ترجمة وتحرير: نون بوست
تعتبر المملكة العربية السعودية، التي تنصب نفسها حامية للإسلام وتعد موطن الحرمين الشريفين، مكانا جيدا لتقييم الآثار المترتبة عن اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل على المصالح الأمريكية في المنطقة. وإلى جانب ردود الفعل التي أبدتها بعض الجماعات الإرهابية على غرار؛ حماس وحزب الله، والدول الراعية لها في طهران ودمشق، كانت ردود الفعل الغاضبة الصادرة عن السلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية الهاشمية، ذلك البلد الذي يضم نسبة ضخمة من السكان الفلسطينيين، متوقعة بالتأكيد.
حيال هذه النقطة، لسائل أن يسأل: كيف ستكون ردود فعل أصدقاء الولايات المتحدة الذين تم استبعادهم من دائرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ إذا كان هناك مكان يمكن أن نتوقع منطقيا أن نسمع منه المسلمين يعبرون عن غضبهم الرهيب إزاء قرار تسليم القدس لليهود، سيكون حتما في أروقة سلطة العاصمة السعودية الرياض. لكن ذلك لم يحدث.
خلال الأسبوع الماضي، كنت في الرياض أترأس وفدا مكونا من أكثر من 50 من زملائي في مركز الشرق الأوسط، الذي أتولى رئاسته”. ويوم الأربعاء، أي قبل ساعات قليلة من إعلان الرئيس الأمريكي عن قراره المتعلق بالقدس، أمضينا خمس ساعات في اجتماعات مع ثلاثة وزراء سعوديين لمناقشة مسائل مختلفة؛ على غرار الأزمات في اليمن، وقطر، ولبنان، وبرنامج المملكة الطموح “رؤية 2030″، فضلا عن الطرح العام المحتمل لشركة أرامكو النفطية الحكومية.
في تلك الأثناء، كان البيت الأبيض قد قدم إفادات للدبلوماسيين الأجانب ووسائل الإعلام بشأن مضمون الإعلان المرتقب من الرئيس الأمريكي. وعلى الرغم من أن جوهر الإعلان الوشيك كان معروفا إلا أن كلمة “القدس” لم تذكر أبدا في اجتماعاتنا مع المسؤولين السعوديين في ذلك اليوم”. ولقد ظننت حينها أنه لعل السعوديين كانوا ينتظرون أن ننتهي من اجتماعنا الأخير في ذلك اليوم ليقوموا بالتعليق على هذا الإعلان، وهذا ما جال في ذهني بالضبط خلال حواري مع الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
على مدى عقود، كانت هذه المنظمة تشتهر بنشرها نسخة متطرفة من الإسلام من خلال تمويل المدارس والمساجد والمؤسسات الدينية الأخرى التي كانت بمثابة حاضنات للجهاديين السنة. ومن المؤكد أن الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي كان سيندد بالاعتداء الأمريكي على حُرمة القدس، بيد أن ما أثار دهشتي أن الأمين العام الجديد للمنظمة، محمد العيسى، كان لديه رسالة مختلفة تماما، فكلمة القدس لم تنبس بها شفتاه قط.
بدلا من ذلك، تحدث الأمين العام بفخر عن الصداقات التي أقامها مع الحاخامات في أوروبا والولايات المتحدة، والزيارة التي أداها مؤخرا إلى كُنيس يهودي في باريس، والحوار بين الأديان الذي ينخرط فيه في الوقت الراهن. وبعد ذلك، قلت ربما ينتظر السعوديون سماع تصريح الرئيس الأمريكي بدقة في بيانه الصحفي آملين أن يقتنع في اللحظات الأخيرة بتغيير قراره، وبما أن الرئيس الأمريكي لم يصدر تصريحه حتى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض في ذلك اليوم، ذهبت إلى الفراش في تلك الليلة واثقا من أننا سنرى قريبا الجحيم من المملكة السعودية “القديمة”.
في صباح اليوم التالي، عندما تلقينا تأكيدا بأنه سيكون لدينا مقابلة مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الذي يشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، كنا نعلم أننا سنحصل على رد رسمي منه. وتجدر الإشارة إلى أن محمد بن سلمان وعد بإجراء تغيير سريع وثوري في بلد، تاريخيا، لا يتحرك فيه شيء بسرعة ويعتبر مصطلح ثورة “كلمة قذرة”.
