كشف مساعد قائد الجيش السوداني وعضو مجلس السيادة، الجنرال ياسر العطا، عن نوايا الجيش لمرحلة ما بعد الحرب، فهل تقبل القوى السياسية بتموضع العسكر في سدة الحكم لأعوام جديدة؟
أكد العطا في تصريحات خلال تفقده لمواقع عسكرية متقدمة، أنَّ القوات المسلحة ستعمل على تجاوز القوى السياسية خلال مرحلة التأسيس التي تمتد لسنوات، قائلًا: “بعد الانتصار القريب جدًا على مليشيا الدعم السريع، سنعمل على فترة تأسيسية لعدة سنوات دون أي حاضنة سياسية“. وأوضح أن تلك المرحلة، ستكون خالية ممن وصفهم بالعناصر “العميلة والمرتزقة وخونة الأوطان”.
وتخطت معركة كسر العظم بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع عامها الأول، مخلفةً ما يزيد على 14 ألف قتيل، مع إرغام 10 ملايين سوداني على مغادرة منازلهم، علاوةً على الأضرار غير المسبوقة التي طالت قطاع البنى التحتية.
مقاربة عسكرية
قبيل تمحيص أحاديث العطا المصبوغة بمساحيق السياسة الفاقعة، يلزمنا النظر إليها بتليسكوب المعركة والميدان، ونرى أن رؤية الجنرال تقوم أساسًا على فرضية انتصار الجيش في المعركة القائمة، وهو أمر يستدعي التساؤل الأعظم عن قدرة القوات المسلحة على إنفاذ شعاراتها بشأن الحسم العسكري.
وتستعد مليشيا الدعم السريع لشن هجوم كبير على مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، غربيِّ السودان، لتضمن بسط سيطرتها على كامل الإقليم الذي تعادل مساحته فرنسا.
وتمسك الدعم السريع بمقاليد أجزاء واسعة من إقليم كردفان المجاور لدارفور، وتبسط يدها على غالبية أراضي ولاية الجزيرة وسطيِّ البلاد، مع وجود مهم في قلب العاصمة المثلثة الخرطوم.
في المقابل، يسيطر الجيش تقريبًا على ولاية النيل الأبيض (وسط)، ويبسط كامل نفوذه على ولايات شرق السودان، وولايتي نهر النيل والشمالية، وتحرز قواته تقدمًا ملحوظًا في محاور القتال بالخرطوم، لا سيما في مدينة أم درمان.
ولمقاربة تصريحات العطا السياسية والواقع في الأرض، يرى المحلل السياسي أشرف علاء الدين، أن تصريحات العطا تقرأ في عدة سياقات، أهمها المتصل برفع الروح المعنوية للجنود.
وقال لـ”نون بوست” إن قادة الجيش درجوا على مخاطبة الجنود بطريقة حماسية، منبهًا إلى أن نقل ما يدور في غرف التفاوض من صفقات وتنازلات قد يفت من عضد المقاتلين.
ونوه إلى تورط قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح البرهان، في ذات النوعية من الخطابات، إذ يحدث جنوده بلسان الميدان، فيما يحدث الوسطاء والمفاوضين بأحاديث دبلوماسية.
وبسؤاله عن بقية السياقات التي يقرأ فيها الخطاب، أشار علاء إلى أن أحاديث العطا تأتي متسقة مع مواقفه الداعية للمضي في الحرب حتى آخر الشوط، مع تبيان كراهته الشديدة لكل داعمي قوات الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وحتى لدعاة رفض الحرب باعتبار أن موقفهم يرقى إلى درجة الخيانة العظمى.
مساق السياسة
بحال انتصر الجيش في معركته المقبلة، كيف سيدير شؤون البلاد؟ الإجابة يمكن انتزاعها من ذات تصريحات العطا، حين قال: “سنقود تأسيس الدولة على أطر وطنية صحيحة، لا للعمالة، لا للارتزاق، لا لخونة الأوطان، وكل من أخطأ في حق الوطن سيحاسب”، وتابع “الحاضنة السياسية ستكون الشعب السوداني، والمقاومة الشعبية الفتية”.
يعود أشرف علاء الدين، ويلفت إلى أن أحاديث العطا تكشف عن نوايا الجيش بالإمساك بمقاليد الحكم في ما يصفها بمرحلة التأسيس، مع إبعاد القوى السياسية، خاصة قوى الحرية والتغيير التي يقول قادة الجيش بتماهي مواقفها مع الدعم السريع.
