بين أشجار الزيتون في جامعة بيرزيت وسط الضفة المحتلة، نُصب ضريح شهداء الجامعة، وينقش عليه باستمرار أسماء الطلبة الشهداء الضين بلغ عددهم 31 شهيدًا حتى اليوم، أولهم شرف الطيبي أول طالب يرتقي في جامعة بيرزيت عام 1984، مرورًا بشهيدها المهندس يحيى عياش.
ويزداد عدد شهداء الحركة الطلابية في جامعة النجاح بمدينة نابلس شمال الضفة المحتلة، ليصل إلى أكثر من 40 شهيدًا قدمتهم النجاح وحدها، بينما قدمت الحركات الطلابية الفلسطينية في عموم فلسطين أسرى ومعتقلين، وخرجّت مقاومين وأعضاء مكاتب سياسية للفصائل الفلسطينية.
ومع تصاعد هتافات رفض الإبادة الجماعية في الجامعات الأمريكية، وانتقال حملة “سحب الاستثمارات الأكاديمية والثقافية من إسرائيل” ووقف تسليح جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى دول أوروبية، بدأت الأنظار تتجه نحو طلبة الجامعات الفلسطينية في الضفة المحتلة، ودورهم في ظل حرب الإبادة الشاملة على الفلسطينيين.
ومع دعوات متكررة أطلقتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة للفلسطينيين في الضفة المحتلة للاشتباك والتصعيد ضد الاحتلال الإسرائيلي، ورغم الاستجابة البسيطة في عمليات فردية، كان السؤال الدائم: أين طلبة الضفة المحتلة؟ وهم الذين يأخذون كل عام أضواء الانتخابات الطلابية لمجالس الطلبة، هذه الانتخابات التي تشكل الساحة الوحيدة للاستفتاء على خيار المقاومة من خيار “أوسلو” بين الشباب الفلسطيني.
إذابة الهوية الطلابية
بعد قدوم السلطة الفلسطينية ومشروعها في اتفاقية أوسلو عام 1993، تأثرت الحركة الطلابية الفلسطينية كغيرها من الحراكات والشرائح المجتمعية الفلسطينية بتيار التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي، إما تأثرًا أفضى إلى التضييق على عناصرها، وإما تأثرًا أذابها في رؤية “أوسلو”، وجردها من مبادئها التي كانت تقوم عليها.
وقد عزز النهج الذي تبنته السلطة الفلسطينية الاندماج الاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي، وعمّق الفردانية والثقافة الاستهلاكية، وسيطرة المصالح الشخصية على الهم الجماعي، كما ساهم في تعزيز التحول البنيوي الانتشار الكبير للمنظمات غير الحكومية التي حاولت إعادة صوغ المفاهيم الوطنية بما ينسجم مع التوجهات السياسية التي تبنتها اتفاقيات أوسلو، بذلك أدت البنية الاجتماعية التي ولدتها أوسلو إلى توسيع تناقضات الحركة الطلابية مع محيطها، وتدهور نشاطاتها وفعالياتها.
وكغيرها من المؤسسات، كانت الجامعات تسعى للتشبيك والانضمام في نهج السلطة الفلسطينية، ليس بسبب الحصول على التمويل من المانحين، بل أيضًا لضمان بقائها ضمن الموجة السائدة، الأمر الذي أثر في فلسفتها ودورها الوطني على صعيد بناء الثقافة الوطنية لدى الطلبة، ومحاولة الجامعات فصل الحركة الطلابية عن بعدها السياسي، مثلًا، بمنع ما تسميه “مظاهر العسكرة”.
بالتوازي مع ذلك، بدأت الحركة الطلابية، التي استعادت بعضًا من مركزيتها عام 2000 إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بالاندماج – بشكل عام – مع فكرة تقزيم دورها من صناعة الوعي وقيادة الحركات الطلابية في النضال الفلسطينية، إلى كتل خدماتية، همها في الدرجة الأولى أن تقدم للطلاب الخدمات في إطار المؤسسة التعليمية، والخوض في عراكات الرسوم الدراسية مع الجامعة وخوض الإضرابات لأجل ذلك، ثم وضعت في المركز الثاني دورها الوطني والسياسية.
بين المقاومة والتنسيق الأمني
رغم محاولات إذابة الهوية وتحجيم دور الحركات الطلابية في الجامعة الفلسطينية إلى وظائف خدماتية، بقي الصراع واضحًا والتباينات جلية بين تيارين أساسيين من الطلبة: الشبيبة الطلابية الجناح الطلابي لحركة فتح، والكتلة الإسلامية الجناح الطلابي لحركة حماس، والذي انعكس الانقسام الفلسطيني على خطابهما الطلابي ليتوافق مع الرؤى السياسية الكبرى بين تياري “المقاومة والتنسيق الأمني”.