في الواقع، سبق له أن أثبت أنه شخص مجتهد وليس مجرد شخص بارع في التفوه بالترهات، من خلال وضعه لجميع القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية في المملكة في يده. وإذا كنا نريد أن نصف اللقاء مع محمد بن سلمان: يمكن القول إنه في بلد غير معروف بانتهاج سياسة التجزئة يتمتع بن سلمان بمهارات طبيعية لشخص ولد ليكون سياسيا. وعلى الرغم من أنه كان يلبس ثوبا وصندلا إلا أنه يملك جاذبية بن كلينتون. وعندما انتهيت من اللقاء معه بعد 80 دقيقة حتى لا نفوت رحلتنا المغادرة، مكث معي في الغرفة لكي يقوم بمصافحتنا عند المغادرة.
من السهل أن نرى لماذا كان كل الشباب الذين التقينا بهم في الرياض، من طلاب الجامعات، وأصحاب المشاريع الطموحين، والتكنوقراط مولعين بمحمد بن سلمان. في الحقيقة، لقد التقيت بعدد قليل من قادة الشرق الأوسط على مر السنين، وعدد قليل فقط منهم، على غرار الملك الحسين بن طلال، كان يعرف متى يجب نشر السحر، والذكاء، والحكمة، والغضب، واليأس، والأمل، وكيف ذلك. ويتسم بن سلمان بجميع هذه الصفات والخصال إلى جانب الديناميكية التي نادرا ما كان يتسم بها القياديون في هذا الجزء من العالم.
على الرغم من أنه يتحدث بوضوح اللغة الإنجليزية ويفهمها جيدا، إلا أنه فضّل أن يحاورنا باللغة العربية. وبعد بضع جمل، فهمت السبب الذي يقف وراء هذا الخيار. فعندما طفق يتكلم بدأت الأفكار والجمل تتدفق مثل تيار مياه جارف من شفتيه. وأثناء المقابلة، كان لدى محمد بن سلمان الكثير من الموضوعات ليتحدث عنها؛ مثل الفصل بين الرجل والمرأة واحتواء إيران حاليا أو محاربتها لاحقا، وحول نحو مائة موضوع آخر. ولكن، لم يكن من الواضح أن القدس كانت من بين هذه المواضيع.
في الحقيقة، إذا لم نكن سنسأله بشكل مباشر عن إعلان ترامب بشأن القدس… فربما لم يكن ليتحدث عن الأمر بتاتا. لكننا، أردنا مغادرة الرياض ونحن نعلم بوضوح رأيه في القضية. لذلك سألناه”. وللحفاظ على قدر من السرية، لن أنقل ما قاله محمد بن سلمان بالتحديد لكن يمكنني أن أقول إن حديثه اقتصر على كلمة واحدة تعبر عن خيبة الأمل بشأن قرار الرئيس ترامب، ثم تحول سريعا إلى الحديث عما يمكن أن تفعله الرياض وواشنطن لاستعادة الأمل في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، لم يتوقف عند هذا الحد. ففي ذلك اليوم الذي تم وصفه على نطاق واسع بأنه سيكون بداية لإحدى أحلك فترات العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم العربي على مدى عقود، عرض محمد بن سلمان رؤية مختلفة جدا للعلاقات السعودية الأمريكية والشراكة السعودية الإسرائيلية المحتملة.
بالنسبة للعلاقات الأمريكية السعودية، أكد بن سلمان مرارا وتكرارا على قوة الشراكة الأمنية، مشيرا بكل فخر إلى أنها الأقدم في المنطقة، حتى أنها أقدم من تلك التي تجمع بين الولايات المتحدة وإسرائيل. أما عن إسرائيل نفسها، فقد قدّم ولي العهد ملاحظة إيجابية على نحو غير معتاد. وخلافا لما سمعته من قبل الزعماء السعوديين خلال الزيارات السابقة، لم يذكر بن سلمان أي شيء عن التوسع أو الغطرسة أو الظلم أو التعدي الإسرائيلي على حقوق المسلمين في القدس. وعوضا عن ذلك، تحدث ولي العهد عن المستقبل الواعد الذي ينتظر العلاقات السعودية الإسرائيلية حالما يتم إحلال السلام، حيث تعهد من الناحية العملية بتحقيق ذلك.
