معاناة الحرب لم تنته بالنسبة لبعض الغزاويين الذين استطاعوا الهروب من حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع إلى مصر، حيث تنتظرهم حياة مجهولة المعالم، في ظل انعدام الخيارات، إذ كانت الأولوية النجاة من القصف الإسرائيلي والمجاعة.
جرت العادة، أن يختم الفلسطيني جواز سفره عند الوصول إلى القاهرة من “العباسية” – الإدارة العامة للجوازات- ليمنح إقامة مدتها 45 يومًا، وبعد تلك الأيام يبقى وجوده غير قانوني حال لم يجد سببًا لإقامته إما العمل أو الدراسة.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية دخل إلى مصر نحو 100 ألف من سكان قطاع غزة، معظمهم يفتقر إلى الوثائق اللازمة لسير أمورهم الحياتية من تعليم وعلاج وفتح حسابات في البنوك، عدا عن أوضاعهم النفسية القلقة لعدم معرفتهم مستقرهم أو وجهتهم النهائية، فالمدة قد تطول لأشهر أو أكثر دون أن يعرف أحد مصيره.
تجدر الإشارة إلى أن غالبية من وصلوا مصر يقيمون في مدينة نصر والرحاب ومدينتي و6 أكتوبر، وعدد قليل ذهب إلى الإسماعيلية والزقازيق والمدن الصغيرة حيث يقيم أبناءهم طلبة الجامعات.
ووفق ما أعلنته السفارة الفلسطينية بمصر، فإنها تسعى لاستصدار تصاريح إقامة مؤقتة لعشرات الآلاف الذين وصلوا من غزة جراء الحرب الإسرائيلية، قائلة إن تلك التصاريح ستخفف الظروف بالنسبة لهم حتى انتهاء الصراع، كما يذكر أن السفارة قدمت دعمًا ماليًا متواضعًا – حوالي 4 آلاف جنيه – لعدد قليل من الأشخاص ولمرة واحدة، وبالكاد يكفي إيجار شقة لشهر واحد.
أهل غزة: الخوف والقلق يراودنا وأوروبا وجهتنا
قبل شهر ونصف وصلت رشا فرحات برفقة أولادها الأربعة دون زوجها إلى القاهرة، تدرك كما ذكرت أنها منذ تخطيطها للتنسيق والسفر أن وجودها في مصر ليس ككل مرة تأتي فيها لقضاء إجازة صيفية، إذ تقول لـ “نون بوست”: “كفلسطينيين مخاوفنا أكبر من أي أحد كون لا وطن لنا (..) وحين قررت السفر كان خوفا على أولادي من القصف، ومع ذلك زالنا نشعر بالخوف والقلق، كما يعاني الأولاد من الاكتئاب عدا عن مشاكلهم فهم ينفثون غضبهم ببعضهم، وكل واحد منهم يشعر أن مستقبله انتهى”.
تحاول فرحات أن تقضي على مخاوف أولادها، لكنهم يرفضون هذه المحاولات، فابنتها، طالبة هندسة، ترفض الالتحاق بجامعة مصرية لمزاولة تعليمها وتنتظر العودة إلى غزة بعد الحرب لاستكمال دارستها الجامعية.
تعلق الأم: “الأولاد يرفضون التعليم في مصر، كما لدينا مخاوف من البقاء بشكل غير قانوني لعدم وجود إقامات، فكل ما يشاع عن منح إقامات إنسانية هو مجرد أخبار”.
وتضيف أنها تحاول دمج أبناءها في الحياة المصرية، لكن لا بد من الحصول على إقامة تمكنهم من العثور على وظيفة واستكمال مسيرتهم التعليمية، وإلا لن يبقى لديهم خيارًا آخر سوى التسجيل ببعض المدارس السورية واليمنية التي لا تمنح شهادة رسمية.
