بعد مرض طويل وهجرة واغتراب لأكثر من 60 عامًا، توفي فجر اليوم الجمعة الداعية والعالم الإسلامي البارز، والمراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، عصام العطار، عن عمر ناهز 97 عامًا، في مدينة آخن الألمانية، تاركًا وراءه إرثًا كبيرًا من الإرشاد والإصلاح والنضال ضد نظام الأسد.
نشرت عائلة العطار بيان نعيه عبر صفحته الرسمية في فيسبوك، جاء فيه: “توفي والدنا عصام العطار، الليلة (ليلة الجمعة 23 شوال 1445 للهجرة، 3 أيار 2024م)، تغمده الله برحمته ورضوانه. وهو يسألكم المسامحة والدعاءَ له بالمغفرة وحسن الختام”. كما حضرت في البيان كلمات العطار الوداعية قبل وفاته، والتي قال فيها: “وداعًا وداعًا يا إخوتي وأخواتي وأبنائي وبناتي وأهلي وبني وطني. أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، وأسأل الله تعالى لكم العون على كل واجب وخير، والوقاية من كل خطر وشر، والفرج من كل شدة وبلاء وكرب… سامحوني سامحوني. واسألوا الله تعالى لي المغفرة وحسن الختام… شكرًا لكم شكرًا.. جزاكم الله خيرًا.. أخوكم عصام العطار”.
من جهتها، نعت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا العطار عبر مراقبها العام عامر البو سلامة، الذي قال: “العطار قاد الجماعة في ظروف صعبة كانت تعيشها البلاد، فكان نعم القائد ونعم المسدد”، مضيفًا أنه “مفكر بارز، ومصلح مميز، ومجاهد تشهد له سوح التضحية والنضال والفداء بكل مفردات العطاء، وخطيب يشار له بالبنان، وتعقد عليه الأنامل”.
وأضاف: “كان العطار وطنيًا يلبي احتياجات الوطن، وعاش همومه، وعمل له، ضمن توازنه المعهود، وسياسته الحكيمة، وله أدواره المشهودة في قولة الحق، وبناء منظومة القيم الصالحة، من خلال عمل جماهيري، قارع فيه الظلم والاستبداد ومصادرة الحقوق بفهم سليم للداعية وحركة المجتمع، إذ كان حاضرًا بين الناس يعيش واقعهم، ويفهم حاضرهم بوعي لافت، وشجاعة نادرة”.
من هو العطار؟
هو عصام رضا العطار المولود عام 1927 في دمشق القديمة، لأسرة تعمل ببيع العطور وتتميز بجذور عريقة اجتماعيًا وعلميًا ودينيًا، إذ يُعرف عن والده رضا الذي تولى رئاسة محكمة الجنايات أنه أحد أعمدة القضاء الشرعي المشهود لهم بالمكانة والعلم والقضاء بين الناس على المذهب الشافعي.
انتقل إلى دار الحق بمدينة آخن في ألمانية : الأستاذ المربي عصام رضا العطار (1927-2024).
أحد القادة التاريخيين للحركة الإسلامية بعد مرض طويل وهجرة واغتراب لأكثر من ستين عاماً .. استشهدت زوجته بنان ابنة الشيخ علي الطنطاوي اغتيالاً من قبل النظام السوري (آذار 1981). وفشلت عدة… pic.twitter.com/u8UZEuCWff— أحمد معاذ الخطيب (@Mouaz_AlKhatib) May 3, 2024
كما كان من محبّي ومناصري السلطان عبد الحميد، إذ شارك إلى جانب العديد من رجالات دمشق في محاربة الاتحاديين ورفض التتريك، قبل أن يحكَم عليه غيابيًا بالإعدام ويهرب ويعيش سنوات في جبل الدروز في السويداء جنوب سوريا، إلا أن هروبه وعيشه سنين في جبل العرب بين الدروز السوريين لم يمنع الأتراك من نفيه إلى إسطنبول، ليعود مع الحرب العالمية الأولى إلى دمشق، وبعد انهيار السلطنة العثمانية بسنوات قليلة.