دون أدنى شك، مثل ذلك الرأي السعودي الرسمي. في المقابل، كنا نتوقع نقدا لاذعا للولايات المتحدة وشجبا بالغا لترامب، بيد أننا سمعنا عوضا عن ذلك توبيخا خفيفا لتحويل الرئيس للقدس عاصمة لإسرائيل ورؤية ملؤها الأمل إزاء الشراكة السعودية الإسرائيلية. لم تُتح لنا فرصة الضغط على محمد بن سلمان بشأن ما سيفعله السعوديون على وجه التحديد لحث السلطة الفلسطينية على التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين. لكن، في مثل هذه الأوقات، تجاوز سماع ولي العهد وهو يؤكد على كل من الشراكة الحالية مع واشنطن، والشراكة المستقبلية مع القدس حين يعمّ السلام، كل توقعاتنا.
من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل: هل كان محمد بن سلمان يقدم ما يريد جمهوره سماعه فقط؟ على الأرجح ذلك ما حدث. ومن المؤكد أن وفدنا شعر بالرهبة من شخصية ولي العهد الجذابة وما كان عليه أن يقوله. علاوة على ذلك، تأثرنا بشكل خاص بسعيه نحو “الإسلام المعتدل” وادعائه بتقليص عدد المتشددين في المؤسسات الدينية السعودية بشكل كبير. كما قدّم الأمير نسبا مئوية محددة لمدى سوء الأوضاع التي كانت تعيشها البلاد منذ سنتين والتراجع الذي يتوقع أن يطرأ على تلك النسب في غضون السنوات الثلاث القادمة. وبالنسبة لي، مثل ذلك اعترافا صارخا بالمسؤولية السعودية عن التعصب الديني ودليلا دامغا على مدى التزامهم بإحداث التغيير.
في الواقع، كانت أجزاء من خطابه أكثر من جيدة حتى أنها بدت غير واقعية. فمن وجهة نظري، لا يبدوا أن السعوديين قد أحرزوا تقدما كبيرا في مواجهة النفوذ الإيراني أو تغيير الأوضاع في اليمن كما يدعون. ومن جهتنا، تخوّف عدد كبير منا من قدرة قائد طموح للغاية على تحقيق تقدم سريع بما فيه الكفاية للحفاظ على الدعم المستمر من شعبه، ولكن ليس بالسرعة الكافية لإثارة ردود فعل عنيفة من قبل أولئك الذين سيفقدهم كنتيجة للتحول الهائل.
في المقابل، في حال كانت تصريحات بن سلمان تماما مثلما رغبنا، فماذا كان سيحدث؟ بكل بساطة، كانت تصريحاته ستكون مغايرة لما ورد في هذا الحوار، وتحديدا كان سيستغل الفرصة حتى يبعث برسالة ثاقبة من خلال هذا اللقاء إلى الزعماء الأمريكيين والمساندين للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، فيما يتعلق بالتكلفة الباهظة لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لكنه أبى أن يفعل ذلك، علما وأن هذا الأمر يعد بالغ الأهمية.
إلى جانب ذلك، يبدو أن الأشخاص الذين تنبؤوا بأن ردود فعل المسلمين والعرب على خلفية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ستتجلى من خلال موجات مروعة من المظاهرات المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، وعمليات عنف جماعي ضد المواطنين والمؤسسات والمصالح الأمريكية، فضلا عن نهاية التأثير الأمريكي في المنطقة بشكل لا رجعة فيه، كانوا على مخطئين في توقعاتهم. فقد كانت مواقف الدول العربية التي تتمتع بوزن إقليمي، أي حلفاء الولايات المتحدة، في مجملها تتسم بالرصانة والاتزان والنضج. ولعل أبرز دليل على ذلك موقف المملكة العربية السعودية.
المصدر: معهد واشنطن