المعركة الأساسية للقوى المدنية في الوقت الحالي، تتمثل في وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، واستعادة مسار التحول المدني، إضافة إلى تأسيس جيش مهني قومي وموحد، ينأي بنفسه عن المشاركة في العمل السياسي والاقتصادي
وأطاح العسكر في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بالحكومة المدنية، بقيادة عبد الله حمدوك، وقادة الحرية والتغيير، بعد أقل من ثلاثة أعوام على عزل الجنرال عمر البشير.
وأوضح علاء أن أحاديث العطا عن تشكيل حاضنة سياسية من الشعب والمقاومة الشعبية المكونة في الأصل من عناصر مدنية مسلحة تنشط تحت إمرة قادة الجيش، يدلل على اتجاه العسكر للانفراد بالسلطة مستقبلًا، تحت ذرائع السيادة وإبعاد الخونة وفرض الأمن.
وقال بصورة حاسمة، إن العسكر – حال الانتصار في الحرب – سيؤسسون لديكتاتورية قابضة، يساعدهم في ذلك قناعات شعبية ناهضة على ما عانوه من فظائع الحرب، بأن الأمن مقدم على الحرية.
رأي الساسة
كيف ينظر الساسة لتصريحات العطا، بشأن مرحلة انتقالية يديرها العسكر؟ يقول القيادي البارز في تنسيقية القوى الديموقراطية (تقدم)، محمد عبد الحكم، لـ”نون بوست”، إن أحاديث العطا تؤكد أن انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول وحرب 15 أبريل/نيسان، نتاج سعي المؤسسة العسكرية للانفراد الكامل بالسلطة، وتأسيس وضع ديكتاتوري جديد.
وعن موقفهم من التصريح، أشار إلى أن جُل الشعب السوداني – حد قوله – له موقف واضح ومعادٍ للشمولية، وقدم في سبيل الحكم المدني وقيمه أثمانًا باهظة ممثلة في مئات الشهداء وآلاف الإصابات.
وشدد على أن المعركة الأساسية للقوى المدنية في الوقت الحالي، تتمثل في وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، واستعادة مسار التحول المدني، إضافة إلى تأسيس جيش مهني قومي وموحد، ينأي بنفسه عن المشاركة في العمل السياسي والاقتصادي.
موقف الحلفاء
مع وضوح مواقف الجيش، والقوى المدنية المعارضة للحرب، يكون السؤال الأهم: كيف ينظر حلفاء الجيش أنفسهم، لأحاديث العطا عن مرحلة ما بعد الحرب؟
يرى القيادي الشاب في حركة تحرير السودان، علي عيسى، أن تصريحات العطا موجهة في الأساس إلى عناصر الحرية والتغيير، وتنسيقية تقدم.
وقال لـ”نون بوست” إن اصطفاف القوى الوطنية والجيش ضد المخططات الدولية التي تنفذها المليشيا وذراعها السياسية ممثلة في قوى الحرية والتغيير وتنسيقية تقدم، كان أمرًا سابقًا للحرب.
وشدد على أن مواقفهم ظلت وطنية خالصة، ولم تكن يومًا للمساومة في مزادات الحكم والسلطة، وإن عاد ونبه إلى جاهزيتهم للمشاركة في التأسيس لفترة انتقالية ترسم ملامح المستقبل مع من وصفهم بالحادبين على مصلحة الوطن.
وفي ذات المسار، أمّن الخبير العسكري، سيد أحمد وداعة، على مذهب العطا بشأن ضرورة إشراف الجيش على فترة انتقالية، تؤسس لملامح الدولة الوطنية، قائلًا لـ”نون بوست” إن الحرب كشفت بوضوح عن تحالفات بين المليشيا وداعميها من الساسة لتولي السلطة بقوة الانقلاب، ومن ثم تفكيك الجيش الوطني، وتسليم البلاد لقمة سائغة لأعدائها.
وأوضح أن المخطط التدميري الكبير يستدعي استمرار الجهة التي عملت على إفشاله في مسؤولياتها التي تتضمن محاسبة من وصفهم بـ”الخونة” وضمان عدم وجودهم في أي صيغ للحكم من أجل مستقبل السودان، مع جعلهم عبرة لكل من تسول له نفسه خيانة الوطن.
ويبدو أن خلافات السودانيين التي أدت إلى إشعال الحرب سابقًا، ومستمرة في تزويدها بالحطب حاليًا، تنذر بمستقبل مليء بالحرائق.