وحد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الصنهاجي بلاد المغرب وأنقذ الأندلس من الضياع، وعند وفاته ترك خلفه دولة قوية تمتد من مدينة بجاية الجزائية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن منطقة بلاد السودان جنوبا حتى بلاد الأندلس (إسبانيا) شمالا.
توفي أول من حمل لقب “أمير المسلمين” في الدولة المرابطية، وعهد لابنه علي بالحكم فواصل الابن المسيرة واتخذ الجهاد في سبيل الله طريقا له فبلغت في عهده الدولة المرابطية أوج قوتها وضخامتها، وقد دانت له الأندلس والمغرب وأجزاء واسعة من غرب أفريقيا.
علي بن يوسف بن تاشفين
ولد علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني وكنيته “أبو الحسن” عام 477 هجري بمدينة سبتة، وأمه هي قمر أو قمرة من الأندلس، ونشأ ابن يوسف في عائلة حاكمة حرصت على تعليمه أصول الحكم منذ صغره.
كما نشأ على حب الجهاد داخل أسرة ملتزمة بدينها الإسلامي، مثل باقي قبائل صنهاجة آنذاك، كما كان شجاعا وقياديا وهو صغير السن، ما جعل والده الأمير يوسف يقدّمه على باقي اخوته ويقلده المناصب المهمة في الدولة.
في سن الـ18 عيّنه والده أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وهو في قرطبة وليا للعهد، فسارع القادة والولاة والفقهاء لمبايعة عليًا بولاية العهد، ورأوه أهلًا أن يسترعى فيما استرعاه.
ورغم أنه أصغر إخوته سنًا، إلا أن تولية علي لم تسجل أية معارضة من أي جانب، وأصدر بعد ذلك زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين أوامره أن ينقش اسم ولي عهده إلى جانب اسمه على السكة، فصدرت النقود تحمل في إحدى وجهيها: “لا إله إلا الله – الأمير علي بن الأمير يوسف بن تاشفين”، وأُمر بالدعوة له في المساجد خلال خطب يوم الجمعة.
الحكم ومواصلة الجهاد
تقلد علي مقاليد الحكم مباشرة إثر وفاة والده سنة وتسمّى بأمير المسلمين وسنّه يوم بويع 23 سنة، وكانت وصية الأب لابنه “ألا يهيج أهل جبل درن ومن وراءه من المصامدة وأهل القبلة، وأن يهادن بني هود وأن يتركهم حائلًا بينه وبين الروم، وأن يقبل من أحسن من أهل قرطبة ويتجاوز عن مسيئهم”.
يقول المؤرخ ابن عذاري المراكشي إن “الأمير أبو الحسن تقدم لذلك فاستعان بالله واستنجده وسأله حسن الكفاية فيما قلده، فوجده ملكًا مؤسسًا، وجندًا مجندًا، وسلطانًا قاهرًا، ومالاً وافرًا، فاقتفى إثر أبيه، وسلك سبيله، في عضد الحق، وإنصاف المظلوم، وأمن الخائف، وقمع المظالم، وسد الثغور، ونكاية العدو، فلم يعدم التوفيق في أعماله، والتسديد في حسن أفعاله”.
إثر توليه الحكم، أقام أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين العدل وأنفذ الحق وضبط الثغور وتوجه إلى الجهاد ووزّع الاموال وردّ أحكام البلاد إلى القضاة حرصا على العدل بين الرعية وسلك طريقة أبيه في جميع أموره حتى تستقيم حال البلاد والعباد فالأمانة كبيرة وليس من السهل تحملها.
استظهر أمير المسلمين بالأذكياء وآثر أهل العلم، حتَّى إنَّه لا يقطع أمرًا إلاَّ بمشاورة العلماء، حتى لا يقع في الخطيئة وينفذ من وزرها، عملا بنصائح أبوه التي تعلّمها من شيخه عبد الله بن ياسين، المربي والفقيه الأول لدولة المرابطين.