درس العطار سنوات تعليمه الأولى في دمشق ذات المناخ الديني آنذاك في مدرسة التجهيز قرب المنشية، وبرز منذ شبابه بين الدعاة الإسلاميين الجامع بين الآداب والعلوم والسياسة، إذ أثّرت في ثرائه المعرفي واللغوي دراسته الدين والقرآن والتاريخ والأدب والفلسفة في المعهد العربي وبعض المعاهد والمدارس الخاصة في دمشق.
رحلته مع الإخوان
يعتبر لقاء العطار مع الدكتور مصطفى السباعي العائد من مصر آنذاك وزعيم جمعية الهداية (نواة جماعة الإخوان قبل تأسيسها) بداية رحلته مع الجماعة، إذ أقامت الجماعة في صيف عام 1946 معسكرًا تدريبيًا ضمّ 300 شاب، وفي تلك الفترة التقى عصام العطار بالسباعي، وصار ملازمًا له ومقرّبًا منه وعضوًا في الجماعة التي يتولى السباعي زعامتها بمنصب حمل اسم “المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا”.
سنوات قليلة وعقب تسلم الديكتاتور أديب الشيشكلي زمام الحكم في سوريا، لوحق العطار بسبب انتقاده الشيشكلي ليضطر إلى السفر نحو مصر، آخذًا بنصيحة أستاذه علي الطنطاوي بتفادي الصدام مع نظام الشيشكلي وتخفيف حدّة التوتر، وهناك قابل العطار الهضيبي المرشد العام للإخوان، وسيد قطب، والبشير الإبراهيمي شيخ علماء الجزائر، ومحمود محمد شاكر عالم العربية الكبير، والأديب عبد الوهاب عزام.
لدى عودة العطار إلى دمشق، راح آلاف الشباب يرتادون خطبه بمسجد جامعة دمشق في البرامكة والحلبوني، لما تتضمنه من شجاعة وبلاغة وقوة تأثير، ليتم اختياره عام 1955 أمينًا عامًا لهيئة المؤتمر الإسلامي بالإجماع بعد انعقاد المؤتمر في دمشق، ضمّ وقتها كل شيوخ سوريا الكبار وكل السياسيين السوريين الإسلاميين، ومنهم محمد المبارك ومعروف الدواليبي ومصطفى الزرقا وكل الجمعيات الثقافية الإسلامية.
لم يمرّ عام حتى كُلّف عصام العطار بقيادة الإخوان المسلمين في سوريا، بعد أن أوفدت جامعة دمشق مصطفى السباعي إلى أوروبا للاطّلاع على مناهج الدراسات الإسلامية.
آراء العطار
رفضُ العطار عروض المشاركة في الحكومات السورية المتعاقبة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي والتعيينات السياسية هو أبرز ما ميّز منهجيته، لإيمانه بمبدأ أن الحكومات القائمة على الانقلابات العسكرية لا يمكن أن تعيش طويلًا، فقد رفض بعد عودة السباعي من أوروبا دخول الإخوان العملية السياسية في سوريا، لتقديره أن هناك تحركات للحيلولة دون نجاحهم، إلا أن السباعي كان قد حشد الرأي لدعمه في الترشح للبرلمان، قبل أن يخسر نتيجة للتلاعب والتزوير بنتائج تلك الانتخابات ويصاب بالشلل.
ثم بدأ عهد الوحدة ليقبل العطار بحل ّالجماعة بناءً على شروط جمال عبد الناصر للوحدة مع سوريا، والذي لم يسلم أيضًا من لسان العطار وانتقاده في خطبه بدمشق.
أصرّ العطار على منهجية الرفض، إذ رفض المشاركة في حكومة معروف الدواليبي التي أتت عقب انقلاب 1961، ورفض الانقلاب الذي أطاح بالرئيس ناظم القدسي رغم اختياره ضمن 13 شخصية لاستلام الحكم.
حين وقع انقلاب البعث كان للعطار مواقف هجومية ضده، لا سيما أنه كان ضمن الرافضين أيضًا على التوقيع على بيان الانفصال عن مصر، ممتنعًا عن المشاركة في أي وزارة أو انتخابات بسبب ابتعادها عن الديمقراطية، إذ قال: “لا يمكنني القبول بالمشاركة في حياة تقول إنها ديمقراطية لكنها جاءت بانقلاب عسكري، وهذه الانتخابات لن تعيش طويلًا حتى يتم الانقلاب عليها من جديد”.
