كان الجو خريفيًا عندما جلس رئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على طاولة واحدة فيالهواء الطلق، وكان يجلس الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بينهما، اجتمع هؤلاء في وادي عربة الواقع على الحدود بين “إسرائيل” والأردن بغرض توقيع اتفاقية السلام الثالثة عربيًا، بعد مبادرة سابقة بين مصر و”إسرائيل” وقعت في كامب ديفيد، وأخرى بين فلسطين و”إسرائيل” وقعت في أوسلو.
بعد قليل، وقع رئيسا الوزراء على المعاهدة، وحمل الهواء آلاف من البالونات الملونة في سماء المكان، بينما كانت السماء تمطر قبل بدء الحفل بنحو 20 دقيقة، صواريخ أطلقها حزب الله من جنوب لبنان على الجليل الشمالي، اعتراضًا على المعاهدة.
على مدار السنوات اللاحقة كان الحديث عن إلغاء المعاهدة يطل برأسه كلما حدثت مشكلة بين البلدين، وخلال الأسبوع الماضي، صار الحديث متجهًا نحو ما يبدو بوادر رد فعل، فقد درست لجنة برلمانية معنية بالشؤون القانونية الانتهاكات الإسرائيلية لبنود المعاهدة، على إثر اتخاذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا بنقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” من تل أبيب إلى القدس.
بنود المعاهدة
تنص المعاهدة على تنظيم عدة أمور، فلا تقتصر على قضية القدس فقط، بل تتناول تنظيم حصص المياه في الأنهار المشتركة وحرية الحركة والتنقل والوصول للمواني وحرية الملاحة، بالإضافة إلى تنظيم العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين، والعلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني.
فتح البرلمان لملف المعاهدة لا يعني أنها ستُلغى بالفعل
تتناول المعاهدة أيضًا اتفاقًا بين الأردن و”إسرائيل” على الاعتراف بحدود الأردن وفقًا للحدود التي كانت موجودة أيام الانتداب البريطاني وفتح سفارة لكل من البلدين لدى الأخرى.
وفيما يخص فلسطين، اتفق الطرفان في المادة التاسعة من المبادرة على أن يمنح كل طرف الآخر حرية الدخول للأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية، كما تحترم “إسرائيل” الدور الحاليّ الذي تقوم به المملكة الأردنية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وأن هناك أولوية كبرى لدور الأردن التاريخي في هذه الأماكن عندما تنعقد مفاوضات الوضع النهائي.
ما خيارات الأردن؟
رغم إقرار المعاهدة بالدور الذي يقوم به الأردن في القدس وإشرافه على المسجد الأقصى وباقي المقدسات، فإن هذا البند يعد إقرارًا بما هو موجود فعلاً، لأن الأردن يتولى هذا الدور منذ عشرينيات القرن الماضي، أي قبل نحو 75 عامًا من توقيع “وادي عربة”، هذا الواقع تقره قرارت مجلس الأمن الدولي.
ربما يعني هذا أن خرق “إسرائيل” للمعاهدة، لن يؤثر على الوضع القانوني لإدارة الأردن للقدس، لأنه معترف به من مؤسسة أهم، وبمعنى آخر، فإن الأردن لن يفقد حقه في الإشراف على القدس لو انسحب من المعاهدة.
من ناحية أخرى، فإن فتح البرلمان لملف المعاهدة لا يعني أنها ستُلغى بالفعل، وما زال الأمر محصورًا في إطار المناقشة، 14 نائبًا فقط وقعوا على طلب مناقشة الإلغاء، من أصل 150 نائبًا، ورغم لهجة الغضب التي تتردد على لسان الساسة الأردنيين، على المستوى الرسمي وغير الرسمى، فلم يعلن أحد ذو سلطة أعلى تأييد هذه الخطوة حتى الآن.
أثيرت قضية إلغاء الاتفاقية في شهر يوليو الماضي عندما تم قتل مواطنين أردنيين على يد حارس السفارة الإسرائيلية في عمان، وكان رد الفعل الأردني فتح تحقيق في الأمر
صحيح أن البرلمان وافق الأسبوع الماضي بالأغلبية على مراجعة الاتفاقيات مع “إسرائيل”، وعلى افتراض أن البرلمان اتخذ قراره بتعليق المبادرة وإلغائها، فلا يعني هذا دخول القرار حيز التنفيذ، لأن البرلمان الأردني له اختصاص المشورة والمراقبة فقط والملك صاحب الحق في اتخاذ قرار كهذا.
مناقشات سابقة لإلغاء المعاهدة لم تصل إلى شيء
سبق أن أثيرت قضية المعاهدة على الصعيد البرلماني في السنوات الأخيرة، ولم ينبني على ذلك أي شيء رغم صدور قرارات برلمانية باتخاذ رد فعل معين.
مطلع عام 2009، وقف رئيس الوزراء نادر الذهبي أمام البرلمان، ليعلن إعادة النظر في العلاقات مع “إسرائيل” انطلاقًا من المصلحة الأردنية العليا وخدمة للقضية الفلسطينية، كان الغضب الشعبي المصاحب للاعتداء على غزة وقتها يدفع ناحية هذه الخطوة، لكن المبادرة التي اعتبرها كثيرون وقتها “حبرًا على ورق”، دافع عنها المتحدث باسم كتلة الإخاء النيابية الدكتور حازم الناصر.