تثير هذه المسألة قلق مئات الأسر الفلسطينية في مصر، إذ ضاعت سنة تعليمية على أبنائهم، بخلاف طلبة آخرين كانوا أكثر حظًا لحملهم الجنسية المصرية التي اكتسبوها من جداتهم أو أمهاتهم.
أما الشاب سامر (29 عامًا) وصل برفقة عائلته منذ أسابيع إلى القاهرة، بعد أن نزح من حي الشجاعية إلى الجنوب منذ بداية الحرب، وكان قد أصيب في قدمه وتماثل للشفاء، ويقول:” قبل خروجي من غزة خططت للهجرة إلى أوروبا (..) تواصلت مع شاب في كندا يساعد في عمل “فيز مضروبة” ودفعت له 4 الاف دولار”.
ورغم حماسه ولهفته للسفر إلى كندا، يضيف سامر:” أسعي إلى الحصول على جنسية أجنبية، وسأعود بعدها إلى غزة، وفي حال نشبت حرب جديدة ستساعدني الجنسية في الخروج إلى بر الأمان، كما حصل مع العشرات من أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين أجلتهم سفارات بلادهم في القطاع”.
ويحكي سامر أن سفره لم يأت من فراغ، فقد خسر شقة العمر التي كان يؤسسها ليتزوج، وكذلك مشروعه الذي تعب عليه سنوات طويلة وكان عبارة عن شركة للاستشارات الإعلامية.
ورغم أن العشرات من الأسر الغزية تسعى إلى الهجرة لأوروبا، إلا أن هناك العشرات من الشباب وقبل خروجهم من قطاع غزة اختاروا أن تكون وجهتهم سلطنة عُمان، كما الشاب رمزي إسماعيل الذي أخبر “نون بوست” أنه خسر شركة الأدوية التي يمتلكها في مدينة غزة، وبعد البحث والتنسيق أدرك أن عُمان قد تكون المستقر الأنسب له ولعائلته.
ويوضح أنه حصل على فيزة إلكترونية بعدما تقدم للحصول على سجل تجاري كلفته نحو 2500 دولار، ثم وصل إلى عُمان وحده وينتظر خلال الأيام المقبلة الحصول على إقامة مدة سنتين، ومن ضمنها العلاج والتعليم مجاني.
ويشير إلى أنه خلال الأسابيع المقبلة سيرسل دعوة لزوجته وصغاره الثلاثة من مصر، مضيفًا: “ضاع عام دراسي على أولادي، إذ لم ينجحوا في الالتزام بحضور دروس التعليم عن بعد، ويجب أن نعوض كل ما فاتهم بأسرع وقت ممكن”.
الإقامة الإنسانية في مصر
إن كانت أحلام شباب غزة الذين قرروا الخروج منها وقت الحرب لتكون وجهتهم أوروبا وكندا وسلطنة عُمان، فإن كبار السن الذين وصلوا إلى مصر لا يريدون سوى حياة آمنة لهم، ويطمحون في الحصول على إقامة إنسانية، كحال الستيني أبو سعيد، وهو موظف متقاعد من وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، قصف بيته، واضطر إلى النزوح جنوبًا ووقتها اعتقل ابنه مدة شهرين من على حاجز صلاح الدين شرق القطاع.
يقول لـ “نون بوست” إنه فور حصوله على إقامة إنسانية سيتملك منزلًا ولا ينوي العودة إلى غزة، لكنه في ذات الوقت سيخصص مبلغًا ليرسل ابنه الوحيد إلى أوروبا بطريقة قانونية، فهو كاد أن يخسره مرتين خلال الحرب الأولى عند إصابته والثانية وقت اعتقاله.
ويعلق: الحياة في مصر لرجل في عمري جيدة، خاصة وأني درست فيها، وتفاصيلها بالنسبة لي ليست صعبة (..) أريد أن أقضي بقية حياتي بهدوء دون الخوف من موت أو نزوح أو خسارة أحد الأبناء أو الأحفاد”.