السيطرة على الأندلس
بعد سنة واحدة من توليه الحكم، توجه أمير المسلمين بجيوشه نحو الأندلس وحقق المرابطون أحد أعظم انتصاراتهم في الأندلس بعد 22 عاما من انتصارهم الكبير في معركة “زلاقة” إذ هزم فيها الجيش القشتالي هزيمة ساحقة في معركة سميت في المراجع الإسلامية معركة أقليش وفي المراجع الغربية معركة “الكونتات السبعة”.
بعد هذه المعركة التاريخية التي قُتل فيها ابن ملك قشتالة الوحيد (ألفونسو السادس) سانشو، تتالت انتصارات المسلمين على الصليبيين في بلاد الأندلس التي فتحها قائد جيوش المسلمين في الغرب طارق بن زياد بداية القرن الثامن ميلادي، وملكوا مدينة سرقسطة لتنتهي بذلك استقلالية آخر ممالك الطوائف الأولى، وتغدو إحدى ولايات المرابطين.
استطاع المرابطون سنة 1115 ميلادي أن يفتحوا جزر البليارـ ميورقة ومنورقة ويابسة ـ بشرق الأندلس ويخلصوها من الاحتلال النصراني الذي طرأ عليها، وولّى أمير المسلمين عليها قائده محمد بن علي بن يحيى المسوفي المعروف بابن غانية، فتوارثها بنوه من بعده.
قام أمير المسلمين بتوسيع أراضي دولة المرابطين في شبه الجزيرة الأيبيرية وتوسع نحو لشبونة وشنترة وقُلُمرية وبطليوس ومنها إلى يابُرة ووصلت جيوشه إلى حدود برشلونة وفتحوا قلاع كثيرا في تلك المنطقة قبل أن تقرر العودة إلى مدنها.
غنم الأمير علي بن يوسف مغانم كثيرة وأثار الخوف والرعب في ملوك الإفرنجة والصليبيين، ما جعلهم يمتنعون عن التحرش بملك المسلمين، حتى أن صاحب صقلية أراد قتال حاكم الدولة الزيرية في إفريقية علي بن يحيى، ولما سمع باستنجاد هذا الأخير بعلي بن يوسف، أعرض عن القتال لما يعرفه من قوة وبأس زعيم المرابطين.
تحصين المدن وسقي أهلها
في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف أصبحت إسبانيا المسلمة بأكملها -باستثناء فالنسيا المستقلة تحت حكم السيد “رودريغو دياز دي فيفار”- تحت حكم المرابطين وتم تقوية الاتحاد بين إسبانيا وأفريقيا، وتجذرت الحضارة الأندلسية.
ورغم أنهم كانوا أقلية أمازيغية على رأس الإمبراطورية الإسبانية المسلمة، إلا أن المرابطين تمكنوا من ترك بعض خصائصهم في بلاد الأندلس، حيث عبر الكتاب والفنانون مضيق جبل طارق واستقروا في بلاد الإيبار وأثروا في أهلها.
تفكيره الكبير في الجهاد وحرصه على سلامة المسلمين، دفع الأمير علي سنة 520 هجري إلى بناء سور حول العاصمة مراكش عملا بنصيحة أبي الوليد بن رشد، فالأعداء يتربصون بمركز حكم المرابطين ويحاولون الانقضاض عليه.
فضلا عن سور مراكش، أمر أمير المسلمين علي بن يوسف بإصلاح الأسوار في الأندلس، فاجتهد كل أمير في إصلاح أسوار مدينته، حتى يأمنوا مكر الصليبيين والإفرنجة التواقين لإعادة احتلال المنطقة ونشر المسيحية فيها.
إلى جانب ذلك، حرص علي بن يوسف على توسيع مراكش حتى تضاعف حجمها عما كانت عليه عند إنشائها زمن والده، وأنشأ بها جامع يؤدي وظيفتين: الوظيفة الدينية التعبدية، والوظيفة التعليمية والقصر المرابطي.
