السعودية والامارات ومصر عن القمة الإسلامية خير دليل، أليس من الأجدر بهم العمل على مصالحهم قبل مصلحة الفلسطينيين طالما أن نصرة القدس ستجلب لهم لا محالة مصالحهم! وأولها نيل رضا الشارع العربي والاسلامي، وذلك لعمري أكبر انتصار، فلا لوم بعد اليوم إن صعدت قوى أخرى وأصبحت مضايقا لقوى الاعتدال أو الاعتلال.
لقد جاء وعد القدس المتهور لفضح رهانات عربية قديمة تأكد خسرانها ومن غير المنطق مواصلة السير في خطها، وأبرزت خيارات أخرى بدأت تتشكل بين إيران وتركيا وتدعمها قطر قادرة على الضغط والمناورة واستغلال نقاط الارتكاز، هذا هو الحل المفقود عند محور الاعتدال العربي الأمريكي.. لكن أنى يكون ذلك؟!
لقد نسفت أمريكا بنفسها هذا المحور الذي ارتضته لوساطتها، كوسيط نزيه ومحايد لكن هاهي اليوم كشرت عن ناب اللوبي اليميني المتطرف، بيد أن المحور العربي المعتدل والمعتل ظل كعادته بارد الاعصاب وبارعا في سياسة الهروب إلى الأمام، لكن هذا الهروب من المواجة المستمر إلى متى سيستمر؟