ويتابع:” لا أخفيكم أنني أشعر بالقلق، أظن أني في كابوس مزعج (..) الأخبار ترهقني لا أصدق الحرب التي وقعت وكان ضحيتها الأطفال”.
أما عن علاج أهل غزة في مصر، يضطر العشرات منهم للعلاج في عيادات ومستشفيات خاصة على حسابهم الشخصي، كما ويوجد بطرق غير رسمية فرقًا شبابية ترعى مبادرات علاجية، حيث يغطون تكلفة بعض العمليات من خلال متبرعين فلسطينيين يقيمون في أمريكا وأوروبا.
ومن ضمن الشباب القائمين على إحدى مبادرة دعم المرضى، شاب فلسطيني يدعى غسان، يتردد على المستشفيات ويقدم المساعدات الطبية للمحتاجين، بما يشمل توفير أطراف صناعية وكراسي متحركة وكذلك لوازم حياتية.
ولفت الشاب المتطوع إلى أن فريقه يحاول الحصول على ترخيص ليكون عملهم رسميًا، لكن كل شيء مرتبط بالحصول على الإقامة، موضحًا أن كثير من الأطباء المصريين يعرضون خدماتهم بشكل مجاني، عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب.
القاهرة لم ترد حتى اللحظة
يقول أحد العاملين في السفارة الفلسطينية – رفض الكشف عن اسمه- إن السفارة خاطبت الجهات الرسمية لإيجاد صيغة تقنيين لأوضاع الغزيين، لاسيما وأن هناك توافقًا مصريًا فلسطينيًا لعدم منح الكرت الأصفر للفلسطيني كما السوري أو السوداني، كون ذلك يدعم مخطط التهجير.
ولفت إلى أن السفارة تعمل على إيجاد حل لإعطائهم وضعًا قانونيًا، كالإقامة الإنسانية لتمكنهم من الحصول على حقوقهم في التعليم والعلاج وفتح حسابات مصرفية لتسيير أمورهم الحياتية.
وأشار موظف السفارة إلى أنه رغم انقضاء مدة الإقامة التي تمنح للفلسطيني فور وصوله، وهي 45 يومًا، إلا أنه لم تسجل حالة ترحيل لأي فلسطيني، في الوقت نفسه أكد أن هناك العشرات ممن عبروا مصر وقت الحرب عادوا إلى قطاع غزة، فقد جاءوا لتوصيل أبنائهم من أجل محاولة استكمال تعليمهم أو علاجهم، والعودة إلى مصالحهم أو رعاية ذويهم من كبار السن.
بدوره قال دياب اللوح، السفير الفلسطيني في القاهرة، إن ما يصل إلى 100 ألف من سكان غزة عبروا الحدود إلى مصر، حيث يفتقرون إلى الوثائق اللازمة لتسجيل أطفالهم في المدارس أو إنشاء شركات أو فتح حسابات مصرفية أو السفر أو الحصول على تأمين صحي، على الرغم من أن بعضهم وجد وسائل لكسب الرزق.
وشدد اللوح في مقابلة مع “رويترز” على أن تصاريح الإقامة لن تكون إلا لأغراض قانونية وإنسانية، مضيفًا أن أولئك الذين وصلوا منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليست لديهم خطط للاستقرار في مصر، وأضاف: “نحن نحكي عن فئة في ظرف استثنائي، طلبنا من الدولة منحهم إقامات مؤقتة قابلة للتجديد لحين انتهاء الأزمة في غزة”.
حتى اللحظة، لم ترد الهيئة العامة للاستعلامات على الفور على طلب التعليق، فيما يتخبط الغزاوي في مصر من قلقه بشأن مستقبله، فلا العودة ممكنة حاليًا، ولا البقاء مسموحًا، كما أن السفر مجددًا إلى وجهة جديدة ليست خيار جميع المنكوبين في الحرب.