وبالفعل وقع انقلاب جديد، ليرفض مرة أخرى المشاركة في العملية السياسية السورية الجديدة التي فرضها الانقلاب، حيث يقول واصفًا انقلاب البعث 1963: “رأيت الوجه الطائفي من وراء الحركة، وأعلنت ذلك صراحة، فبعد قيام الانقلاب مباشرة أُعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، فأعلنت استمرار العمل الإسلامي، وفي أول خطبة جمعة لي في مسجد الجامعة أمام عشرات الألوف، وكانت الجامعة محاصرة بقوات الجيش والشرطة العسكرية؛ أعلنت من على منبر مسجد الجامعة أننا نحن صفحتنا أنصع من أي صفحة، وجبهتنا أرفع من أي جبهة، وطريقنا أقوى من أي طريق…”.
فُرضت على العطار الإقامة الجبرية، وتعرض لعدة محاولات اغتيال مباشرة، وتمّ اقتحام بيته عدة مرات من قبل المخابرات السورية التابعة لضباط انقلاب البعث، رغم ما يتمتع به من شعبية كبيرة، إلا أن العام 1964 كان العام الفارق بالنسبة إليه، فبعد عودته من رحلة الحج رفضت سلطات البعث دخوله سوريا خوفًا من شعبيته، ليتنقل في منفاه ما بين لبنان والكويت والأردن ثم إلى بروكسل التي أصيب فيها بالشلل عام 1968، ليحل به المطاف أخيرًا بألمانيا متنقلًا بين مدنها وبيوتها بطلب من السلطات الألمانية، التي كانت تصل إليها معلومات بنيّة مخابرات البعث تصفيته وإرسالهم فرق اغتيال في أثره.
مغادرة الحركة وملاحقة قاسية
بقي العطار مراقبًا للإخوان في سوريا خلال وجوده في منفاه منذ وفاة الدكتور السباعي عام 1964 حتى عام 1973، العام الذي بلغت فيه خلافات الجماعة ذروتها، رغم محاولته خلال تلك الحقبة الاعتذار بسبب وضعه الصحي ليقرر ترك الجماعة والاقتصار على الدور الدعوي، بعد تعيين الشيخ عبد الفتاح أبو غدة مراقبًا عامًا للإخوان بدلًا منه.
يقول عصام العطار عن نفسه: “عمليًا في نهاية السبعينيات، ابتعدت عن العمل في الجماعة، لكن عندما صدر القرار 49 القاضي بإعدام المنتمين للإخوان خرجت وعرفت بنفسي أني المراقب العام للجماعة”.
وكان الأسد الأب قد لاحق حركة الإخوان المسلمين لا سيما بعد أحداث حماة، إذ قام بحظرها في سوريا بموجب المادة رقم 49 الصادرة عام 1980، التي قضت بالحكم بالإعدام على كل من ينتمي إلى التنظيم، بغض النظر عن الأفعال التي ارتكبها.
وتعرض الإخوان لمجازر رهيبة، إذ استهدفت أبرز معاقلهم، وهي مدينة حماة التي تعرضت للمجزرة الأكثر بشاعة، إضافة إلى مجزرة نالت من عدد كبير من منتسبي الإخوان في سجن تدمر الصحراوي.
تابع الأسد الأب ملاحقة العطار الذي حاول الانتقام منه انتقامًا خبيثًا استهدف حاضنته ومكانته لدى مؤيديه، إذ قرّب شقيقته نجاح العطار وعيّنها وزيرة للثقافة ثم نائبًا لرئيس الجمهورية، هادفًا من ذلك ضرب الجماعة ببعضها وإفراغها من قيمتها وإحراج العطار أمام مؤيديه، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تابع الأسد استهداف العطار من خلال تصفية زوجته بنان الطنطاوي ابنة الداعية الدمشقي علي الطنطاوي في ألمانيا عام 1981.
ولعل وسطية العطار واعتداله في التيار الإخواني هما ما دفعه إلى الانشقاق عن التنظيم من جهة، وسبب وجيه أيضًا لملاحقته الحثيثة من قبل الأسد الأب الذي رأى أن خطره أعظم باعتبار قدرته البالغة في التأثير وإمكانية تغيير شكل الصراع مع السلطات الحاكمة، ليحاول استمالته وقبول عودته إلى سوريا، العرض الذي قابله العطار بالرفض القاطع.