ويمكن أن يكون الشهيد خليل الشريف، أحد شهداء بيرزيت المثال الواضح على هذا الصراع، فقد كان المنسق والمتحدث باسم حركة الشبيبة الطلابية – فتح – في الجامعة، حين اعتلى عام 1993، بالضبط بعد إعلان “أوسلو”، منصة الكتلة الإسلاميّة – حماس – خلال الانتخابات الطلابية، وقال: “إخوتي، أقف أمامكم اليوم، ولكن ليس على منصتكم، وإنما على منصةٍ أخرى، أتحدث إليكم بعد أن كنتُ أتحدث باسمكم للآخرين.. لا أقول لكم إنني أرى ما لا ترون، أو أن هذه محاولة لإرضاء أحد، ولكن هذه محاولة للفت أنظاركم للحقيقة التي ترونها وتسمعونها، ولكنكم تصرون على تجاهلها… فهذا هو صوتكم، وليس صوت أوسلو ولا مدريد.. إخوتي، الطريق واضحة، والشمس لا يمكن أن يحجبها الغربال، فإما أن تتكلموا اليوم أو تصمتوا إلى الأبد”.
بعد خطابه، وإعلان انضمامه إلى حركة حماس، بدأت سلسلة الملاحقات من السلطة الفلسطينية، التي كان ناطقًا باسم حركتها الطلابية قبل ذلك، إلى أن نفذ عمليته الفدائية في سبتمبر/أيلول 1997، في سوق “محنيه يهودا” الإسرائيلي بمدينة القدس، حين فجر، رفقة شهيدين فلسطينيين أنفسَهم وسط جمعٍ من الإسرائيليين، كانت حصيلته النهائيّة مقتل 5 إسرائيليين وإصابة 190 آخرين، واستشهاد الشبّان الثلاث.
التضييق والاعتقال
تتناوب السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي على اعتقال طلبة الجامعات لا سيما المؤثرين والناشطين في الحركات الطلابية، ويقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 150 طالبًا وطالبة من جامعة بيرزيت وحدها، نصفهم اعتقل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وبعد طوفان الأقصى، بدلت جامعة بيرزيت 3 رؤساء مجالس طلابية، بعد أن اعتقلت قوات الاحتلال رؤساء المجلس الذين يمثلون الكتلة الإسلامية الفائزة في الانتخابات الأخيرة، أما في جامعة النجاح، فيغيب أغلب أعضاء المجلس الذين يتبعون للكتلة الإسلامية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وكانوا قبل طوفان الأقصى في مطاردة مفتوحة مع السلطة الفلسطينية، بعد أن فازت حماس بانتخابات جامعة النجاح للمرة الأولى منذ عام 2007.
وليس بعيدًا عن نابلس، حيث الجامعة العربية الأمريكية، قبل شهرٍ واحدٍ من طوفان الأقصى، اعتقلت السلطة الفلسطينية الطالب أمين عرايشي بسبب محاولته إعادة تفعيل نشاط الكتلة الإسلامية في الجامعة، قبل أن يعتقله الاحتلال في فبراير/شباط 2024.
وبحسب مجموعة “محامون من أجل العدالة” الحقوقية فإن العرايشي توجه إليها من أجل الإسناد القانوني في الجهود المبذولة، مع إدارة الجامعة، للموافقة على إعادة تنشيط الجسم النقابي للكتلة الإسلامية، لكن الجامعة طلبت الحصول على 300 توقيع من طلاب أعضاء في الكتلة الإسلامية، وبعد العودة لدستور الجامعة تبيَن أن هذا الشرط غير موجود، بالإضافة إلى أن الظروف الأمنية الحساسة التي يتعرض إليها الطلاب في الضفة المحتلة للملاحقة من الاحتلال على خلفية نشاطهم النقابي، تجعل هذه الشروط صعبة.
مع ذلك.. التقصير واضح
بين التضييق والاعتقال ومحاولات سلخ الحراك الطلابي عن دوره الوطني والسياسي، لا يمكن أن يكون السببان الأساسيان مبررًا للتقصير الواضح من الحركة الطلابية الفلسطينية في الجامعات، التي لم تستطع أن تحشد لمظاهرة بربع عدد المظاهرات في الولايات الأمريكية والدول الأوروبية.
بقراءة أعم وأشمل، يمكن النظر إلى تقصير الحركة الطلابية الفلسطينية إلى مجمل أداء الضفة المحتلة خلال حرب الإبادة الجماعية، التي أخذت وضع الترقب لما سيحدث في غزة، دون أن تأخذ زمام عمليات مقاومة مكثفة ضاغطة على الاحتلال الإسرائيلي وإجراءات ضد السلطة الفلسطينية التي تحمي ظهر “إسرائيل”، ولم تستجب لنداء قائد الأركان في كتائب القسام خالد الضيف في يوم العبور الكبير في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولا لنداءات الناطق العسكري أبو عبيدة.
وحالة الترقب لم تقتصر على الجامعات وحدها، والمخزون الشبابي فيها، بل امتدت إلى نقابات منتخبة ومجالس بلدية كانت محسوبة على فصائل إسلامية ويسارية، وفازت مجالس إدارتها بعد تبنيهم خطابًا وطنيًا معارضًا للسلطة الفلسطينية، لكنها غابت عن المشهد بعد بدء حرب الإبادة، ولم تمارس دورها الحقيقي في إشعال جبهة الضفة المحتلة بما يرهق الاحتلال ويخفف الضغط عن قطاع غزة.