اعتبر الناصر وقتها أن المصالح الأردنية التي حققها الأردن، خصوصًا على الصعيد المائي، تدفع لرفض إلغاء المبادرة، لأن الأردن يحصل على 55 مليون متر مكعب من طبريا وحوض اليرموك، وإلغاء المعاهدة يعني أن تتوقف المشاريع الإقليمية، خصوصًا قناة البحرين التي كانت تقام بين ثلاث دول، هي الأردن وفلسطين و”إسرائيل”، وأضاف الرجل أن ترسيم الحدود مع الأردن وعودة العديد من أراضي وادي عربة للأردن، من الفوائد السياسية للمعاهدة.
اخترقت “إسرائيل” أيضًا نصوص المعاهدة التي تنص على توزيع حصص المياه، حيث قامت ببناء سدود على عدد من الأودية التي تصب في وادي الرقاد
هذا الكلام يعني أن هناك اعتبارات أخرى غير العلاقات الدبلوماسية والسياسية سيقوم أي صاحب قرار في الأردن بمراعاتها قبل إلغاء المعاهدة، وهو ما يبدو أنه يحدث بالفعل، على افتراض أن أصحاب القرار يرغبون بالفعل في اتخاذ رد فعل ضد “إسرائيل” والمعاهدة.
في عام 2014، قتل القاضي رائد زعيتر برصاص أحد الجنود الإسرائيليين على الحد الفاصل بين الضفة الغربية والأردن، عندها أمهل مجلس النواب الحكومة أسبوعًا لاتخاذ موقف قوي تجاه الحدث، وإلا سيصوت على حجب الثقة عنها، وصوت المجلس بالأغلبية على طرد السفير الإسرائيلي من الأردن واستدعاء سفير الأردن من تل أبيب، لكن الحكومة لم تنفذ القرار واعتبرته مشورة نيابية غير ملزمة، كما ينص الدستور.
أثيرت القضية أيضًا في شهر يوليو الماضي عندما تم قتل مواطنين أردنيين على يد حارس السفارة الإسرائيلية في عمان، وكان رد الفعل الأردني فتح تحقيق في الأمر، في حين عاد طاقم السفارة إلى “إسرائيل”.
خروقات متعددة دون رد فعل
الخروقات الإسرائيلية للمعاهدة بدأت بعد توقيعها بـ3 شهور فقط، عندما صادق الكنيست الإسرائيلي على قانون تضمن استثناء الأردنيين الذين يغادرون أملاكهم في الأراضي التي تسيطر عليها “إسرائيل”، بعد توقيع معاهدة وادي عربة من تطبيق قانون “أملاك الغائبين”، في حين يطبق بشكل طبيعي على المغادرين بعد النكبة وقبل توقيع المعاهدة، احتج الأردن على ذلك بمذكرة رسمية لم يرد عليها حتى الآن.
بعدها بعامين، دخل عميلان للموساد الإسرائيلي إلى الأردن بجوازات سفر كندية، ووضعوا سمًا لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، في ذلك اليوم هدد الملك حسين بقطع العلاقات مع “إسرائيل”، إن لم تحضر الترياق المضاد للسم، لكن الأزمة انتهت بإطلاق سراح عشرات المعتقلين الأردنيين والفلسطينيين من المعتقلات الإسرائيلية، منهم زعيم حركة حماس الشيخ أحمد ياسين.
من المستبعد أن يلغي الأردن علاقاته مع “إسرائيل”، خاصة أن الاجتماع الأخير لوزراء خارجية جامعة الدول العربية، لم تخرج توصياته عن الاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين، في مقابل القرار الأمريكي
اخترقت “إسرائيل” أيضًا نصوص المعاهدة التي تنص على توزيع حصص المياه، حيث قامت ببناء سدود على عدد من الأودية التي تصب في وادي الرقاد، أهم روافد نهر اليرموك الذي تبلغ سعته التخزينية 15 مليون متر مكعب.
وادي عربة نفسه الذي وقعت فيه المبادرة، لم يشهد أي تطوير رغم الوعود التي تضمنتها المعاهدة، ولا يزال الناس يعيشون هناك في خيام دون مدارس أو رعاية صحية أو باقي مقومات الحياة.
بعيدًا عن كل هذه الأحداث، فإن المسجد الأقصى نفسه تعرض للانتهاكات المتتالية منذ توقيع المعاهدة حتى الآن، ولا زال تهجير السكان العرب من القدس متواصلاً، بالإضافة إلى تغيير معالم المسجد التي تتم في أوقات مختلفة، مثل تغيير معالم باب العامود أحد أبواب المسجد الأقصى.
تبدو معاهدات السلام العربية مع “إسرائيل” أكثر رسوخًا من أي شيء آخر، فرغم أن الأوضاع في سيناء مضطربة منذ 5 سنوات، وشهدت تدخل إسرائيلي أكثر من مرة لاستهداف مطلوبين، لم تتخذ مصر خطوة ضد كامب ديفيد.
وإذا كانت معاهد أوسلو نفسها التي وقعت بين الفلسطينيين والإسرائيليين في عام 1993، لم يتم إلغاؤها، رغم وقوع كل هذه الانتهاكات بحق القدس والمسجد الأقصى، ورغم نبرة الغضب الأعلى التي يتبناها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فمن المستبعد أن يلغي الأردن علاقاته مع “إسرائيل”، خاصة أن الاجتماع الأخير لوزراء خارجية جامعة الدول العربية، لم تخرج توصياته عن الاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين، في مقابل القرار الأمريكي.