يقول العطار في لقاء صحفي: “أنا ما من أنصار الصراعات الطائفية أو الغير في البلاد، واعتبرت النظام مسؤول عن أمور العنف التي تقع لأنه سدَّ كل سبل التغيير الديمقراطي، التغيير الطبيعي، فهو الذي تسبّب في اندفاع الناس لاستخدام السلاح ولاستخدام العنف”.
رحلة المنفى
نازع الخطاب السلمي عقلية العطار، فكانت له اجتهاداته ومواقفه الخاصة به كرجل سياسة إسلامي، انصرف للبحث والقراءة والكتابة، لا سيما في القضايا الفكرية والفلسفة الأوروبية، حيث قام بتأسيس المنتدى الإسلامي الأوروبي للتربية والثقافة والتواصل الإنساني والحضاري، وكان له تواصل مع رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان، قبل أن تقيّد السلطات الألمانية تحركاته وتجمّد نشاطه السياسي.
كما ألّف العطار العديد من الكتب، منها “كلمات”، و”آراء ومواقف”، و”في قضية فلسطين”، و”رحيل” (شعر)، و”أزمة روحية”، و”ثورة الحق” (شعر)، و”يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول”، و”رسالة إلى الإخوة المؤمنين”، و”منطلقات وأهداف”، و”التلميذ الناشئ والشيخ الحكي”، و”من بقايا الأيام”.
“لولا يقيني بربي لاشريكَ له، لما حسبتُ حياتي غيرَ أوهامِ”.. أبيات من الشعر خطّها وألقاها العالم والسياسي المناضل، الراحل عصام العطار، تلخص أيامه الأخيرة#عصام_العطار pic.twitter.com/25vJnQjC3J
— نون بوست (@NoonPost) May 3, 2024
كما كتب المئات من المقالات والعديد من الأشعار، فقد قال عندما أصابه الشلل في بروكسل عام 1968:
يَا رَبِّ إِنّي فِي سَبِيلِكَ مُبْحِرٌ *** وَوَهَى الشِّراعُ وَدَمْدَمَ الإِعْصَارُ
والجِسمُ كَلَّ عن الْحِراكِ وخَانَنِي *** والْبَحْرُ حَوْلي مَارِدٌ جَبَّارُ
عَزَّ الْمُعينُ فلاَ مُعِينَ سِواكَ لي *** فَالْطُفْ بِما تَجْري بِهِ الأَقْدَارُ
فيما رثى زوجته بنان:
“رَحَلتُ عنكُم عَليلا ناءَ بي سَقَمي وما تنازَلتُ عن نَهجي وعن شَمَمي
أُتابعُ الدَّربَ لا شَكوى ولا خَوَرٌ ولو نَزَفتُ على دَربِ الإباءِ دَمي
لا أخفِضُ الرَّأسَ ذُلّا أو مُصانعة هَيهاتَ هَيهاتَ تأبى ذاكَ لي شِيَمي
اللهُ حَسْبي إذا ما عَقَّني بلَد وضاقَتِ الأرضُ عن شَخصي وعن قِيَمي”
عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، ساهم العطار بدعمها معنويًا، مقتصرًا على لقاءات تلفزيونية وتقديم التوجيه والنصائح والخطابات للناشطين، رافضًا في الوقت ذاته الدخول في معمعة التشكيلات السياسية.
ورغم أن العطار ضُرب مرتين على المستوى الشخصي، الأولى بقتل زوجته بنان والثانية بشقيقته نجاح أبرز رموز النظام، إلا أنه فاجأ مؤيديه في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 عندما كتب على صفحته في فيسبوك منشورًا يدعو فيه بشفاء أسماء الأسد، زوجة بشار، من مرض السرطان.
الأمر هذا رفضه السوريون المعارضون، معتبرين ذلك نوعًا من المثالية والموقف غير الموفق تجاه المنظومة التي دمّرت البلاد، فيما ذهب فريق آخر إلى أن الدافع وراء موقف العطار هو اقتراب أجله وعمره الكبير الذي يمنعه من موقف انتقامي ومتشفٍّ.