من إنجازات أمير المسلمين علي بن يوسف أيضًا إنشاءه نظام السقاية في مراكش، وهو مشروع أداره المهندس عبيد الله بن يونس، واعتمد فيه على القنوات حتى يصل الماء للأهالي نظرا لقلة الماء في مراكش لطبيعتها شبه الصحراوية، كما قام علي ببناء أول جسر فوق نهر تانسيفت.
كما ضربت السكة في عهد علي بن يوسف في مراكش، ووجدت أيضا دور لسكّ النقود خارج العاصمة، كما هو الحال في غرناطة واشبيلية وفالنسيا والمرية وتلمسان، أي أنه وزّع دور سكّ النقود على مناطق سلطة وامتداد وغنى الدولة المرابطية،
ومواصلة لعمل والده، اتبع أمير المسلمين علي بن يوسف نظامًا ماليًا يقوم على قواعد الدين الإسلامي الحنيف، فلم يفرض إلا ما أوجبه حكم الإسلام من الزكاة والعشر والجزية وأخماس الغنائم، فيما واصل الغاء المكوس والضرائب والرسوم المنافية للدين.
بداية تزعزع المرابطين
امتد سلطان دولة المرابطين في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف إلى حدود بجاية وتوسعت شمالا وشملت كل الأندلس باستثناء فالنسيا أما جنوبا فتمددت وشملت أجزاء واسعة من غرب أفريقيا (جزءًا من مالي والسنغال)، وحافظت على حكم كل مساحة المغرب الأقصى وموريتانيا.
لكن لكل صعود قوي انتكاسة، فلما اشتد عود دولة المرابطين عادت بعض العادات السيئة للظهور في المجتمع مجددا وقد تغافل عنها أمير المؤمنين الذي ركز على الجهاد والعبادة وأهمل أمور الرعية وأوكلها لقضاة زادت ثروتهم وبطشهم.
تتالت خسائر المرابطين وبدأ ملكهم ينحسر وعرفت البلاد أحداثا مأساوية منها حدوث سيل عظيم بطنجة سنة 532 هجري، وهجرة أعداد كبيرة من أهل المغرب إلى الأندلس سنة 535
وفي سنة 515 هجري، قام محمد بن عبد الله بن تومرت المتسمي بالمهدي بالدعوة في صورة آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، وكان أمير المسلمين في ذلك الوقت في الأندلس، ولما بلغه أمر بن تومرت عاد مسرعا إلى المغرب للنظر في الأمر.
اختار أمير المؤمنين في البداية أن يناظر الفقهاء بن تومرت، لعلهم يبطلون دعواه، إلا أنه تفوّق عليهم فنفاه خارج مراكش ليعلن بن تومرت بعد ذلك بطلان بيعة علي بن يوسف وجمع حوله عدد من الأتباع دعهم لخلع طاعة أمير المسلمين، معلنا أنه المهدي المنتظر.
اضطر أمير المؤمنين لإرسال الجيوش لمحاربة بن تومرت، لكن جميعها انهزم، ولم تأت سنة 518 هجري إلا وقد كانت سائر بلاد السوس قد دانت لابن تومرت وجماعته التي سماها الموحدين، وبلغوا مركز حكم المرابطين وحاصروه.
سنة 524 هجري، التقى الفريقان في معركة كبيرة عُرفت بمعركة البحيرة انتهت بهزيمة ساحقة للموحدين وقُتل قادتهم وفي نفس السنة توفي ابن تومرت مريضا وخلفه عبد المؤمن بن علي الذي واصل قتال المرابطين والاستيلاء على مدنهم وحصونهم.
تتالت خسائر المرابطين وبدأ ملكهم ينحسر وعرفت البلاد أحداثا مأساوية منها حدوث سيل عظيم بطنجة سنة 532 هجري، وهجرة أعداد كبيرة من أهل المغرب إلى الأندلس سنة 535 هجري لتتالي انتصارات الموحدين وتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
اضطر أمير المسلمين لاستدعاء ولده تاشفين من الأندلس سنة 532 هجري لمواجهة خطر الموحدين لكنه كان قد تأخر، وفي سنة 537 هجري توفي أمير المسلمين فبكاه العامة والخاصة لما عرف به من خصال حميدة.